توجيه ما ورد في السنة النبوية من إباحة التداوي بالكي والنهي عنه

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 07 يونيو 2021
  • رقم الفتوى: 8086

السؤال

سائل يقول: ورد في السنة النبوية الشريفة النهي عن التداوي بالكيّ، لكن قال لي أحد أصدقائي: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إباحة ذلك؛ فكيف نجمع بين ما ورد في السنة النبوية من إباحة التداوي بالكيّ وبين النهي عن ذلك؟

مقصود الشرع من النهي عن الكيّ هو الذي يُبادر إليه الصحيح رغبةً في التَّحَصُّن من المرض أو الذي يرتكبه المريض مع وجود غيره ممَّا لا ألم معه من الأدوية، أو مع اعتقاد التأثير الذاتي للكي.

ما ورد في نصوص الشرع من الحث على التداوي

تضافرت النصوص الشرعية في الحثّ على التداوي والأخذ بأسباب العافية؛ فروى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً».

وروى مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ؛ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وروى أبو داود في "سننه" عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ فَسَلَّمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ، فَجَاءَ الْأَعْرَابُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: «تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الْهَرَمُ».

الأدلة على مشروعية التداوي بالكي

الكيُّ من العلاجات التي أباحها الشرع الشريف عند عدم نفع الأدوية؛ والأصل في مشروعيَّته:

ما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه فِي أَكْحَلِهِ، قَالَ: فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ ثُمَّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ".

وما رواه أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ".

قال الإمام النووي في شرح الحديث من "شرحه لصحيح مسلم" (14/ 193، ط. دار إحياء التراث العربي): [وذَكَرَ الكيّ؛ لأنه يُستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها، فآخر الطب الكيّ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» إشارة إلى تأخير العلاج بالكيّ؛ حتى يُضطرَ إليه، لما فيه من استعمال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكيّ] اهـ.

توجيه ما ورد في السنة النبوية من إباحة التداوي بالكي والنهي عنه

وردت بعض الأحاديث التي ظاهرها النهي عن الكيّ؛ منها: ما رواه البخاري في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنْ كَانَ في شَيءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ».

ومنها: ما رواه البخاري أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِى عَنِ الْكَيِّ».

ومنها: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ»، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

وقد جمع الحافظ ابن حجر العسقلاني بين الأحاديث؛ فقال في "فتح الباري" (10/ 155-156، ط. دار المعرفة): [قوله: (باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو): كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين، وأنه إذا جاز كان أعم من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي الباب، وفضل تركه من قوله: «وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ»، وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال: رُمِيَ سعد بن معاذ على أَكْحَلِهِ فَحَسَمَهُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن طريق أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "بعث إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كَوَاهُ"، وروى الطحاوي وصححه الحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: "كَوَانِي أبو طلحة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم"، وأصله في البخاري، وأنه كُوِيَ من ذات الجَنْبِ وسيأتي قريبًا، وعند الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَوَى أَسْعَدَ بن زُرَارَة من الشَّوكَة، ولمسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "كَانَ يُسَلِّمُ عَليّ حَتَّى اكتويت فَترك ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فعاد"، وله عنه من وجه آخر: إن الذي كان انقطع عني رجع إلي؛ يعني تسليم الملائكة كذا في الأصل، وفي لفظ: "أنه كان يسلم عليَّ، فلما اكتويت أمسك عني، فلما تركته عاد إلي"، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكي، فاكتوينا، فما أفلحنا ولا أنجحنا"، وفي لفظ: "فلم يُفْلِحْنَ وَلَمْ يُنْجِحْنَ"، وسنده قوي، والنهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى؛ لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل إنه خاص بعمران؛ لأنه كان به الباسور وكان موضعه خطرًا فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح. وقال ابن قتيبة: الكيّ نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى؛ لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع، والثاني: كيّ الجرح إذا نَغِلَ أي: فسد، والعضو إذا قطع فهو الذي يُشرع التداوي به، فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى؛ لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق، وحاصل الجمع: أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع، بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه، وأما النهي عنه: فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء، والله أعلم] اهـ.

وقال المازري في "المُعْلِم بفوائد مسلم" (3/ 169، ط. الدار التونسية للنشر): [وتعقيبه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا أحبّ أن أكتويَ» إشارة إلى أن يؤخَّر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يوجد الشفاء إلا فيه؛ لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعفَ من ألم الكيّ] اهـ.

