ما حكم من تصوم الإثنين والخميس على نية إن كان بقي عليها من القضاء شيء فهو قضاء وإلا فهو نفل؟ حيث تقول السائلة: عليَّ أيام أفطرتها في رمضان ولعدة سنوات ماضية، ولم أكن أحسب هذه الأيام، وبعد انتهاء رمضان الماضي وأنا أصوم يومي الإثنين والخميس على نية إن كان عليَّ قضاء فتلك الأيام تكون صيام قضاء، وإن لم يبق عليَّ شيء يكون صيام نافلة، فهل يجزئ ذلك عن القضاء؟ وإن لم يكن كذلك، فهل أصوم من جديدٍ؟
صيام يومي الإثنين والخميس على نيةِ إن كان بقي من صيام القضاء شيءٌ فيكون قضاءً، وإلَّا فهو نفلٌ -يقع عن القضاء إن كان في الذمة قضاءُ صيامٍ واجبٍ، وإن لم يكن ثمةَ صيام واجب فيقع هذا الصيام نفلًا، ومع ذلك ينبغي ألَّا يكون ذلك عادةً مطردةً في جميع صيام هذين اليومين؛ بل لا بد من تحري الأيام التي وجب قضاؤها فيما مضى، بحيث يكون الصوم بنية جازمة إما للقضاء وإما للنفل؛ إبراءً للذمة، وسدًّا لباب الشَّكِ والوسواس والتردد في العبادة.
المحتويات
الصيام على أنواع من حيث الحكم التكليفي، فمنه: الصيام الواجب كرمضان، وصوم النذر، وصوم الكفارة، ومنه: النفل الراتب، وهو ما له زمن معين، كصيام يوم عرفة، وعاشوراء، وستةٍ من شوال، ومنه: النفل المطلق، وهو ما ليس له زمن معين. ينظر: "شرح النووي على مسلم" (7/ 115 ط. دار إحياء التراث العربي).
ومن النفل الراتب: صوم يوم الإثنين والخميس؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرَّى صومهما.
قال العلَّامة الخطيب الشربيني في "الإقناع" (1/ 245، ط. دار الفكر): [ويتأكد صوم يوم الإثنين والخميس؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرى صومهما وقال: إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم، وصوم يوم عرفة] اهـ.
أمَّا القضاء: فهو فعل العبادة خارج وقتها المقدر لها شرعًا، أي: بعد وقتها المقدر لها شرعًا، ولا يكون إلا في الصيام الواجب، ويُسَن في النفل الراتب. يُنظر: "الإبهاج في شرح المنهاج" للإمام تقي السبكي وولده التاج، (2/ 213، ط. دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث)، و"نهاية المحتاج" للعلامة الرملي الشافعي (3/ 211، ط. دار الفكر).
الأصل أنه يشترط في قضاء الواجب أو النذر أو الكفارة الجزم بالنية وتعيينها وتبييتها، بأن ينوي قبل الفجر أنه صائم غدًا عن رمضان، ولا يشترط هذا في صوم النفل أو السنن الراتبة كيومي الإثنين والخميس، ولأنَّ الصوم في الأيام المذكورة منصرف إليها بل لو نوى به غيرها حصل أيضًا.
قال العلامة علاء الدين السمرقندي في "تحفة الفقهاء" (1/ 349، ط. دار الكتب العلمية): [صوم الدَّين من القضاء والنذور المطلقة والكفارات إذا نوى خارج رمضان مطلقًا ولم ينوِ صوم القضاء أو الكفارة فإنه لا يقع عنه؛ لأن خارج رمضان متعين للنفل عند بعض مشايخنا، وعند بعضهم هو وقت الصيامات كلها على الإبهام، وإنما يتعين بالتعيين؛ فكانت نية الوصف لتعيين الوقت لا لتصير عبادةً] اهـ.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 85، ط. دار الكتب العلمية): [ولو نوى بصومه قضاء رمضان والتطوع كان عن القضاء في قول أبي يوسف. وقال محمد: يكون عن التطوع، وجه قوله: أنَّه عَيَّن الوقت لجهتين مختلفتين متنافيتين فسقطتا للتعارض، وبقي أصل النية وهو نية الصوم، فيكون عن التطوع. ولأبي يوسف: أنَّ نية التعيين في التطوع لغو فلغت، وبقي أصل النية فصار كأنه نوى قضاء رمضان والصوم، ولو كان كذلك يقع عن القضاء] اهـ.
وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (2/ 127، ط. دار الفكر): [(وصحته) أي: الصوم (مطلقًا) عن تقييده بكونه فرضًا مشروطة (بنية)، أي: قصد الصوم، ولو لم يستحضر كونه قربة لله تعالى، ويحتاج الفرض لنيته، فإن نوى الصوم وشك هل نواه نفلًا أو قضاءً أو وفاءَ نذرٍ: انعقد تطوعًا] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 297، ط. دار الفكر): [ولو كان عليه قضاء فقال: أصوم غدًا عن القضاء أو تطوعًا، لم يجزئه عن القضاء بلا خلاف؛ لأنه لم يجزم به، ويصح نفلًا إذا كان في غير رمضان، هذا مذهبنا] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 411، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: ويجب) في الصوم (نية جازمة معينة) كالصلاة، ولخبر: «إنما الأعمال بالنيات»، ومعينة بكسر الياء؛ لأنها تعين الصوم، وبفتحها لأن الناوي يعينها ويخرجها عن التعلق بمطلق الصوم، وجميع ذلك يجب (قبل الفجر في الفرض) ولو نذرًا أو قضاء أو كفارة] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 479، ط. عالم الكتب): [(وإذا نوى خارج رمضان) صومًا (وقضاءً ونفلًا) فنفل، (أو) نوى قضاءً و(نذرًا، أو) نوى قضاء و(كفارة نحو ظهار فـ) هو (نفل) إلغاءً للقضاء والنذر والكفارة؛ لعدم الجزم بنيتها فتبقى نية الصوم] اهـ.
وقال العلامة أبو النجا الحجاوي ببطلان القضاء وعدم صحة النفل، فقال في "الإقناع" (1/ 309، ط. دار المعرفة): [ولو نوى خارج رمضان قضاءً ونفلًا، أو نوى الإفطار من القضاء ثم نوى نفلًا، أو قَلَبَ نية القضاء إلى النفل: بَطَل القضاء ولم يصح النفل؛ لعدم صحة نَفْلِ مَن عليه قضاء رمضان قبل القضاء] اهـ.
ووقوعه نفلًا في حال تردد النية هو معتمد المذهب عند الحنابلة؛ قال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 363-364، ط. دار الكتب العلمية) شارحًا له: [(ولو نوى خارج رمضان قضاء ونفلا أو نوى الإفطار من القضاء ثم نوى نفلا أو قلب نية القضاء إلى النفل بطل القضاء)؛ لتردده في نيته أو قطعها، (ولم يصح النفل؛ لعدم صحة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء)، وفي "الفروع" و"التنقيح" و"المنتهى": يصح نفلًا. وقد ذكرت كلام المصنف في "حاشية التنقيح" في ذلك في الحاشية، وما يمكن أن يجاب به عنه] اهـ.
يظهر من النصوص السابقة أنَّه إذا صام مَن لم يَجْزِم بما عليه من قضاء صيام واجب وتَردَّد في نيته بين صرفها لقضاء الصوم الواجب أو أداء النفل أو السُّنَّة الراتبة ليومي الإثنين والخميس، فإن صيام هذا اليوم ينصرف إلى النفل عند جمهور فقهاء الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وذلك لعدم الجزم بالنية، فتبقى نية الصوم، فتنصرف النية للأقل رتبة، وهو النفل.
بينما ينصرف ذلك إلى القضاء الواجب عند القاضي أبي يوسف من الحنفية؛ لأنَّ التطوع عنده لا يلزمه نية لتعينه، فلما عَيَّن الصائم القضاء أجزأه عنه فقط، وإلَّا فلا يقع قضاءً أو نفلًا، وذلك لأنَّ إبراء الذمة الحاصل بصرف النية لصوم القضاء أَوْلى من بقائها مشغولة بهذا الصوم لو تَمَّ صرفها لغيره.
