هل يجوز الإفطار اعتمادًا على الحساب الفلكي؟ فأنا أقيم في أحد البلاد الأوروبية، والمسلمون فيها يعتمدون في إثبات شهور السنة الهجرية على الحسابات الفلكية، وليس هناك مَن يَستطلع الهلال، فما حكم الإفطار في هذا البلد اعتمادًا على الحساب الفلكي دون التحقق مِن الرؤية البصرية للهلال؟
لا مانع شرعًا مِن إفطار المسلمين في البلاد الأوروبية -وفي غيرها مِن البلاد التي لا تستطلع الهلال- اعتمادًا على الحساب الفلكي، وذلك إذا أفاد يقينًا وجودَ الهلال في الأفق.
المحتويات
بَيَّنَ الشارعُ الحكيمُ أنَّ أحكام العبادات المرتبطة بالشهور إنما تُبنى على الأشهر القمرية، والأشهر القمرية جعل الله مواقيتها مرتبطة بالأهلة، قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ» أخرجه الإمامان: ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
تَثبُت بداية الشهر القمري برؤية الهلال، ويُستطلع بغروب شمس يوم التاسع والعشرين مِن الشهر السابق عليه، فإذا رؤي الهلال فقد بدأ الشهر الجديد، وإذا لَم يُرَ فالواجب حينئذٍ إكمال الشهر ثلاثين يومًا إذا كانت السماء صافية، ولَم تكن هناك علةٌ تَمنع رؤية الهلال مِن غَيْمٍ ونحوه، أما إذا كان هناك ما يَمنع رؤية الهلال، فقد اختلف الفقهاءُ في تقدير عدة أيام الشهر ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا، والسبب في ذلك: اختلافُهم في معنى التقدير الوارد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص شهر رمضان: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» متفقٌ عليه مِن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واللفظ للإمام البخاري، وفي رواية الإمام مسلم: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ».
وقد ذهب جمهور الفقهاء مِن الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن معنى التقدير في الحديث الشريف السالف ذكره، أي: قدِّروا له تمام العدد ثلاثين يومًا؛ لأن الأصلَ بقاءُ الشهر وكمالُه، فلا يُترَك الأصلُ إلا بيقين، ومِن المقرر شرعًا أنَّ "اليقين لا يزول بالشك"، فإذا حال غَيْمٌ بين الناس وبين رؤيتهم الهلالَ الجديدَ عُدَّ ثلاثين يومًا منذ رؤية الهلال السابق له.
واحتج الجمهور على أنَّ إكمالَ العدة ثلاثين يومًا هو المرادُ مِن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاقْدِرُوا لَهُ» بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
قال الإمام علاء الدين الكَاسَانِي الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 80، ط. دار الكتب العلمية) في بيان ما يُعرف به وقتُ بداية شهر رمضان: [فإن كانت السماء مُصْحِيَةً يُعرف برؤية الهلال، وإن كانت مُتَغَيِّمَةً يُعرف بإكمال شعبان ثلاثين يومًا.. وكذلك إن غُمَّ على الناس هلال شوال أكمَلُوا عدة رمضان ثلاثين يومًا؛ لأن الأصلَ بقاءُ الشهر وكَمَالُهُ، فلا يُترك هذا الأصل إلا بيقينٍ، على الأصل المعهود أنَّ ما ثَبَتَ بيقينٍ لا يَزُول إلا بيقينٍ مِثلِه] اهـ.
