ما حكم الصعود على جبلي الصفا والمروة في أداء المناسك في الحج والعمرة؟ وبيان القدر الواجب في السعي بين االصفا والمروة في كل شوط؟
الساعي بين الصفا والمروة لا يجب عليه الصعود على الجبلين، وإنما يُسَنُّ له ذلك، والواجب في ذلك هو استيعابُ المسافة التي بين الصفا والمروة في كلِّ مرة.
المحتويات
السعي لغةً: العَدْوُ مِن غيرِ شَدٍّ، وهو فوق المشي، ومنه أُخِذَ السعي بين الصفا والمروة؛ كما في "تاج العروس" للعلامة أبي الفَيْض الزَّبِيدِي (38/ 279، ط. دار الهداية).
وشرعًا: المشي بين جَبَلَي الصفا والمروة سبعةَ أشواطٍ بعد طوافٍ في نُسُكِ حجٍّ أو عُمرةٍ؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
والصَّفَا والمَرْوَة: جبلان بين بطحاء مكة والمسجد.
فأما الصفا: فهو مبتدأ السعي، وهو مكانٌ مرتفعٌ كان يتصل بجبل أبي قُبَيسٍ، مَن وَقَفَ عليه كان بحذاءِ الحجر الأسود.
وأما المروة: فهو منتهى السعي، وأصله مِن المَرْو، وهو جبلٌ في الجهة المقابلة للصفا، كان يتصل قديمًا بجبل قُعَيْقِعَان، كما في "المسالك والممالك" للعلامة البَكْرِي (1/ 398، ط. دار الغرب الإسلامي)، و"معجم البلدان" للإمام شهاب الدين الحَمَوِي (3/ 411، ط. دار صادر)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للإمام النووي (3/ 181، ط. دار الكتب العلمية).
ومِن المقرر شرعًا أنَّ السعيَ يُبدَأُ به مِن الصفا ويُختَم بالمروة، ويُحسَبَ الذهابُ مِن الصفا إلى المروة شوطًا، والعَوْدُ مِن المروة إلى الصفا شوطًا آخَر، إلى تمام سبعةِ أشواطٍ؛ كما في "بدائع الصنائع" للإمام علاء الدين الكاساني الحنفي (2/ 148-149، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخَرَشِي المالكي (2/ 317، ط. دار الفكر)، و"نهاية المحتاج" لشمس الدين الرَّمْلِي الشافعي (3/ 291، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" لأبي السعادات البُهُوتِي الحنبلي (2/ 487، ط. دار الكتب العلمية).
والأصل فيه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُرِيدُ الصَّفَا، وَهُوَ يَقُولُ: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» أخرجه الإمامان: أحمد في "مسنده"، والترمذي في "سننه".
قال العلامة ابن القَطَّان في "الإقناع" (1/ 266، ط. الفاروق الحديثة): [وهو إجماعٌ، وسُنَّةٌ معمولٌ بها] اهـ.
القَدْر الواجب في كلِّ شوطٍ بالإجماع هو استيعابُ المسافة بين الجبلين دون الصُّعود عليهما.
قال العلامة ابن القَطَّان في "الإقناع" (1/ 266): [وأجمعوا أنَّ مَن لَم يَفعل وَوَقَف في أصلِ الصفا أَجْزَأَهُ] اهـ. والمراد بقوله: "لَم يَفعَل"، أيْ لَم يَرْقَ على الصفا والمروة.
أما الصُّعود على الجبلَيْن فإنَّه سُنَّة، ولذلك أوجب الفقهاء على الماشي بين الصفا والمروة أن يُلصِقَ رِجله بالجبل في الابتداءِ والانتهاءِ، بحيث لا يَبقى بينهما فُرْجَةٌ، فيلزمه أن يُلصِقَ العقبَ بأصلِ ما يذهب منه، ويُلصِق رؤوسَ أصابعِ رِجليهِ بما يَذْهَبُ إليه، ليتأكد بذلك استيعابُ كامِلِ المسافة، هذا كلُّه إذا لم يَصعد على الصفا في الابتداء وعلى المروة في الانتهاء، فإنْ صَعد فهو الأكمل؛ لما فيه مِن اتِّبَاع سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" مِن حديث جابر رضي الله عنهما أنه قال في وَصْفِ سَعيِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَرَقِيَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ كَبَّرَ».
