ما حكم إطلاق لفظ العيد على المولد النبوي الشريف؛ حيث يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في كل عام، ويقيمون له الولائم ويصنعون الحلوى ويتزاورون كما يفعلون في الأعياد، ويسميه البعض "عيد المولد النبوي"، فهل المولد النبوي من الأعياد حتى يكون كذلك؟
الأمر الذي لا يتردد فيه شاكٌّ، ولا يغفله عاقل: أنه لا نعمة تستحق أنْ يسعد بها المسلم ويهنأ حتى يَعُدَّ يوم حدوثها عيدًا، كنعمة ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوجود، واحتفال المسلمين بالمولد النبوي الشريف في كل عام، وإقامة الولائم، وصناعة الحلوى، والتزاور فيما بينهم إيذانًا باحتفالهم وابتهاجهم كما يفعلون في الأعياد، بل وإطلاق اسم "عيد المولد النبوي" على هذا اليوم؛ كل هذا مِن الأمور المشروعة المندوب إليها بالاتفاق.
المحتويات
العيد في اللغة: مشتق من العَوْد، ويطلق عند العرب ويراد به الوقت الذي يعود فيه الفرح أو الحزن، والجمع: أعياد.
قال العلَّامة ابن الأنباري [ت: 328هـ] في "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/ 292، ط. مؤسسة الرسالة): [العيد: ما يعتاد من الشوق والحزن] اهـ.
وقال العلَّامة ابن فارس [ت: 395هـ] في "مجمل اللغة" (ص: 638-639، ط. مؤسسة الرسالة): [العيد: ما اعتادك مِن هَمٍّ أو غيره] اهـ.
قد اعتاد الناس منذ القرون السالفة أن يطلقوا على أيام المناسبات الطيبات والأفراح والمسرات أعيادًا؛ إذ يقصدون مِن ذلك ما يعود عليهم فيه مِن الذكرى الحسنة والبشر والسعادة والسرور، وقد أقرَّ الشرع ذلك منهم؛ كما في قصة سيدنا عيسى عليه السلام؛ حيث ضمَّن في دعائه لله تعالى أن يكون نزول المائدة عليهم عيدًا لهم يحتفلون به؛ قال تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: 114]، إذ لَمَّا كان في نزولها تأييدٌ مِن الله تعالى له ومعجزةٌ ودلالةٌ على نبوته؛ استحق يومُ نزولها أن يتجدد السرور به في كل عام؛ قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (11/ 225، ط. مؤسسة الرسالة): [عن السدي: قوله: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نُعظِّمه نحن ومَن بَعدنا] اهـ.
وإطلاق لفظ "العيد" على كل ما يعود على الناس مِن أيامٍ تحمل في طياتها ذكرى حسنةً أو سعادةً وسرورًا؛ هو من أصل الوضع اللغوي والعرفي لهذا اللفظ.
قال العلامة الحدَّاد في "الجوهرة النيرة" (1/ 93، ط. المطبعة الخيرية): [وسمي العيد عيدًا: لأنَّ لله تعالى فيه عوائد الإحسان إلى العباد. وقيل: لأنَّ السرور يعود بعوده] اهـ.
وقال العلَّامة شيخي زاده في "مجمع الأنهر" (1/ 172، ط. دار إحياء التراث العربي): [وسُمِّيَ يوم العيد بالعيد: لأن لله فيه عوائد الإحسان إلى عباده، أو لأنه يعود ويتكرر، أو لأنه يعود بالفرح والسرور] اهـ.
وقال العلَّامة الزمخشري في "الكشاف" (1/ 693، ط. دار الكتاب العربي): [وقيل: العيد: السرور العائد، ولذلك يقال: يوم عيد] اهـ.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3/ 289، ط. دار الوفاء): [وسُمِّيَ العيدُ عيدًا: لأنه يعود ويتكرر لأوقاته. وقيل: بل بعوده بالفرح والسرور على الناس. وقيل: تفاؤلًا لأنْ يعود على مَن أدركه] اهـ.
وقال العلَّامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (7/ 108، ط. الدار التونسية): [العيد: اسمٌ ليومٍ يعودُ كل سنة، ذِكرى لنعمةٍ أو حادثةٍ وقعت فيه؛ للشكر أو للاعتبار] اهـ.