وقال الإمام علي بن خَلَفٍ المُنُوفِي المالكي في "كفاية الطالب الرباني" (1/ 441، ط. دار الفكر): [(و) كما يُصام لرؤيته (يُفطر لرؤيته) أي: لرؤية شوال، سواء (كان) الشهر الذي قبل الشهر الذي تثبت رؤيته (ثلاثين يومًا، أو تسعة وعشرين يومًا، فإن غُمَّ) بضم الغين وتشديد الميم (الهلال) يعني: هلال رمضان، بأن حالَ بينه وبين الناس غَيْمٌ (فيُعَدُّ ثلاثين يومًا مِن غُرَّة) يعني: مِن أول (الشهر الذي قَبْله) وهو شعبان (ثم يُصام، وكذلك في الفطر) يُفعل فيه كذلك، فإن غُمَّ هلال شوال، فإنه يُعَدُّ ثلاثين يومًا مِن أول الشهر الذي قَبْله وهو رمضان، ثم يفطر] اهـ.
وقال الإمام الخطيب الشِّرْبِينِي الشافعي في "الإقناع" (1/ 234، ط. دار الفكر): [ويجب صوم رمضان بأحد أمرين: بإكمال شعبان ثلاثين يومًا، أو رؤية الهلال ليلة الثلاثين مِن شعبان] اهـ.
وقال الإمام البُجَيْرِمِي الشافعي في "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (2/ 372، ط. دار الفكر): [قوله: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ» أي: استَتَر عنكم بالغَمَام، والضمير عائدٌ على هلال رمضان، ومثله إذا غُمَّ هلال شوال فيُكْمَلُ رمضانُ ثلاثين] اهـ.
وقال الإمام بهاء الدين المَقْدِسِي الحنبلي في "العدة شرح العمدة" (ص: 163، ط. دار الحديث): [(وإن كان بِغَيْمٍ لَم يُفطروا) إذا لَم يَرَوُا الهلال؛ لأنهم إذا صاموا في أوَّله احتياطًا للعبادة فيجب الصوم في آخِره احتياطًا لها (وإن صاموا بشهادةِ الواحدِ لَم يُفطروا) كما لو شَهِدَ بهلال شوال (إلا أن يَرَوْه) لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» (أو يُكمِلوا العدة) فيُفطروا؛ لقوله: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»] اهـ.
وذهب جماعةٌ مِن العلماء، منهم: ابن سُرَيْج، ومُطَرِّف بن عبد الله، وابن قُتَيْبَة، وآخرون، إلى أن معناه: قدِّروه بحساب المنازل، أي: منازل القمر.
قال الحافظ ابن عبد البَرِّ في "الاستذكار" (3/ 278، ط. دار الكتب العلمية): [وقال ابن قُتَيْبَة في قوله: «اقْدِرُوا لَهُ» أي: قدِّروا الشهر بالمنازل، يعني: منازل القمر.
قال أبو عُمر: قد كان بعض كبار التابعين -فيما ذَكر محمد بن سِيرِين- ذَهَبَ في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب.
قال ابن سِيرِين: كان أفضل له لو لَم يَفعل.
قال أبو عُمر: قيل إنه مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير -والله أعلم-، وكان مُطَرِّف مِن جِلَّة تابِعِي البصرة العلماء الفُضَلَاء الحُلَمَاء.
وقد حكى ابنُ سُرَيْج عن الشافعي أنه قال: مَن كان مذهبُه الاستدلالَ بالنجوم ومنازل القمر، ثم تَبَيَّن له مِن جِهة النجوم أنَّ الهلالَ الليلة، وغُمَّ عليه -جاز له أن يعتقد الصومَ ويُبَيِّتَهُ، ويُجْزِئُهُ] اهـ.
ومنازل القمر: هي المواقع التي يَظهر القمرُ في جِهَتِهَا كلَّ ليلةٍ مِن الشهر، وهي ثمانٌ وعشرون منزلةً على عدد ليالي الشهر القمري، وقد جعل الله سبحانه وتعالى للقمر منازل حتى يُيَسِّر على الناس معرفةَ الأيام بكلِّ منزلٍ منها، وحسابَ الشهور بتمام المنازل كلِّها واجتماع القمر فيها، وحسابَ السنين بحصول كلِّ سنةٍ باجتماع القمر اثْنَتَيْ عشرة مَرَّة. ينظر: "التحرير والتنوير" للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (11/ 95-96، ط. الدار التونسية).
