ما حكم استخدام حقنة صبغة الباريوم الشرجية لفحص القولون أثناء الصيام؟ حيث يعاني أحد الأشخاص من إمساك مزمن، وطلب منه الطبيب القيام بعمل أشعة سينية على القولون لمعرفة سبب الإمساك، وتتطلب هذه الأشعة الحقن بصبغة الباريوم عن طريق الشرج؛ فهل الحقن بها أثناء الصيام يؤثر في صحة الصوم؟
قيام الشخص الذي يعاني من إمساكٍ مزمنٍ بعمل أشعة سينية على القولون للكشف عن مشاكل الجهاز الهضمي، وما يتطلب لذلك من الحقن بصبغة الباريوم عن طريق فتحة الشرج أثناء الصيام؛ لا يؤثر في صحة صومه، ولا حرج عليه.
المحتويات
الأشعة السينية: هي أشعة كهرومغناطيسية لديها القدرة على اختراق المواد غير الشفافة بصريًّا، وتستخدم في تصوير البنية الموجودة داخل الجسم خاصة العظام، وتعد صور الأشعة السينية للجسم أداة تشخيصية لا غنى عنها في الطب الحديث؛ حيث تفرق بسهولة بين العظام والأنسجة الرخوة، وقد يتم استخدام وسيط تبايني مثل (الباريوم (Barium -وهو مادة سائلة بيضاء اللون؛ وذلك لتوفير المزيد من تفاصيل البنية الموجودة داخل الجسم خاصة في الكشف عن مشاكل الجهاز الهضمي؛ وذلك عن طريق الشرب أو الإدخال من فتحة الشرج كحقنة شرجية؛ حيث إن عنصر الباريوم لديه القدرة على امتصاص الأشعة السينية أكثر من الأنسجة المحيطة بسبب الاختلاف الكبير بين العدد الذري للباريوم والعدد الذري الفعال للماء والأنسجة الرخوة، مما يؤدي إلى زيادة التباين والوضوح في صور الأنسجة. ينظر: "الأشعة السينية الفوائد والمخاطر" للدكتور صالح محمد المتولي (ص: 45-63، ط. مدينة الملك عبد العزيز للعلوم)، و"أمراض الجهاز الهضمي ومعالجتها" للدكتور أمين رويحة (ص: 51-52، ط. دار القلم).
وبذلك يتضح أن طريقة استخدام الطبيب لحقنة الباريوم الخاصة بالفحص المعوي السفلي لتصوير القولون والأمعاء الغليظة، تكون بإدخال أنبوب مُلَيِّن إلى مستقيم المريض عبر الشرج، ويتم ضخ السائل الذي يحتوي على الباريوم في القولون، كما يتم وضع بالون في مقدمة الأنبوب الذي يحتوي على مادة التباين، حيث يتم نفخه للمساعدة على الحفاظ على الباريوم داخل القولون، وأحيانًا يعطي الطبيبُ المريضَ حقنة شرجية لتفريغ القولون.
وقد نصَّ المالكية في مقابل المشهور على أن الاحتقان بالمائع في الدبر لا يفسد الصوم، وذهب طائفة من أئمة المذهب؛ كابن حبيب، وابن الجلَّاب، وابن عبد البر، واللخمي، إلى أن القضاء منها إنما هو على جهة الاستحباب لا الإيجاب؛ بناءً على التردد بين وصول المحتقَن به إلى الجوف من عدمه، وقد زال هذا التردد كما سنبيِّنُهُ فيما بَعدُ في ذكر ضابط الجوف عندهم، وهو أيضًا قول القاضي حسين مِن الشافعية، والشيخ ابن تيمية مِن الحنابلة، والإمام ابن حزم الظاهري.
ينظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" للإمام ابن عبد البر (1/ 345، ط. مكتبة الرياض)، و"مواهب الجليل" لشمس الدين الحطاب (2/ 424، ط. دار الفكر)، و"المجموع" للإمام النووي (6/ 313، ط. دار الفكر)، و"مجموع الفتاوى" للشيخ ابن تيمية (25/ 233-234، ط. مجمع الملك فهد)، و"المحلى بالآثار" للإمام ابن حزم (4/ 348، ط. دار الفكر).
كما أن عدم الفطر بهذا النوع من الحقن هو ما اقتضته عبارات ونصوص جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية في مقابل الأصح، والحنابلة، في سياق كلامهم عن الجوف وضابطه في الفطر؛ بأن يكون محلًّا للغذاء والدواء، ومن وظائفه القدرة على إحالتهما إلى ما ينفع الجسد؛ أي تحدث فيهما استحالة، و(الاستحالة): هي تَحَوُّل الأعيان وتغيُّر حقائقها عن طبيعتها وأوصافها إلى شيء آخر.
ينظر: "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندي الحنفي (1/ 356، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي المالكي (2/ 249، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (2/ 356، ط. المكتب الإسلامي)، و"الإنصاف" لعلاء الدين المرداوي الحنبلي (3/ 299، ط. دار إحياء التراث العربي).
الجوف على هذا النحو الذي قرره جمهور الفقهاء إنما يصدق على المعدة وما يليها من الأمعاء الدقيقة فقط -وفق ما استقرت عليه العلوم الطبية الحديثة والمعارف المتخصصة الدقيقة-، وأمَّا الأمعاء الغليظة (القولون): فإنما ينحصر فيها ما تبقى من الطعام الغير قابل للهضم، والتي تقوم بطرده خارج الجسم عن طريق المستقيم انتهاءً إلى فتحة الشرج من غير إحالة له، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يصل منه شيءٌ بعينه إلى المعدة؛ لوجود الصمام اللفائفي الذي يمنع نفاذ ما بالأمعاء الغليظة -القولون- إلى الأمعاء الدقيقة التي تسبق المعدة بصورة تصاعدية. ينظر: "الموسوعة البريطانية"، و"الموسوعة الطبية المتخصصة- المجلد الأول- أمراض جهاز الهضم" (ص: 173-190، ط. هيئة الموسوعة العربية)؛ ولذا لا تأخذ تبعًا لذلك حكم الجوف على قول مَن اعتبر المنفذ إلى الجوف جوفًا.
والعبرة في فساد الصوم بالداخل إلى جسم الصائم من المفطرات إنما هي بتحقق وصول المفطِّر إلى الجوف -على نحو ما بيَّنَّاه- أو غلبة ظن وصوله إليه؛ بحيث إذا تُيُقِّن عدم الوصول: لا يفسد الصوم.
قال زين الدين ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 300، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وأطلق الدواء فشمل الرطب واليابس؛ لأن العبرة للوصول لا لكونه رطبًا أو يابسًا، وإنما شرطه القدوري؛ لأن الرطب هو الذي يصل إلى الجوف عادةً، حتى لو علم أن الرطب لم يصل: لم يفسد، ولو علم أن اليابس وصل: فسد صومه؛ كذا في "العناية"] اهـ.
وقال العلامة خليل المالكي في "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (2/ 403، ط. مركز نجيبويه): [(وفي وُصُول ما يَنْمَاعُ من العين والإحليل والحقنة. ثالثها المشهور: يقضي في الحقنة وفي العين إنْ وَصَلَ).. وقوله: (وفي وُصُول) يدل على أنه لو تحقق عدم الوصول لم يقض اتفاقًا] اهـ.
وقال العلَّامة سليمان الجمل الشافعي في "حاشيته على شرح المنهج" (2/ 318، ط. دار الفكر): [وقوله: (أو الحقنة)؛ أي: الاحتقان راجع للأمعاء، والمثانة، والتقطير في باطن الأذن وإن لم يصل إلى الدماغ، وباطن الإحليل وهو مخرج البول من الذكر، واللبن من الثدي، وإن لم يصل إلى المثانة ولم يجاوز الحلمة أو الحشفة: مفطرٌ في الأصح؛ لما مَرَّ من أن المدار على مسمى الجوف، والثاني: لا يفطر؛ اعتبارًا بالإحالة] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 299) في بيان ما يفسد الصوم مما يصل إلى الجوف من المفطرات: [قوله: (أو احتقن، أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه) فسد صومه، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، واختار الشيخ تقي الدين عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة وبحقنة. فائدتان: إحداهما مثل ذلك في الحكم: لو أدخل شيئًا إلى مجوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء من أيِّ موضع كان ولو كان خيطًا ابتلعه كله أو بعضه، أو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه فغاب كله أو بعضه فيه. الثانية: يعتبر العلم بالواصل؛ على الصحيح من المذهب، وقطع المجد في "شرحه": بأنه يكفي الظن؛ قال في "الفروع": كذا قال] اهـ.
فأفادت هذه النصوص جميعها أن العبرة في فساد الصوم إنما هي بوصول المغذي إلى حقيقة الجوف المعتبر الذي هو محل الغذاء والدواء وفيه قوة إحالتهما؛ كما سبق بيانه.
ومن المقرر شرعًا أنَّ مسألة تيقن الوصول إلى الجوف من عدمه "لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالطِّبِّ"؛ كما قال زين الدين ابن نجيم في "البحر الرائق" (2/ 301)؛ ومقتضاه: أنه لو عُلم يقينًا من جهة المعارف الطبية المستقرة أن الداخل لا يصل منه شيءٌ إلى الجوف الذي هو محل الغذاء والدواء: لم يحصل الفطر.
ولما كان الثابت طبيًّا وفق ما قررته المعارف الطبية المتخصصة أن الأمعاء الغليظة (القولون) غير مُنفذةٍ شيئًا بأيِّ حالٍ من الأحوال إلى الأمعاء الدقيقة، ومن ثمَّ فإن علة فساد الصوم تنتفي بهذا التصور؛ وينتفي الحكم بفساد الصوم بدخول المائع إلى الدبر؛ إذ من المقرر في علم الأصول أن "الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا"؛ كما في "أصول شمس الأئمة السرخسي" (2/ 182، ط. دار المعرفة)، و"شرح الإمام الزركشي على مختصر الإمام الخرقي" (3/ 504، ط. مكتبة العبيكان).
ولا يعترض على ما بيَّنَّاه من عدم فساد الصوم بالمائع الداخل في الدبر: بأن الأمعاء الغليظة تفيد الجسم بما يدخلها من التحاميل العلاجية ونحوها فيقاس على الواصل إلى المعدة؛ لأن فساد الصوم إنما يحصل بالوصول إلى الجوف المحيل دون الممتص، فإن الجسد قد يحصل له التغذي بالامتصاص بغير ذلك ولا يفطر إجماعًا؛ كالدهن على البشرة؛ حيث يمتصه الجلد، ومثله الماء، وهو ما أجاب به الإمام القرافي في "الذخيرة" (2/ 505، ط. دار الغرب الإسلامي)، وقد ثبت أن الواصل للجسم من الأمعاء الغليظة إنما يصل عن طريق الامتصاص لا الإحالة؛ كما في "أمراض جهاز الهضم والبنكرياس" للدكتور ديفيدسون- ترجمة الدكتور محمد القلَّا (ص: 22، ط. دار القدس للعلوم)؛ فكان قياسًا مع الفارق.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن قيام الشخص المذكور الذي يعاني من إمساكٍ مزمنٍ بعمل أشعة سينية على القولون للكشف عن مشاكل الجهاز الهضمي، وما يتطلب لذلك من الحقن بصبغة الباريوم عن طريق فتحة الشرج أثناء الصيام؛ لا يؤثر في صحة صومه، ولا حرج عليه؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.