ووجه قول القاضي أبي يوسف أن "الترجيح لتعيين جهة القضاء، لأنه خلف عن صوم رمضان، وخلف الشيء يقوم مقامه كأنه هو، وصوم رمضان أقوى الصيامات حتى تندفع به نية سائر الصيامات، ولأنه بدل صومٍ وَجَبَ بإيجاب الله تعالى ابتداء، وصوم كفارة الظهار وَجَبَ بسببٍ وُجِدَ من جهة العبد، فكان القضاء أقوى فلا يزاحمه الأضعف" كما قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 85).
وحُكِي عند الحنابلة وجهٌ بوقوع الصيام بالنية المترددة بين القضاء أو النفل عن أحدهما، قال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 456-457، ط. مؤسسة الرسالة): [وإن نوى خارج رمضان قضاءً ونفلًا.. وقيل: عن أيهما يقع؟ فيه وجهان، وأوقعه أبو يوسف عن القضاء لتعيينه وتأكده، لاستقراره في الذمة، ووافق لو نوى قضاء وكفارة قتل أو كفارة قتل وظهار أنه يقع نفلًا] اهـ.
نصَّ الفقهاء والأصوليون على أنَّ المكلَّف له أن يقلد مَن أجاز مِن المجتهدين، وتقرر ذلك عندهم في القاعدة الفقهية: "مَن ابْتُلِيَ بشيءٍ مِن المختَلَف فيه فلْيُقَلِّد مَن أجاز"، كما في "الفصول في الأصول" للإمام أبي بكرٍ الجَصَّاص (4/ 284، ط. أوقاف الكويت)، و"شرح تنقيح الفصول" للإمام شهاب الدين القَرَافِي (ص: 432-433، ط. الطباعة الفنية المتحدة)، و"حاشية العلامة الشَّرْوَانِي على تحفة المحتاج" (1/ 119، ط. المكتبة التجارية).
كما نصُّوا على أنَّ أفعال العوام بعد صدورها منهم محمولةٌ على ما صحَّ مِن مذاهب المُجتهدين ممن يقول بالحِلِّ أو بالصِّحَّة، فإن مراد الشرع الشريف تصحيح أفعال المكلَّفين وعباداتهم مهما أمكن ذلك، فإذا صدر مِن العامِّي فعلٌ مُعيَّنٌ كَفَاهُ في الحكم بصِحَّته أن يوافِقَ أحد آراء المذاهب وأقوال المُجتهدين، وهو الذي جرت عليه الفتوى.
قال العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي -مفتي الديار المصرية الأسبق- في "الفتاوى" (1/ 225، ط. دار وهبة): [متى وافَقَ عَمَلُ العامِّيِّ مذهبًا مِن مذاهب المجتهدين ممَّن يقول بالحِلِّ أو بالطهارة كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه اتفاقًا] اهـ.
بناء على ذلك: فإن صيام أيامٍ بنيةٍ مترددةٍ، إن كان على الصائم قضاء يومٍ، فهذا قضاؤه، وإن لم يكن عليه شيء فهو نافلة -محلُّ خلاف بين الفقهاء، ما بين القولِ بعدم الإجزاء عن القضاء وانصرافه إلى النفل، وهو مذهب جمهور فقهاء الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبين القولِ بوقوعه عن القضاء، لا عن التطوع، وهو قول القاضي أبي يوسف من الحنفية ووجهٌ محكي عند الحنابلة، والأخذُ بوقوعه عن النفل لا عن القضاء هو الأَوْلَى؛ خروجًا مِن الخلاف، فإن كان المكلَّف قد صَدَر منه الفعلُ فصام بهذه النية المترددة فإن فِعله حينئذٍ محمولٌ على الصحة.
وفي واقعة السؤال: صيام السائلة ليومي الإثنين والخميس على نيةِ إن كان بقي عليها من القضاء شيء فهو قضاءٌ، وإلَّا فهو نفلٌ -يقع عن القضاء إن كان في ذمتها قضاءٌ واجبٌ، وإن لم يكن ثمةَ صيامٍ واجبٍ فيقع هذا الصيام نفلًا، ومع ذلك ينبغي ألَّا تجعل ذلك عادةً مطردةً في جميع صومها؛ بل لا بد من تحري الأيام التي وجب عليها قضاؤها فيما مضى، بحيث يكون صومها بنية جازمة إما للقضاء وإما للنفل؛ إبراءً للذمة، وسدًّا لباب الشَّكِ والوسواس والتردد في العبادة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.