ما حكم قراءة القرآن الكريم من المصحف في صلاة التراويح؟ فأنا أريد ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك، ولكني لا أحفظ القرآن الكريم كاملًا، فهل يجوز لي القراءة من المصحف الشريف في الصلاة؟
ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح هو أمرٌ محمود، وفعلٌ مرغوب، وسُنة متبعة، ويجوز شرعًا الاستعانة على تحصيل ذلك بالقراءة من المصحف ولا حرج في ذلك.
المحتويات
اتفق الفقهاء على أنَّ صلاة التراويح سُنةٌ مؤكدةٌ للرجال والنساء، حَثَّ عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من موضع في سنته الشريفة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفقٌ عليه.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أخرجه الإمام النسائي في "سننه".
قراءة القرآن الكريم لها فضل كبير وثواب ختمه عظيم؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﴿الٓمٓ﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» أخرجه الإمام الترمذي في "سننه".
وأخرجه الإمام الدارمي في "سننه" بلفظ: «تَعَلَّمُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِتِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ بِـ﴿الٓمٓ﴾، وَلَكِنْ بِأَلِفٍ، وَلَامٍ، وَمِيمٍ؛ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ».
وهذا الأجر والثواب لمن قرأ القرآن في غير رمضان، فإذا كانت القراءة في رمضان كان الأجرُ أكبرَ والثوابُ أعظمَ؛ فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ» أخرجه الإمامان: ابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
من المقرر شرعًا أن أفضل قراءة للقرآن الكريم ما كانت في الصلاة؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّسْبِيحُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ» أخرجه الإمام البيهقي في "شعب الإيمان".
وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَ وَهُوَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ فَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَشْرُ حَسَنَاتٍ" ذكره حجة الإسلام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 275، ط. دار المعرفة)، وأخرجه الإمام أبو القاسم تمَّام في "فوائده" مطولًا عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعًا.
قال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 103، ط. دار الفكر): [اعلم أن أفضل القراءة ما كَانَ في الصلاة، ومذهب الشافعي وآخرين رحمهم الله: أنَّ تطويلَ القيام في الصلاة بالقراءة أفضلُ من تطويل السجود وغيره] اهـ.
"وذلك لأنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لما يحصل للقلب فيها من الخشوع والخضوع، ولا شك أنَّ في القراءة مع ذلك استغراق القلب في تدبر القرآن، الموجب لمزيد الإقبال على الله تعالى، والتخلق بالأخلاق العالية، ما ليس في القراءة خارج الصلاة"؛ كما قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "فتح الإله في شرح المشكاة" (7/ 167، ط. دار الكتب العلمية).
ولما كانت قراءة القرآن في الصلاة أعظم أجرًا وأكثر ثوابًا من القراءة خارجها؛ استحب العلماء ختم القرآن في الصلاة؛ حتى يتحصل في ختمه على أفضل الأجر وأعظمه.
قال الإمام النووي في "المجموع" (2/ 168، ط. دار الفكر): [(فرع) في آداب ختم القرآن: يستحب كونه في أول الليل أو أول النهار، وإن قرأ وحده؛ فالختم في الصلاة أفضل] اهـ.
ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح سنة متبعة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسار عليها التابعون من بعدهم؛ فعن أبي عثمانَ النَّهدِيِّ قال: "دَعَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ قُرَّاءٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ، فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ لِلنّاسِ ثَلَاثِينَ آيَةً، وأَمَرَ أَوْسَطَهُم أَنْ يَقْرَأَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ آيَةً، وأَمَرَ أَبْطَأَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عِشْرِينَ آيَةً" أخرجه الإمامان: ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
قال علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/ 289، ط. دار الكتب العلمية) في بيان سنن صلاة التراويح: [ومنها: أن يقرأ في كلِّ ركعة عشر آيات؛ كذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وقيل: يقرأ فيها كما يقرأ في أخف المكتوبات؛ وهي المغرب، وقيل: يقرأ كما يقرأ في العشاء؛ لأنها تبع للعشاء، وقيل: يقرأ في كلِّ ركعة من عشرين إلى ثلاثين؛ لأنه روي أن عمر رضي الله عنه دعا بثلاثة من الأئمة فاستقرأهم، وأمر أولهم أن يقرأ في كلِّ ركعة بثلاثين آية، وأمر الثاني أن يقرأ في كلِّ ركعة خمسة وعشرين آية، وأمر الثالث أن يقرأ في كلِّ ركعة عشرين آية.