بل جعل الإمامان: ابنُ دقيق العيد، وابنُ المُلَقِّن السببَ الشرعي لثبوت الشهر هو طلوع الهلال مِن الأفق بحيث يُرَى بالعين البَصَرية في الظروف الطبيعية إذا الْتَمَسَ الناسُ رُؤيَتَهُ.
واستَدَلَّا على ذلك باتفاق الفقهاء على وجوب الصوم في حق المحبوس في المَطْمُورَة إذا اجتَهَد بالأمارات وعَلِمَ أنَّ ذلك اليومَ مِن رمضان وإنْ لَمْ يَرَ الهلالَ ولَم يُخْبِرْهُ مَن رآه، ولذلك نَصَّا على وجوب اتباع الحساب الشرعي إذا دل هذا الحسابُ على أن الهلال قد طَلَع مِن الأفق على وَجْهٍ بحيث يمكن أن يُرَى لولا وجود المانِع مِن غَيْمٍ أو نحو ذلك.
قال الإمام ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (2/ 8، ط. مطبعة السنة المحمدية): [إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع مِن الأفق على وَجْهٍ يُرَى لولا وجود المانِع كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بشرطٍ مِن اللزوم؛ لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا عَلِمَ بإكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات، أن اليوم مِن رمضان، وجب عليه الصوم وإن لَمْ يَرَ الهلال ولا أَخبَرَه مَن رآه] اهـ.
وقال الإمام سراج الدين ابن المُلَقِّن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (13/ 60، ط. دار النوادر): [والحق أن الحساب لا يجوز الاعتماد عليه في الصوم، وإنما إذا دلَّ الحساب عَلَى أن الهلال قد طلع مِن الأفق عَلَى وَجْهٍ يُرَى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا، فهذا قد يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية مشترطة في اللزوم؛ فإنَّ الاتفاق عَلَى أن المحبوس في المطمورة إذا عَلِمَ بإكمال العدد أو بالاجتهاد أن اليوم مِن رمضان، وجب عليه الصوم وإن لَمْ يَرَ الهلالَ ولا أَخبَرَه مَن رآه] اهـ.
وقد رجح الشيخ الإمام محمد بخيت المُطِيعِي -مفتي الديار المصرية الأسبق- جوازَ العملِ بالحساب الشرعي في إثبات أول الشهر إذا غُمَّ الهلالُ بسبب الغَيْم واسْتَشْكَلَ على الناس معرفةُ أوَّل الشهر، معللًا ذلك بأن علماء الحساب الشرعي هُم أهل الخبرة في ذلك، والفقهاء قديمًا وحديثًا يرجعون إلى أهل الاختصاص في كلِّ ما يُشْكِلُ عليهم، فيُرجِعُون القولَ بالفطر في رمضان للمريض إلى الطبيب، ويُرجِعُون توضيحَ معاني ألفاظ القرآن والحديث إلى أهل اللغة، وغير ذلك كثير، فلماذا لا يُرجَع عند الإشكال في رؤية الهلال إلى أهل الحساب، خاصةً وهو عِلْمٌ له مقدِّماتٌ قطعيَّةٌ وثابتةٌ متوافقةٌ مع صريح قول الحق سبحانه وتعالى في غير مَوْضِعٍ مِن آيات القرآن الكريم، وذلك في نحو قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: 39]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 5].
قال الشيخ الإمام محمد بخيت المُطِيعِي في "إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة" (ص: 259، ط. مطبعة كردستان العلمية): [ومما يرجح القول بالعمل بالحساب الصحيح: أنَّ أهل الشرع مِن الفقهاء وغيرهم يَرجعون في كلِّ حادثة إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيها، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث، وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان، وغير ذلك كثير، فما الذي يمنع مِن بِنَاءِ إكمال شعبان ورمضان وغيرهما مِن الأشهر على الحساب، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة والعارفين به إذا أَشْكَلَ علينا الأمرُ في ذلك، مع كون مقدِّماته قَطْعِيَّةً وموافِقَةً لِمَا نَطَقَت به آياتُ القرآن الكريم] اهـ.
