أيهما أفضل الإحرام للعمرة الثانية من التنعيم أم الجعرانة؟ حيث هناك رجلٌ ذاهبٌ لأداء العمرة، وعازِمٌ على تكرار العمرة خلال مُكْثِهِ بمكة، فبالنسبة للإحرام الواجب لأداء العمرة وهو في مكة: ما هو الموضِعُ الذي يُسَنُّ الإحرام منه، هل هو التنعيم أو الجِعرانة، حيث نَصحه بعضُ المُصاحِبين له في الفوج بالإحرام من التنعيم، ونَصحه البعضُ الآخر بالإحرام من الجِعرانة؟
السُّنَّة في الإحرام بالعمرة لمَن كان في الحَرم أن يُحرِم مِن أدنى الحِلِّ، سواءٌ كان ذلك مِن التنعيم أو الِجعرانة، فيُحرِم مِن أيِّهما شاء بحسب ما يَتَيَسَّرُ له، والأمر في ذلك واسِع، وخِلافُ الفقهاء بينهما إنما هو في الأفضَلِيَّة، وإلا فإنهم مُتَّفِقون على جواز الإحرام بالعمرة لمَن كان بمكة مِن أيِّ موضِعٍ في طرف الحِلِّ بلا حرج عليه في ذلك، وقد التزم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم التيسيرَ في هذه المسألة، فاختار الأَيْسَرَ للإحرام فيما ورد عنه مِن قولٍ وفِعل.
وفي واقعة السؤال: فإن الموضِعُ الذي يُسَنُّ كَوْنُ الإحرام بالعُمرة منه لمَن كان داخل الحرم هو التنعيم أو الجِعرانة، فيُحرم مُريدُ العمرة حال كونه داخل حُدود الحَرَم مِن أيِّهما شاء بحسب ما يَتَيَسَّرُ له، ولا حرج عليه في ذلك.
المحتويات
التوفيق لأداء العمرة مِن أجَلِّ نِعَمِ الله تعالى على العَبْد؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْحَاجُّ إِلَى بَيْتِ اللهِ، وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ» أخرجه الأئمة: ابن ماجه في "السنن" واللفظ له، والفاكهي في "أخبار مكة"، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
وقد حَثَّ الشرعُ الشريف على العمرة ورغَّب في أدائها؛ فقال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، وجَعَلها سببًا مِن أسباب مغفرة الذنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» متفق عليه.
تكرار العمرة في السفر الواحد أمرٌ جائزٌ مطلقًا، وهذا قول جماهير علماء المسلمين سَلَفًا وخَلَفًا، فهو مذهب الحنفية، والشافعية، وقولُ جماعةٍ مِن أئمة المالكية كمُطَرِّفٍ، وابنِ المَوَّازِ، وقولُ إسحاق بن راهويه، وروايةٌ عن الإمام أحمد، وحكاه الإمامُ ابنُ المنذِر عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب، وابنِ عُمر، وابنِ عباس، وأنس، وأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنهم، وعطاء، وغيرهم. ينظر: "فتح القدير" لكمال الدين ابن الهمام الحنفي (3/ 137، ط. دار الفكر)، و"مواهب الجليل" لشمس الدين الحطاب المالكي (2/ 467-468، ط. دار الفكر)، و"المجموع" للإمام النووي الشافعي (7/ 147-150، ط. دار الفكر)، و"مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه" (5/ 2271، ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)، و"المغني" للإمام ابن قدامة الحنبلي (3/ 220-221، ط. مكتبة القاهرة).
اتفق الفقهاء على أنَّ مَن أراد الإحرام للعمرة وهو في مكة -سواء كان مِن أهلها أو مِن غير أهلها، مقيمًا أو غير مقيم-: فإنَّ إحرامَه يكون مِن طرف الحِلِّ، والمراد به: كلُّ ما جاوَزَ الحَرَم ولو بخُطوةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ كلَّ مَن أتى على ميقاتٍ فإنه يكون ميقاتًا له، ولأنَّ أداء مناسك العمرة يكون في الحَرَم؛ فيخرُج المعتمر إلى أدنى الحِلِّ ليَجمَعَ بين الحِلِّ والحرم، وليكون بمثابةِ نَوْعِ سَفَرٍ.
وقد ذكر الفقهاءُ موضعَين مِن طَرفِ الحِلِّ للإحرام منهما بالعمرة لمن هو في مكة، ورَدَت السُّنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإحرام منهما، أحدهما: مسجد التنعيم (أو ما يعرف حاليًّا بمسجد أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها)، والآخَر: مسجد الِجعرانة -بتَسكين العين والتخفيف (الجِعْرَانَة)، وقد تُكسَر العَين وتُشَدَّد الراء (الجِعِرَّانَة)-.