أما الاعتراض بعدم جواز تسمية الأيام بالأعياد؛ بدعوى أنَّ الشَّرع الشريف لم يجعل للمسلمين إلا عيدين فقط؛ هما: الفطر والأضحى؛ استدلالًا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في يومِ فِطرٍ أو أضحى -وكان عندها قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بما تَقَاذَفَت الأنصارُ يوم بُعَاث-: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا» متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: «وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا اليَوْمُ».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَدِمَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المدينةَ ولهم يَوْمَانِ يلعبون فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» قالوا: كنا نلعبُ فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود -واللفظ له- والنسائي في "السنن".
فالجواب على هذا الاعتراض مِن عدة وجوه؛ منها:
أولًا: أنَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ» يقتضي ترك المبدل منه بالمبدل به، والمبدل منه هنا: خصوص اليومين اللذين كانا بالجاهلية؛ لارتباطهما بأعياد المشركين وعبادتهم، ولا يعني ذلك أنه قد قَصَرَ أن يكون للمسلمين أيُّ عيدٍ غير الفطر والأضحى؛ ودليل ذلك: أنَّ الشرع الشريف قد سمَّى كلًّا مِن يومَي الجمعة وعرفة عيدًا؛ لما يعتاد فيهما مِن الاجتماع بين المسلمين، وما يصاحب ذلك مِن أداء العبادة مع مظاهر المؤانسة والمشاركة الاجتماعية، مما يعود على الناس بالسعادة والسرور، مع كونهما لم يرد ذكرهما في حديث الإبدال، فأفاد ذلك أنَّ إطلاق لفظ "العيد" على يومَي الفطر والأضحى إنما هو مِن قبيل التغليب لا مِن قبيل قصر التسمية عليهما فقط.
ففي خصوص يوم الجمعة: ورد عن ابْنِ السَّبَّاقِ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام الشافعي في "المسند"، وعبد الرزاق في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"معرفة السنن والآثار".
وفي خصوص يوم عرفة وما بعده من أيام التشريق: ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ: عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهُنَّ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود والترمذي والنسائي في "السنن"، وابن حبان وابن خزيمة في "الصحيح".
قال قوام الدين الكاكي فيما نقله عنه العلامة الملا خسرو في "درر الحكام" (1/ 141، ط. دار إحياء الكتب العربية): [العيد: يوم مجمع، سُمِّيَ بذلك؛ لأنه مِن العَوْد وهم يعودون إليه مرة بعد أخرى، وهو من الأسماء الغالبة على يوم الفطر والأضحى] اهـ.
وقال بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (11/ 109، ط. دار إحياء التراث العربي): [يجب فطر يوم عرفة للحاج.. وقيل: لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده: ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ منًى: عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ»] اهـ.
وقال العلَّامة شيخي زاده في "مجمع الأنهر" (1/ 172) في تسمية الفطر والأضحى بـ"العيد": [وهو مِن الأسماء الغالبة على يوم الفطر والأضحى] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص: 275، ط. دار ابن حزم): [فالجمعة: مِن الاجتماع على سماع الذكر والموعظة وصلاة الجمعة، وجعل ذلك لهم عيدًا] اهـ.
وقال أيضًا (ص: 279): [ولما كان عيد النحر أكبر العيدين، وأفضلهما، ويجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم؛ كانت لهم فيه معه أعياد قبله وبعده، فقبله يوم عرفة وبعده أيام التشريق، وكل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم، كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه] اهـ.
ويضاف إلى ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبَّر عنهما بـ"اليوم" كما عبَّر عنهما بـ"العيد"، فلما صح أنْ يطلق عليهما "يوم الفطر" و"يوم الأضحى"؛ أفاد أنَّ استخدام لفظ "العيد" فيهما إنما هو لمناسبة حالهما مِن إظهار السعادة والسرور فيهما، لا أنّه مصطلحٌ خاصٌّ بهما لا يُطلَق على غيرهما، ولذا فإنَّ كل ما ناسبه ذلك المعنى مِن الفرح والسرور مِن الأيام صَحَّ أنْ يطلق عليه ما أطلقه الشرع عليهما؛ قال شمس الدين الكرماني في "الكواكب الدراري" (6/ 62، ط. دار إحياء التراث العربي): [يريد بقوله: «هَذَا عِيدُنَا» أنَّ إظهار السرور في العيدين مِن شعار الدين وإعلاء أمره. قيل: وفيه دليلٌ أنَّ العيد موضوع للراحات، وبسط النفوس إلى ما يحل مِن الدنيا.. ألا ترى أنه أباح الغناء من أجلِ عذر العيد!] اهـ.