وممَّا يدل أيضًا على جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في بيان أول الشهر وآخره إذا غُم الهلالُ على الرَّائِين: ما نص عليه الشافعيةُ في قولٍ مِن جواز الصوم للحاسب الذي عَرَفَ - بِعِلْمِهِ الحسابَ الفلكي ومعرفتِهِ له- طلوعَ الهلال مِن الأفق ولكن مَنَعَ مِن رؤيتِه مانِعٌ، وكذلك الحُكمُ في حق مَن يُصَدِّقُهُ في ذلك، حيث يجوز له أن يصوم تبعًا لهذا الإخبار المبني على الحساب؛ لأن سبب الصوم قد حصل في حقهما بغلبة الظن، وقد تقرر في قواعد الشرع الشريف أنَّ "الْمَظِنَّةَ تَقُومُ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ" -كما في "حاشية الإمام شهاب الدين ابن القاسم العَبَّادِي على الغرر البهية" (2/ 216، ط. المطبعة الميمنية)- وإن اختلف الفقهاءُ في نطاق تطبيق هذه القاعدة، و"المئنة": الشيءُ المتحقِّقُ، فإذا أفاد الحسابُ الفلكي في زماننا -في ظل ما نراه مِن تقدُّمٍ في هذا العِلم وتَطَوُّرِ وسائلِهِ- طلوعَ الهلال في الأفق على وجهٍ هو أقرب إلى اليقين، كان الأخذ به على هذا القول أَوْلَى.
قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 279-280، ط. دار الفكر): [قال المصنف: إذا غُمَّ الهلالُ، وعَرف رجلٌ الحسابَ ومنازلَ القمر، وعَرف بالحساب أنه مِن رمضان، فوجهان: قال ابن سُرَيْج: يَلزمه الصوم؛ لأنه عرف الشهر بدليل، فأشبه مَن عَرفه بالبينة، وقال غيرُه: لا يصوم؛ لأنَّا لَم نتعبد إلا بالرؤية، هذا كلام المصنف، ووافَقَه على هذه العبارة جماعةٌ.. وقال صاحب "البيان": إذا عَرف بحساب المنازل أنَّ غدًا مِن رمضان، أو أخبَرَه عارفٌ بذلك فصَدَّقَهُ فَنَوَى وصام بقوله، فوجهان: أحدهما: يجزئه، قاله ابن سُرَيْج، واختاره القاضي أبو الطيِّب؛ لأنه سببٌ حَصَل له به غلبةُ ظَنٍّ، فأَشْبَهَ ما لو أخبَرَه ثِقَةٌ عن مُشاهَدَة] اهـ.
والقول بجواز الاعتماد على الحساب الفلكي إذا غُمَّ الهلال، مقتضاه: أن رؤية الهلال ليست معتبرة لذاتها، وإنما هي وسيلة للدلالة على طلوع الهلال في الأفق، فمتى ثبت أن الهلال قد طلع في الأفق بأيِّ وسيلة قطعية مفيدة لليقين في ذلك، فإنه يثبت بذلك بيان أول الشهر، ويستدل على ذلك -وهو كون الرؤية وسيلة للدلالة على طلوع الهلال- بما ذهب إليه فقهاء الحنابلة مِن استحباب ترائي الهلال ليلة الثلاثين، كما في "المغني" للإمام ابن قُدَامَة (3/ 106، ط. مكتبة القاهرة)، إذ لو كان ترائي الهلال واستطلاعه واجبًا لذاته لاتفقت كلمة الفقهاء على وجوب الاستطلاع، وإنما كان قول الجمهور بوجوب استطلاع الهلال؛ لكونه يُتَوَصَّل به إلى فِعلِ واجبٍ وهو الصوم، ومِن المقرر شرعًا أنَّ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ"، كما في "الأشباه والنظائر" للإمام تاج الدين السُّبْكِي (2/ 88، ط. دار الكتب العلمية).