وقال العلامة ابن منظور في "لسان العرب" (15/ 235، ط. دار صادر): [الكيّ بالنار من العلاج المعروف في كثير من الأمراض، وقد جاء في أحاديث كثيرة النهي عن الكيّ، فقيل: إنما نهي عنه من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره، ويرون أنه يحسم الداء، وإذا لم يكو العضو عَطِب وبطل، فنهاهم عنه إذا كان على هذا الوجه، وأباحه إذا جُعل سببًا للشفاء لا علة له؛ فإن الله عز وجل هو الذي يبرئه ويشفيه لا الكيّ ولا الدواء، وهذا أمر يكثر فيه شكوك الناس، يقولون: لو شرب الدواء لم يمت، ولو أقام ببلده لم يقتل، ولو اكتوى لم يعطب. وقيل: يحتمل أن يكون نهيه عن الكيّ إذا استعمل على سبيل الاحتراز من حدوث المرض وقبل الحاجة إليه، وذلك مكروه، وإنما أبيح التداوي والعلاج عند الحاجة إليه. ويجوز أن يكون النهي عنه من قبيل التوكل؛ كقوله: «الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُون وَلَا يَكْتَوُون وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، والتوكل درجة أخرى غير الجواز] اهـ.

وقال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص: 462-465، ط. المكتب الإسلامي ومؤسسة الإشراق): [والكيّ جنسان؛ أحدهما: كي الصحيح لئلا يعتل، كما يفعل كثير من أمم العجم: فإنهم يكوون ولدانهم وشبانهم من غير علة بهم؛ يرون أن ذلك الكي يحفظ لهم الصحة، ويدفع عنهم الأسقام.. وكانت العرب تذهب هذا المذهب في جاهليتها، وتفعل شبيهًا بذلك في الإبل إذا وقعت النقبة فيها، وهو جرب، أو العر، وهو قروح تكون في وجوهها ومشافرها، فتعمد إلى بعير منها صحيح، فتكويه ليبرأ منها ما به العر أو النقبة.. وهذا هو الأمر الذي أبطله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال فيه: «لم يَتَوكَّل مَن اكْتَوَى»؛ لأنه ظن أن اكتواءه وإفزاعه الطبيعة بالنار -وهو صحيح- يدفع عنه قدر الله تعالى، ولو توكل عليه وعلم أن لا منجى من قضائه لم يتعالج -وهو صحيح- ولم يكو موضعًا لا علة به؛ ليبرأ العليل.

وأما الجنس الآخر -الكيّ المباح-: فكيّ الجرح إذا نَغِلَ -أي: فسد-، وإذا سال دمه فلم ينقطع، وكيّ العضو إذا قطع أو حسمه، وكيّ عروق من سقى بطنه وبدنه.. وهذا هو الكيّ الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ»، وكوى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ رضي الله عنه لعِلّة كان يجدها في عنقه، وليس هذا بمنزلة الأمر الأول.

ولا يقال لمَن يعالج عند نزول العلة به لم يتوكل؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتعالج وقال: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ»، لا على أن الدواء شاف لا محالة، وإنما يشرب على رجاء العافية من الله تعالى به؛ إذ كان قد جعل لكل شيء سببًا.

ومثل هذا الرزق قد ضمنه الله عز وجل لعباده؛ إذ يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6]، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطلبه وبالاكتساب والاحتراف؛ وقال الله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 267]، ومثله توقّي المهالك، مع العلم بأن التوقّي لا يدفع ما قدره الله جل وعز، وحفظ المال في الخزائن، وبالأقفال مع العلم بأنه لا ضيعة على ما حفظه الله سبحانه، ولا حفظ لما أتلفه الله تعالى، ومثل هذا كثير ممَّا يجب علينا أن لا ننظر فيه إلى الْمَغِيبِ عنا، ويستعمل فيه الحزم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ»] اهـ.

من هنا يظهر أنَّ مقصود الشارع هو النهيُ عن الكيّ الذي يُبادر إليه الصحيح رغبةً في التَّحَصُّن من المرض أو الذي يرتكبه المريض مع وجود غيره ممَّا لا ألم معه من الأدوية، أو مع اعتقاد التأثير الذاتي للكي.

أما المريض الذي غلب على الظن أن الكيّ هو الدواء المناسب له؛ لعدم جدوى غيره من أسباب التداوي فهو: مشروع في حقه؛ للحاجة، ولما فيه من المداواة وإزالة الضرر. ومما سبق يُعلَم الجواب عما جاء بالسؤال.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة