ما حكم صيام من كان يصوم وهو جُنُب جهلًا بالغسل وكيفيته؟
إذا أصبح الإنسان صائمًا محافظًا على أركان الصوم وشروطه من الإمساك عن المفطرات والنية وغير ذلك، وكان صومه خاليًا عمَّا يفسده، فإن صومه يكون صحيحًا، سواء أصبح جُنُبًا أو لا؛ لأن الطهارة من الحدث الأكبر ليست من شروط صحة الصيام، ولا من أركانه، والأولى في حقه إن أصابته الجنابة أن يتم صومه وهو على طهارة؛ حتى يتمكن من المحافظة على الصلاة، والدخول إلى المسجد، ويتمكن من مس المصحف، والقراءة منه، ومن ثَمَّ التمكن من فعل أكبر قدر من النوافل والمستحبات.
المحتويات
من المقرر شرعًا أن الصوم ركن من أركان الإسلام، ومن أهم شعائره، وقد فرضه الله تعالى على الأمة الإسلامية في شهر شعبان من العام الثاني للهجرة النبوية المُشرَّفة، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفقٌ عليه.
أما بالنسبة لكون الإنسان جُنُبًا حال الصيام فهذا لم يَعُدَّه الفقهاء من المفطِّرات التي تُفسد الصوم أو تؤثر على صحته؛ لأنهم اتفقوا على أنَّ أصول المُفَطِّرات هي: الأكل، والشرب، والجماع، وطروء الحيض، والنفاس قبل انتهاء وقت الصيام، والقيء عمدًا.
قال العلامة ابن القَطَّان في "الإقناع" (1/ 231، ط. الفاروق الحديثة): [واتفقوا على أن الأكل لما يغذي من الطعام مما يستأنف إدخاله في الفم، والشرب، والوطء حرام من حين طلوع الفجر إلى غروبها] اهـ، وقال أيضًا في (2/ 65): [وأجمعوا على أن الصائمة صومًا واجبًا إن حاضت قبل أن تتمه أنها تقضي أيام حيضتها إذا طهرت] اهـ.
كما أنَّ العلماء قد أجمعوا على أنَّ الغُسل من الجنابة واجب على الرجل والمرأة.
قال العلامة ابن القَطَّان في "الإقناع" (1/ 97): [واتفق أهل العلم على أن خروج الماء الدافق الذي يَفترُ منه الذَّكَر بجماع كان أو باحتلام، أو بأي وجه كان من الرجل أو المرأة، موجب للغُسل] اهـ.
ومن ذلك يظهر أن الطهارة من الحدث الأكبر ليست من شروط صحة الصيام، ولا من أركانه، وقد جاءت النصوص الشرعية دالةً على ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [البقرة: 187]، ووجه الدلالة من هذه الآية: أن الله لَـمَّا أباح الجماع إلى طلوع الفجر أجاز للإنسان أن يصبح صائمًا وهو جُنُب دون أن يغتسل، وعليه أن يبادر إلى الطهارة والاغتسال من أجل المحافظة على إيقاع الصلوات في أوقاتها؛ فالطهارة شرطٌ لصحة الصلاة، لكنها لسيت شرطًا لصحة الصوم.
قد نص فقهاء المذاهب الأربعة على أن الإنسان إذا أصبح جُنُبًا فإن ذلك لا يؤثر في صحة الصوم ما دامت الجنابة لم تحصل في وقت الصيام، فمَن جامع أو احتلم قبل الفجر ثم جهل بوجوب الغُسل للتطهر، أو أخَّرَه وهو عالم بوجوبه فإن صومه صحيح؛ لأن هذه الجنابة لا تتعارض مع الصوم، وليست من شروطه كما بيَّنَّا.