كما أن الصوم يجب على جميع المسلمين بمجرد العلم بوجود الهلال، ولا يجب عليهم جميعًا رؤيته، فدلَّ ذلك على أن رؤيةَ الهلال وسيلةٌ لثبوت الشهر لا غايةٌ لوجوب الصوم، فلو كانت واجبةً لوَجَب على كلِّ مسلم التحققُ مِن رؤية الهلال، وهذا غير مطلوب، بل إنَّ الصوم يجب على مَن عَلِمَ دخولَ الشهر بأيِّ طريقةٍ تُفيد تَيَقُّنَ دخول الشهر.
والحسابات الفلكية الدقيقة في عصرنا الحالي بما يُعتمد عليه فيها مِن أجهزة متطورة لرصد حركة القمر وبيان منازله بدقةٍ متناهية تصل إلى تحديدها بالثانية وجزءِ الثانية -تفيد على هذا النحو اليقينَ في بيان حركة القمر ووقت ظهور الهلال ومدة مكثه في السماء بعد ظهوره في كلِّ يوم، ولذلك يمكن الاعتماد عليها في تحديد بداية الشهر ونهايته، وهذا في البلاد التي يصعب فيها ترائي الهلال، سواء كان ذلك لكثرة الغيم، أو لقلة عدد المسلمين، أو عدم وجود مَن يقوم باستطلاع الهلال كما هو الحال في بعض البلاد الأوروبية، إذ التشدد في وجوب رؤية الهلال عندهم حينئذٍ يُفضي إلى ضياع كثيرٍ مِن العبادات.
ولكن يلزم التنبيه إلى أن الحاسب الفلكي لا بد أن يكون حاذقًا ماهرًا في علمه ومتقنًا له؛ حتى يفيد اليقين في حساباته، وفي إعلانه لوقت خروج الهلال وميلاده، ومدة مكثه في السماء، ونحو ذلك، وهذا ما يتوفر في المعاهد الفلكية المخصصة بذلك؛ لأن القرار فيها لا يكون مبنيًّا على دراسةِ شخصٍ واحدٍ، بل على دراساتٍ متعددةٍ مِن مجموعةٍ مِن العلماء، مما يقرر عدم اجتماعهم على خطأ.
بناءً على ذلك: فإنَّ مسألة ثبوت هلال الشهر بالحسابات الفلكية محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، ومِن المقرر شرعًا في هذا الشأن "أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ"، كما في "الفروق" للإمام شهاب الدين القَرَافِي (2/ 103، ط. عالم الكتب)، فمتى اختارت الهيئةُ المختصةُ -كدور الإفتاء، أو المجامع الإسلامية والهيئات الإفتائية في شتى أنحاء العالم- ببيان ثبوت هلال الشهر بدايةً ونهايةً، أيًّا مِن هذين الرأيَيْن طريقًا لإثبات الهلال وَجَب على المسلمين في تلك البلاد اتِّبَاعُهُ، ولَم يَجُز لأيٍّ منهم مخالَفَتُه؛ جَمْعًا لكلمة المسلمين وإظهارًا لِوِحْدَةِ صَفِّهِم، ولا يجوز لأيِّ أحدٍ الإنكارُ على ذلك، إذ مِن المقرر شرعًا أنه "لَا يُنْكَرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ"، كما في "الأشباه والنظائر" للإمام جلال الدين السيوطي (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية).
في واقعة السؤال: لا مانع شرعًا مِن إفطار المسلمين في البلد الأوروبي المذكور -وفي غيره مِن البلاد الغربية التي لا تستطلع الهلال- اعتمادًا على الحساب الفلكي، وذلك إذا أفاد يقينًا وجودَ الهلال في الأفق، كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.