ثانيًا: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقر الناس على الفرح، والاحتفال بمناسباتهم السعيدة، ومآثرهم الحسنة، بل وسمَّاها بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم "أعيادًا"، وأباح لهم فيها ما يباح لهم في الأعياد مِن التهنئة، والترويح عن النفس، والتزاور فيما بينهم؛ فروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنَّ أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها، يومَ فطرٍ أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصارُ يومَ بُعَاث، فقال أبو بكر رضي الله عنه: مزمار الشيطان! مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا اليَوْمُ». وفي لفظ في "الصحيحين": «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ»، وفي لفظ لأبي عوانة في "مستخرجه على صحيح مسلم" بلفظ: «دَعْهُمَا؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عيدنا».
ثالثًا: أنَّ أيام المسرات وأحداث الخير التي تعود ذكراها على الناس وطِيب شذاها لَمَّا أشبهت العيد في إدخال السرور والسعادة على النفوس: صح إطلاقه عليها مِن باب التشبيه؛ كما أطلق الشرع الشريف على الجمعة عيدًا لَمَّا أشبهت العيد في الاجتماع والعود والسرور.
قال العلَّامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 98، ط. دار الفكر): [وإن كان قد جاء أن يوم الجمعة عيد المؤمنين: فمن باب التشبيه؛ بدليل أنه عند الإطلاق لم يتبادر الذهن إلى الجمعة ألبتة؛ إذ لا يلزم اطراد وجه التسمية. وقيل: لعوده بالفرح والسرور على الناس. والعيد أيضًا: ما عاد مِن هَمٍّ أو غيره] اهـ.
وقال العلَّامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 523، ط. دار المعارف): [وما ورد مِن تسمية الجمعة عيدًا: فمن باب التشبيه؛ بدليل أنه عند الإطلاق لم يتبادر للذهن الجمعة ألبتة] اهـ.
وقال العلَّامة الماوردي الشافعي في "الحاوي" (2/ 487، ط. دار الكتب العلمية): [المختار للناس في هذا اليوم مِن الزينة، وحسن الهيئة، ولبس العمائم، واستعمال الطيب، وتنظيف الجسد، وأخذ الشعر، واستحسان الثياب، ولبس البياض: ما يختاره في يوم الجمعة وأفضل؛ لأنه يوم زينة؛ ولأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في جمعة مِن الْـجُمَع: «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ عِيدًا لَكُمْ؛ فَاغْتَسِلُوا»، فلما أمر بذلك في الجمعة تشبيهًا بالعيد كان فعله في العيد أولى] اهـ.
وقال العلَّامة البرماوي في "اللامع الصبيح" (14/ 172، ط. دار النوادر): [(عيدان) أي: يوم الجمعة ويوم العيد، وإنما سُمِّي يومُ الجمعة عيدًا؛ لأنه زمانُ اجتماعِ المسلمين في مَعبَدٍ عظيمٍ لإظهارِ شعارِ الشريعة كيوم العيد، فأُطلق عليه "عيدٌ" تشبيهًا] اهـ.
رابعًا: أنَّ انصراف لفظ "العيد" إلى يومَي الفطر والأضحى إذا أُطلق إنما هو لما يتعلق بهما مِن أحكام فقهية، وآداب شرعية لا ينبغي لمسلمٍ إهمالها؛ كالاغتسال، والصلاة، والأضحية، وزكاة الفطر، والتزاور وغير ذلك، ولا يمنع هذا مِن إطلاق لفظ "العيد" على غيرهما مِن الأيام سواء أكانت قومية أم مجتمعية أم شخصية مع كونها لا يترتب عليها شيء من هذه الأحكام أو الآداب؛ إذ إنَّ كلَّ يومٍ يمر على الإنسان وهو غارق في نعم الله تعالى أو مستغرق في عبادته يصح كونه عيدًا له، ولا نعمة على العبد تستحق سعادة العيد، كنعمة ميلاد خير الأنام؛ إذ هو النعمة العظمى، والمنة الكبرى، رحمة الله للعالمين، وسبب النجاة في الدنيا والدين ويوم يقوم الناس لرب العالمين.
فعن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: "كُلُّ يَوْمٍ لَا يَعْصِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ الْعَبْدُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ" أخرجه الإمام عبد العزيز الكتاني في "مسلسل العيدين" (ص: 47، ط. مكتبة الفؤاد).
قال العلَّامة العدوي في "حاشيته على شرح مختصر خليل" (2/ 98، ط. دار الفكر) في سبب تسمية العيد بذلك: [قوله: (وقيل: لِعَوْدِهِ بالفرح)؛ أي: وقيل: تفاؤلًا بأن يعود على مَن أدركه من الناس.. قوله: (والعيد أيضًا: ما عاد مِن هَم.. إلخ) ظاهره: أنه مقولٌ بالاشتراك على اليوم المعروف، وعلى ما عاد، ويدخل في الغير: يوم الجمعة؛ لأنه يعود] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب في "تفسيره" (1/ 393-394، ط. دار العاصمة): [أمَّا خواصُّ المؤمنينَ: فكل يوم لهم عيدٌ؛ كما قالَ بعضُ العارفينَ. ورُوي عن الحسن: كلُّ يومٍ لا يُعصَى اللهُ فيه فهو عيدٌ.. فالأعيادُ الثلاثةُ المجتمَعُ عليها تتعلقُ بإكمال الصلاةِ والصيامِ والحج، فأمَّا الزكاة: فليس لها زمانٌ معينٌ تكملُ فيه، وأما الشهادتانِ: فإكمالُهما هو الاجتهادُ في الصدق فيهما، وتحقيقِهما، والقيامِ بحقوقِهما، وخواصُّ المؤمنينَ يجتهدون على ذلكَ كلَّ يومٍ ووقتٍ، فلهذَا كانتْ أيامُهُم كلُّها أعيادًا] اهـ.
الأمر الذي لا يتردد فيه شاكٌّ، ولا يغفله عاقل: أنه لا نعمة تستحق أنْ يسعد بها المسلم ويهنأ حتى يَعُدَّ يوم حدوثها عيدًا، كنعمة ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوجود؛ إذ هو النور لكلِّ الوجود، والوسيلة العظمى لكلِّ موجود، ورحمة الله للعالمين؛ فلولاه ما سعد إنسان؛ إذ كيف يسعد دون طوق النجاة، فالحقيقة أنَّ يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم عيدٌ للإسلام، بل هو "أعظم مِن كل عيد، وهو حقيقٌ بذلك وجدير"؛ كما قال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في "كوثر المعاني الدراري" (1/ 72، ط. مؤسسة الرسالة)، وأنَّ "أفضل الليالي على الإطلاق: ليلة المولد الشريف؛ لما ترتب على ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم فيها من النفع العميم، والخير العظيم"؛ كما قال العلَّامة الباجوري في "حاشيته على شرح العلامة الغزِّي على متن أبي شجاع" (1/ 404، ط. دار الكتب العلمية)، بل هو أَوْلى مِن العيدين وليلتهما؛ لأنَّ شرفهما راجع لزمانهما، بينما مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم "لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان هو الذي يتشرف به كالأماكن"؛ كما قال شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (1/ 86، ط. المكتبة التوفيقية)، ونجم الدين الغيطي [ت: 982هـ] في "بهجة السامعين" (ص: 102، ط. مجلة الأزهر الشريف)، وإذا كان الناس قد اعتادوا أنْ يظهروا فرحتهم، واحتفالهم في أيام الأعياد بمظاهر مِن إقامتهم الولائم واجتماعهم على الطعام باعتبار "أنَّ العيد موضوعٌ للراحات، وَبسط النُّفوس والأكل وَالشرب"؛ كما قال بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (6/ 274)؛ علاوة على أنَّ "اتخاذ الوليمة، وإطعام الطعام مستحب في كل وقت؛ فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف"؛ كما ذكره العلَّامة الحسن بن عمر بن الحاج إدريس في "شفاء السقيم بمولد النبي الكريم" المطبوع ضمن "مجموع لطيف أنسي" (ص: 136، ط. دار الكتب العلمية) نقلًا عن الإمام أبي زرعة العراقي؛ فإنَّ "إظهار السرور في العيد مِن شعار الدين"؛ كما قال العلامة أبو سليمان الخطابي في "أعلام الحديث" (1/ 595، ط. جامعة أم القرى)، وإذا اعتادوا أنْ يصنعوا فيها الحلوى، ويتهادونها بهجةً وتوسعةً وفرحًا؛ فإنَّ عيد مولد النبي الأكرم، ذي الجناب الأعظم، والمقام الأفخم صلى الله عليه وآله وسلم أَوْلى بذلك؛ فقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" متفق عليه مِن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإذا زادوا على كلِّ ذلك بذل "الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور؛ فإنَّ ذلك مع ما فيه مِن الإحسان إلى الفقراء مشعرٌ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله"؛ كما قال الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص: 23، ط. دار الهدى)، "وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا مِن أكبر أعيادهم"؛ كما قال مفتي مكة المكرمة قطب الدين النهروالي في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196، ط. العامرة العثمانية)، "فرحم اللهُ امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا"؛ كما قال شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (1/ 90).