قال شمس الأئمة السَّرَخْسِي الحنفي في "المبسوط" (4/ 51، ط. دار المعرفة): [ويُكرَه له تَرْكُ الصُّعود على الصفا والمروة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صَعد عليهما، وأَمَرَنا بالاقتداء به.. فهو سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يُكرَه تَرْكُها] اهـ.
وقال العلامة مُلَّا علي القَارِي الحنفي في "المسلك المتقسط في المنسك المتوسط" (ص: 81، ط. الترقي الماجدية): [السعي الواجب بين الصفا والمروة بمعنى المشي المطلق، والسعي بين المِيلَيْن بمعنى الإسراع.. والحاصل أنَّه يكون ساعيًا (في بطن الوادي) أي: باعتبار ما كان سابقًا، فإنَّ ما بين الأميال كان منخفضًا، وطرفاهما مِن جهة الصفا والمروة مُرتَفِعَان، وأما الآن فبَقِيَ نوعٌ مِن الارتفاع في شق الصفا، بخلاف طرفِ المروة] اهـ.
وقال العلامة الخَرَشِي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 327): [سُنَن السعي.. ومِن سُنَنِهِ: الرقي على الصفا والمروة للرجل؛ لاستيعابه ما بينهما، وللمرأة أيضًا إنْ خَلَا الموضِعُ أيضًا مِن الرجال، وإلا وَقَفَت أسفَلَهما] اهـ.
وقال إمام الحرمين أبو المَعَالِي الجُوَيْنِي الشافعي في "نهاية المطلب" (4/ 302، ط. دار المنهاج): [والرُّقِيُّ ليس مقصودًا في الحج، ولكن لا يأمن المنتهي، لو لم يرقَ أن يكون ما انتهى إليه من الدرج المستحدثة، وإلا فالانتهاء إلى أصل الجبل كافٍ وفاقًا] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 69، ط. دار الفكر): [(فرع): في بيانه واجبات السعي وشروطه وسُنَنه وآدابه. (أما) الواجبات فأربعة: (أحدها): أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيُه، حتى لو كان راكبًا اشتُرط أن يُسَيِّر دابَّتَه حتى تَضَعَ حافِرَها على الجبل أو إليه، حتى لا يبقى مِن المسافة شيءٌ، ويجب على الماشي أن يُلصِق في الابتداء والانتهاء رِجلَهُ بالجبل، بحيث لا يبقى بينهما فُرْجَةٌ، فيلزمه أن يُلصِق العَقِبَ بأصل ما يذهب منه، ويُلصِق رؤوسَ أصابع رِجلَيْه بما يذهب إليه، هذا كلُّه إذا لم يصعد على الصفا وعلى المروة، فإن صَعد فهو الأكمل وقد زاد خيرًا، وهكذا فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكرناه في الأحاديث الصحيحة السابقة، وهكذا عَمِلَتِ الصحابةُ فَمَنْ بَعدهم، وليس هذا الصعود شرطًا واجبًا، بل هو سُنَّةٌ متأكدةٌ] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (3/ 350، ط. مكتبة القاهرة): [(فصل): فإن لَم يَرْقَ على الصفا فلا شيء عليه، قال القاضي: لكن يجب عليه أن يَستوعب ما بين الصفا والمروة، فيُلصِق عَقِبَيْهِ بأسفل الصفا، ثم يسعى إلى المروة، فإن لَم يصعد عليها أَلْصَقَ أصابعَ رِجلَيه بأسفل المروة، والصعود عليها هو الأَوْلَى؛ اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنْ تَرَكَ مما بينهما شيئًا ولو ذراعًا، لم يجزئه حتى يأتي به] اهـ.
يُتَحصَّل مما سبق: أنَّ الساعي بين الصفا والمروة لا يجب عليه الصعود على الجبلين، وإنما يُسَنُّ له ذلك، والواجب في ذلك هو استيعابُ المسافة التي بين الصفا والمروة في كلِّ مرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.