وما قاله أبو حنيفة سُنة؛ إذ السُّنة أن يختم القرآن مرة في التراويح؛ وذلك فيما قاله أبو حنيفة، وما أمر به عمر فهو من باب الفضيلة؛ وهو أن يختم القرآن مرتين أو ثلاثًا، وهذا في زمانهم] اهـ.
أمَّا بخصوص القراءة من المصحف في صلاة التراويح: فالمختار للفتوى جواز القراءة من المصحف فيها بلا كراهة؛ لما أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه": "أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ الْمُصْحَفِ"، وفي رواية الإمام مالك في "الموطأ": "كَانَ يَقُومُ يَقْرَأُ لَهَا فِي رَمَضَانَ"، وأخرجه الإمام ابن أبي شيبة في "مصنفه" عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا عَنْ دُبُرٍ، فَكَانَ يَؤُمُّهَا فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 185، ط. دار المعرفة): [قوله: "فِي الْمُصْحَفِ" استدل به على جواز قراءة المصلي من المصحف] اهـ.
وقال بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (5/ 225، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: "مِنَ الْمُصْحَفِ" ظاهرُه يدل على جواز القراءة من المصحف في الصلاة] اهـ.
وقد نص على جواز القراءة من المصحف في صلاة التراويح جماعة من السلف الصالح منهم: ابن سيرين، والحسن، والحكم بن عتيبة، وإسحاق بن راهويه.
فعن عبد القُدُّوس بن حَبيبٍ، عن الحسن قال: سمعته يقول: "لَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ".
وعن أيوب قال: "كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُصَلِّي وَالْمُصْحَفُ إِلَى جَنْبِهِ، فَإِذَا تَرَدَّدَ نَظَرَ فِيهِ" أخرجهما الإمام عبد الرزاق في "مصنفه".
وعن شعبة، عن الحكم "سُئِلَ فِي الرَّجُلِ يَؤُمُّ فِي رَمَضَانَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ؟ رَخَّصَ فِيهِ" أخرجه الإمام ابن أبي شيبة في "مصنفه".
وجاء في "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" (2/ 845-846، ط. الجامعة الإسلامية) عن الإمام إسحاق قال: [وأما المصلي وَحْدَهُ وهو ينظر في المصحف أو يقلب الورق أو يقلب له، وكل ما كان من ذلك حين إرادة أن يختم القرآن، أو يؤم قومًا ليسوا ممن يقرؤون؛ فهو سُنةٌ؛ كان أهل العلم عليه، وقد فعلته عائشة رضي الله عنها، ومن بعدها من التابعين اقتدَوا بفعالها] اهـ.
وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
جاء في "المدونة" للإمام مالك (1/ 288، ط. دار الكتب العلمية): [لا بأس بقيام الإمام بالناس في رمضان في المصحف] اهـ.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي المالكي في "الذخيرة" (2/ 408، ط. دار الغرب الإسلامي): [ويجوز أن يؤم من المصحف في النافلة] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (4/ 95، ط. دار الفكر): [لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته؛ سواء كان يحفظه أم لا] اهـ.
وقال شمس الدين ابن قدامة الحنبلي في "الشرح الكبير" (3/ 659، ط. هجر): [(ويجوز له النظر في المصحف): يجوز له النظر في المصحف في صلاة التطوع؛ قال أحمد: لا بأس أن يصلي بالناس القيامَ وهو يقرأ في المصحف] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن ما ترغب فيه من ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح هو أمرٌ محمود، وفعلٌ مرغوب، وسُنة متبعة، ويجوز لك أن تستعين على تحصيل ذلك بالقراءة من المصحف ولا حرج عليك في ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.