كما أنَّ كل مسلم يدرك تمام الإدراك أنه لولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان لعيد الفطر سرور، وما كان للأضحى حلول، فبه كانت الأعياد أعيادًا، ولأجله شرعت؛ لأنه صاحب الشريعة، وسيد الخلق والخليقة، ولذا فإنَّ السعادة بمولده الشريف تربو على السعادة بكل عيد، فَصَحَّ عند كل ذي لُبٍّ حكيم، وقلبٍ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هائمٍ ومنيرٍ، أنْ يَرْبُوَ مولدُه عندَه على كل عيد؛ إذ هو للأعياد ذاتها عيدٌ؛ فلا يَصِحُّ أنْ تُضاهِيَه، ولا يمكن أنْ توازِيَه، بل هي مستفادة منه، ونابعة عنه؛ فاستحق أن يكون سيدها، وكان أحقَّ بما يُفعل فيها مِن "إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلباسٍ فاخرِ الثياب، وركوبٍ فَارِهِ الدواب"؛ كما قال العلَّامة ابن عباد في "رسائله الكبرى" فيما نقله عنه شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 407، ط. دار الفكر).
ومِن أدلة كون هذا اليوم عيدًا: أنَّ الزمان والمكان لا يشرفان لذاتهما، وإنما يشرفان بشرف ما اتصل بهما، ولذا كان مِن أسباب كون يوم الجمعة عيدًا: أنَّ آدم عليه السلام ولد فيه؛ فدل ذلك على أنَّ يوم ميلاده صلى الله عليه وآله وسلم عيد، بل هو أفضل الأعياد؛ لأنه أفضل الخلق أجمعين، وسيد الأنبياء والمرسلين، بل فَضْلُهُ على سائر العالمين.
قال العلَّامة ابن الحاج في "المدخل" (2/ 26-29، ط. دار التراث): [(فصل) فإنْ قال قائلٌ: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خُصَّ مولده الكريم بشهر ربيع الأول، وبيوم الإثنين منه على الصحيح والمشهور عند أكثر العلماء، ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة القدر، واختص بفضائل عديدة، ولا في الأشهر الحرم التي جعل الله لها الحرمة يوم خلق السماوات والأرض، ولا في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم الجمعة ولا في ليلتها؟ فالجواب من أربعة أوجه.. الوجه الرابع: شاء الحكيم سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام تتشرف به الأزمنة والأماكن، لا هو يتشرف بها، بل يحصل للزمان والمكان الذي يباشره عليه الصلاة والسلام الفضيلةُ العظمى، والمزيةُ على ما سواه من جنسه إلا ما استثني من ذلك لأجل زيادة الأعمال فيها وغير ذلك؛ فلو ولد صلى الله عليه وآله وسلم في الأوقات المتقدم ذكرها لكان ظاهره يوهم أنه يتشرف بها، فجعل الحكيمُ جَلَّ جَلَالُهُ مولدَهُ صلى الله عليه وآله وسلم في غيرها؛ ليظهر عظيم عنايته سبحانه وتعالى به وكرامته عليه] اهـ.