فأما التنعيم: فمصدر نَعَّمَه إذا أترفه، وهو اسمُ موضِعٍ قريبٍ مِن مكة، وهو أَقرَبُ أطراف الحِلِّ إلى مكة، ويقال إنَّ بيْنَه وبين مكة أربعة أميال -وتعادل بالقياسات الحديثة سبعةَ كيلومترات تقريبًا- جهة الشَّمال الغربي مِن الحرم المكي؛ كما في "المغرب" لبرهان الدين الخَوَارِزْمِي (ص: 469-470، ط. دار الكتاب العربي)، و"المصباح المنير" للعلامة الفَيُّومِي (2/ 613، ط. المكتبة العلمية)، وسُمِّي بالتنعيم؛ لأنَّ عن يمينه جبلًا يقال له: "نُعَيْم"، وعن شِماله جبلٌ يقال له: "نَاعِم"، واسم الوادي: "نُعمَان"؛ كما في "المجموع" للإمام النووي (7/ 205، ط. دار الفكر)، و"حاشية الشيخ العدوي على شرح مختصر خليل" (2/ 301، ط. دار الفكر).
وأما الِجعرانة: فموضِعٌ في الحِلِّ بين مكة والطائف، وهي على سبعة أميالٍ مِن مكة -وتعادل بالقياسات الحديثة عشرين كيلومترًا تقريبًا- جهة الشَّمال الشرقي مِن الحرم المكي، ويُعرف هذا الموضِع بـ"مسجد الجِعرانة"؛ كما في "المصباح المنير" للعلامة الفَيُّومِي (1/ 102)، و"لسان العرب" لجمال الدين ابن مَنْظُور (4/ 141، ط. دار صادر).
اختلف الفقهاء في التفضيل بين التنعيم والجِعرانة لمن أراد الإحرام بالعمرة مِن الحَرم مِن حيث الأَوْلَوِيَّة:
فذهب الحنفية، والإمام أبو إسحاق الشيرازي مِن الشافعية، والحنابلة في أَحد الوجهين، إلى أنَّ الإحرام مِن التنعيم أَوْلَى وأَفضَل؛ حيث قد أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمَّ المؤمنين السيدةَ عائشةَ رضي الله عنها أن تُحرِم مِن التنعيم.
قال علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 167، ط. دار الكتب العلمية): [والأفضل أن يُحرِم مِن التنعيم؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَحرَم منه، وكذا أصحابه رضي الله عنهم كانوا يُحرِمون لعُمرتهم منه، وكذلك مَن حصل في الحَرَم مِن غير أهله فأراد الحج أو العمرة فحُكمُه حُكمُ أهل الحرم؛ لأنَّه صار منهم.. وإذا أراد أن يُحرِم بالعمرة يَخرُج إلى التنعيم، ويُهِلُّ بالعمرة في الحِلِّ] اهـ.
وقال الإمام الشِّيرَازِي الشافعي في "التنبيه" (ص: 79، ط. عالم الكتب): [إذا أراد العمرة أَحرَم مِن الميقات، فإن كان مِن أهل مكة خَرَجَ إلى أَدنى الحِلِّ، والأفضل أنْ يُحرِم مِن التنعيم] اهـ.
وقال علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 54، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: (والأفضل أن يُحرِم مِن التنعيم) هذا أَحدُ الوجهين، جَزَم به في "الهداية"، و"المذهب"، و"مسبوك الذهب"، و"الخلاصة"، و"الشرح"، و"شرح ابن مُنَجَّى"] اهـ.
وذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة في الوجه الآخَر، إلى أنَّ الإحرام من الجِعرانة أَوْلَى، ثُمَّ يَلِيهَا في الفَضْل التنعيمُ؛ لإحرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها في عُمرته حين قَسم غنائم حُنَيْن، ولكونها أَبعَدَ من التنعيم.
قال شمس الدين الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (3/ 28، ط. دار الفكر) في ميقات الإحرام بالعمرة لمن هو في مكة: [(ولَهَا وللقِرَان: الحِلُّ، والجِعرانة أَوْلَى، ثُم التنعيم) ش: يعني أنَّ الميقاتَ المكاني للعُمرة والقِرَان لِمَن كان بمكة طرفُ الحِلِّ مِن أيِّ جهةٍ كانت ولو بخُطوةٍ واحدة، والأفضل أنْ يَبْعُدَ عن طرف الحِلِّ، وأفضل جهات الحِلِّ الجِعرانة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتَمَر منها، ولِبُعْدِهَا، ثُمَّ يَلِيهَا في الفضل التنعيم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَمر السيدة عائشة رضي الله عنها أنْ تَعْتَمِرَ منها] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (7/ 206، ط. دار الفكر): [قال الشافعي والأصحاب: إنَّ الإحرامَ بالعمرة مِن الجِعرانة أفضلُ مِن التنعيم، فكَيْفَ أَعْمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عائشة رضي الله عنها مِن التنعيم؟! (فالجواب) أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أَعْمَرَهَا منه لِضِيقِ الوقت عن الخروج إلى أَبْعَدَ منه، وقد كان خروجُها إلى التنعيم عند رَحِيل الحاج وانصِرَافِهِم، وَوَاعَدَهَا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مَوضِعٍ في الطريق، هكذا ثَبَتَ في "الصحيحين"، ويحتمل أيضًا بيان الجواز مِن أدنى الحِلِّ، والله أعلم] اهـ.
وقال شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (3/ 263، ط. دار الفكر): [(وميقات العمرة) المكاني.. (ومَن) هو (بالحرم) مَكِّيًّا أو غيره (يلزمه الخروج إلى أدنى الحِلِّ ولو بخطوة) أيْ بقليلٍ مِن أيِّ جانبٍ شاءَ؛ لِلْجَمْعِ فيها بين الحِلِّ والحَرَم، (وأفضل بقاع الحِلِّ) للإحرام بالعمرة (الجِعرانة) لِلِاتِّباع.. (ثم التنعيم)] اهـ.
وقال الإمام المَرْدَاوِيُّ الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 54): [قوله: (والأفضل: أن يُحرِم مِن التنعيم) هذا أَحد الوجهين، والوجه الثاني: أنَّ الأفضلَ أنْ يُحرِم مِن الجِعرانة، جَزَم به في "المستوعب"، و"التلخيص"، و"البُلغة"، و"الرِّعايَتَين"، و"الحاوِيَين"، و"الفائق" ذكره في باب المواقيت وأطلَقَهما في "الفروع"، وقال: ظاهِرُ كلام الشيخ -يعني به المصنِّف-: الكُلُّ سواءٌ] اهـ.
ممَّا سبق يُعلَم أنَّ الأصلَ في هذا الخلاف بين الفقهاء هو ترجيحُهم بين فِعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأَمْرِهِ، فمَن رجَّح الأمْرَ قدَّم التنعيم على الجِعرانة، ومَن رجَّح الفِعل قدَّم الجِعرانة على التنعيم.
والمُتَأَمِّلُ في الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن قولٍ وفِعلٍ، يَجدُ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد اختارَ الأَيْسَرَ في كِلَيْهِما كما هو المعهود عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
فأَحْرَم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مِن الجِعرانة أثناء عودته مِن وادي حُنَيْنٍ حيث تقع منطقة الجِعرانة بيْنه وبيْن مكة المكرمة، أمَّا أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فكانت بمكة، وأقرَب الحِلِّ إلى مكة هو التنعيم، فأَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنْ تُحرِمَ منه.
بناءً على ذلك: فإنَّ السُّنَّة في الإحرام بالعمرة لمَن هو في الحَرم أن يُحرِم مِن أدنى الحِلِّ، سواءٌ كان ذلك مِن التنعيم أو الِجعرانة، فيُحرِم مِن أيِّهما شاء بحسب ما يَتَيَسَّرُ له، والأمر في ذلك واسِع، وخِلافُ الفقهاء بينهما إنما هو في الأفضَلِيَّة، وإلا فإنهم مُتَّفِقون على جواز الإحرام بالعمرة لمَن هو بمكة مِن أيِّ موضِعٍ في طرف الحِلِّ بلا حرج عليه في ذلك، وقد التزم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم التيسيرَ في هذه المسألة، فاختار الأَيْسَرَ للإحرام فيما ورد عنه مِن قولٍ وفِعل؛ كما سبق بيانه.
وفي واقعة السؤال: الموضِعُ الذي يُسَنُّ كَوْنُ الإحرام بالعُمرة منه لمَن كان داخل الحرم هو التنعيم أو الجِعرانة، فيُحرم مُريدُ العمرة حال كونه داخل حُدود الحَرَم مِن أيِّهما شاء بحسب ما يَتَيَسَّرُ له، ولا حرج عليه في ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.