قال العلامة ابن مَوْدُود الموصلي الحنفي في "الاختيار" (1/ 133): [(وإن أكل، أو شرب، أو جامع ناسيًا، أو نام فاحتلم، أو نظر إلى امرأة فأنزل، أو ادهن، أو اكتحل، أو قَبَّل، أو اغتاب، أو غلبه القيء، أو أقطر في إحليله، أو دخل حلقه غبار أو ذباب، أو أصبح جُنُبًا: لم يفطر).. وأما إذا أصبح جُنُبًا؛ فلِمَا روت عائشة «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصبح جُنُبًا من غير احتلام وهو صائم»] اهـ.
وقال العلامة العَبَّادي الحنفي في "الجوهرة النيرة على مختصر القُدُورِي" (1/ 139، ط. المطبعة الخيرية): [ولو أصبح في رمضان جُنُبًا فصومه تام] اهـ.
وقال العلامة علي بن خلف المالكي في "كفاية الطالب الرباني" (1/ 451، ط. دار الفكر): [(ومن أصبح) بمعنى طلع عليه الفجر (جُنُبًا) كانت الجنابة من وطء، أو احتلام، عمدًا أو نسيانًا، في فرض أو تطوع (ولم يتطهر) بالماء (أو امرأة حائض طهرت) بمعنى انقطع عنها دم الحيض، ورأت علامة الطهر (قبل) طلوع (الفجر) الصادق (فلم يغتسلا) أي: الجُنُب والحائض المذكوران (إلا بعد الفجر) سواء أمكنهما الغُسل قبل طلوع الفجر أم لا (أجزأهما صوم ذلك اليوم) ولا شيء عليهما] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (2/ 167، ط. دار الكتب العلمية): [صام الجُنُب بلا غُسل صح الصوم] اهـ.
وقال العلامة أبو النجا الحَجَّاوي الحنبلي في "الإقناع" (1/ 311، ط. دار المعرفة): [يستحب لمن لزمه الغُسل ليلًا من جُنُب وحائض ونحوهما أن يغتسل قبل طلوع الفجر الثاني، فلو أخره واغتسل بعده: صح صومه] اهـ.
مقتضى ذلك أنَّ من كان يصوم وهو جُنُب جهلًا بالغُسل وكيفيته فصومه صحيحٌ شرعًا، لأن المقرر أن العبادة إذا وقعت على الهيئة المطلوبة، ومستوفية للأركان والشروط فإنها صحيحة ومجزئة.
قال العلامة الزَّرْكَشِي في "تشنيف المسامع بجمع الجوامع" (1/ 179، ط. مكتبة قرطبة): [العبادة إن وقعت مستجمعة الأركان والشروط كانت صحيحة، وإلا ففاسدة] اهـ.
وقد نص بعضهم على هذا في خصوص الصوم، قال العلامة علاء الدين السَّمَرْقَنْدِي الحنفي في "تحفة الفقهاء" (1/ 351، ط. دار الكتب العلمية): [متى وُجِد الركن مع وجود ما ذكرنا من الشرائط من الأهلية والوقت وغير ذلك، يكون صومًا شرعيًّا] اهـ.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأولى والأليق بالمسلم أن يتم الصوم مع كون الشخص مستوفيًا للشروط، ومحقِّقًا للأركان، وهو على طهارة؛ حتى يتمكن من المحافظة على الصلاة، والدخول إلى المسجد، وأن يتمكن من مس المصحف، والقراءة منه، ومن ثَمَّ التمكن من فعل أكبر قدر من النوافل والمستحبات.
بناءً على ذلك: فإذا أصبح الإنسان صائمًا محافظًا على أركان الصوم وشروطه من الإمساك عن المفطرات والنية وغير ذلك، وكان صومه خاليًا عمَّا يفسده، فإن صومه يكون صحيحًا، سواء أصبح جُنُبًا أو لا؛ لأن الطهارة من الحدث الأكبر ليست من شروط صحة الصيام، ولا من أركانه، والأولى في حقه إن أصابته الجنابة أن يتم صومه وهو على طهارة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.