قد وردت تسمية المولد النبوي الشريف بـ "عيد المولد" في نصوص الفقهاء والمؤرخين، ومنهم:
- سيدي الحاج أبو العباس أحمد بن عاشر السلاوي المالكي [ت: 765هـ]، والعلَّامة ابن عباد [ت: 792هـ]؛ قال شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 407) نقلًا عن الإمام ابن عبَّاد في "رسائله الكبرى": [وأما المولد: فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يُفعل فيه ما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلبسٍ فاخر الثياب، وركوبٍ فاره الدواب: أمرٌ مباحٌ لا يُنكَر على أحدٍ؛ قياسًا على غيره من أوقات الفرح، والحكم بكون هذه الأشياء بدعةً في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم الشهود، وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان: أمرٌ مُستَثقَلٌ تَشمئز منه القلوب السليمة، وتدفعه الآراء المستقيمة] اهـ.
- وتقي الدين أبو الطيب المكي الحسيني [ت: 832هـ] في "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" (2/ 363، ط. دار الكتب العلمية)؛ حيث قال: [خرج الشريف إدريس ليلة عيد المولد] اهـ.
- والحافظ الحُجة أبو عبد الله القوري [ت: 872هـ] وغيرُه؛ وذلك فيما حكاه الشيخ زروق [ت: 899هـ] في "شرحه على المقدمة القرطبية" (ص: 241، ط. دار ابن حزم).
- وشهاب الدين القسطلاني [ت: 923هـ] في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (ص: 90)؛ إذ يقول: [فرحم اللهُ امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا] اهـ.
- ومفتي مكة المكرمة قطب الدين النهروالي [ت: 990هـ] في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196)؛ حيث يقول: [وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا من أكبر أعيادهم] اهـ.
- والعلَّامة عبد الملك بن حسين العصامي المكي [ت: 1111هـ] في "سمط النجوم العوالي" (4/ 496، ط. دار الكتب العلمية)؛ بقوله: [ساروا إلى مصر فدخلوها ليلة عيد المولد] اهـ.
-وقال العلَّامة محمد بن سيدي جعفر الكتاني [ت: 1345هـ] في "اليُمن والإسعاد بمولد خير العباد" (ص: 16، ط. المكتبة الشرقية): [ثم ليلتا المولد الشريف المكرم والمعراج النبوي المعظم: يظهر أنهما خير ليالي الدنيا بلا تردد ولا ثنيا؛ لما ظهر ووجد فيهما مما لم يكن ظهوره ولا وجوده في غيرهما، وكذا اليوم الذي يسفران عنه: أفضل الأيام كما ينبغي الجزم به في هذا المقام، وإذا كانا هكذا؛ فهما جديران باتخاذ أمثالهما من بعدهما عيدًا من الأعياد، وموسمًا من مواسم الخير والاجتهاد؛ فتُحترم وتُعظَّم، ويُتلى فيها كتاب الله المُعَظَّم، ويُعمَل في محجتها ما يدل على الفرح والسرور بفضيلتها، والشكر له تعالى ما أنعم به في نظيرتها] اهـ.
- وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي [ت: 1354هـ] في "كوثر المعاني الدراري" (1/ 72) مؤكدًا هذه التسمية: [ما زال المسلمون يُعظِّمون المولد الشريف، جاعلين له عيدًا أعظم مِن كل عيد، وهو حقيقٌ بذلك وجدير] اهـ.
لأجل تحقق يوم المولد النبوي بمعاني العيد وحقيقته، ذهب متأخرو المالكية إلى كراهة صومه؛ إلحاقًا له بالعيد في الجملة.
قال شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 407) نقلًا عن ابن عبَّاد في "رسائله الكبرى": [ولقد كنتُ فيما خَلَا مِن الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله، وجماعةً من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعامًا مختلفًا ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك، أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنت إذ ذاك صائمًا، فقلت لهم: إنني صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، يستقبح في مثله الصيام؛ بمنزلة يوم العيد، فتأملت كلامه فوجدتُه حقًّا، وكأنني كنت نائمًا فأيقظني] اهـ.
وقال الشيخ زروق [ت: 899هـ] في "شرحه على المقدمة القرطبية" (ص: 241، ط. دار ابن حزم): [وصيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح ورعه وعلمه قائلًا: "إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألَّا يصام فيه"، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يذكر ذلك كثيرًا ويستحسنه] اهـ، ونقله عنه شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 406).
وقال الشيخ عليش [ت: 1299هـ] في "منح الجليل" (2/ 123، ط. دار الفكر): [ويكره صوم يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلحاقًا له بالعيد في الجملة] اهـ.
بل قد حكى الشيخ ابن مزُّور في "شفاء السقيم بمولد النبي الكريم" المطبوع ضمن "مجموع لطيف أنسي في صيغ المولد النبوي القدسي" (ص: 140) انعقادَ الإجماع بعد القرون الثلاثة الأولى على اعتبار يوم المولد النبوي الشريف "عيدًا"، مرجحًا القول بكراهة الصوم فيه لهذا الاعتبار، وحاملًا القول الآخر باستحبابه على ما قبل ذلك؛ حيث ساق شعرًا من "همزية" ابن زكري [ت: 1144هـ]؛ جاء فيه:
يَوْمُ مَوْلِدِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْيَا دِ فَضْلُهُ فِي الوُضُوحِ ضُحَاْءُ
وَلِلَيْلَتِهِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْ رِ عُلُوٌّ بِقُرْبِهِ وَزَكَاءُ
ثم قال (ص: 140): [ولا يخفى عليك أنَّ الأظهر: كراهة صيام يوم المولد؛ لوضوح علته المشار لها في كلام العارف ابن عباد ونقلها الشيخ زروق، وأما ما ذكره الإمامان الحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ ابن حجر الهيتمي مِن تعليل استحسان صيامه بأنه مِن مقابلة النعم في أوقاتِ تجددها بالشكر قياسًا على يوم عاشوراء: فغير ظاهر؛ لأنَّ شرط القياس المساواة كما تقرر في الأصول، فإنَّ يوم عاشوراء ورد عن الشرع الترغيب في صيامه بالخصوص وليس يوم عيد، وإنما هو موسم مِن المواسم الفاضلة المرغّب في صيامها، وأما يوم المولد: فهو وإن كان الأصل إباحة صيامه، بل أفضليته؛ لكونه من الأيام الفاضلة، لكن لما انعقد الإجماع مِن بعد القرون الثلاثة على اتخاذه عيدًا من أعياد المسلمين، وإجماعهم حجة، ولا تجتمع الأمة على ضلالة، فالأولى قياسه على سائر الأعياد في الجملة، فهو من باب تعارض المانع والمقتضي؛ فالمقدم: المانع، وإنما لم يحرم صيامه كغيره من الأعياد؛ لأنه لم يكن عيدًا في زمن النبوة ولا في القرون الثلاثة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالخيرية، فلذا كره فقط نظرًا للإجماع المذكور، واتخاذه عيدًا وإنْ كان بدعة لغوية؛ لكنَّ البدعة اللغوية تعرض لها الأحكام الخمسة كما هو مقرر، وأما تعليلهما استحسان الصيام بأنه مِن مقابلة النعم في أوقاتِ تجددها بالشكر؛ فنقول: إنَّ ذلك ليس على إطلاقه، بل محله ما لم يمنع منه مانع كما علمته هنا، والله تعالى أعلم] اهـ.
فأفاد بذلك الجمع بين القولين؛ باختلاف الزمانين، والجمع بينهما هو الأَوْلى؛ لما تقرر في قواعد الشرع أنَّ "الْجَمْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ"؛ كما في "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (1/ 401، ط. دار الكتاب العربي)، وأنَّ "إِعْمَالَ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية)؛ فإذا ما انعقد الإجماع على اعتبار يوم المولد النبوي الشريف "عيدًا"، بل هو سيد الأعياد؛ كُره الصيامُ فيه، وهذا هو المناسب لمقام الفرح المعتبر شرعًا؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57-58].
قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (17/ 269، ط. دار إحياء التراث العربي): [فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى، وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة، فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره، ولما نبه الله تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الإلهية قال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، والمقصود منه: الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية] اهـ.
هذا، وقد درج المصريون عبر العصور على جعل يوم مولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم عيدًا، وبدأ الاحتفال به بصورة عامة ورسمية منذ عام (973هـ)، وتوالت احتفالات المصريين به بعد ذلك؛ حتى عُرفوا بحبهم للاحتفالات الدينية؛ لأن الله تعالى لَمَّا وهبهم صدق المحبة والاتباع؛ أنعم عليهم بمعرفة قدر هذا المولد الجليل الذي امتنَّ اللهُ به على الخلق أجمعين، فصاروا كل عام يجددون فيه الفرح والسرور برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخصَّصوا لأجْله المنح المالية؛ كما في "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي" للعلامة حسن السندوبي (ص: 24، ط. الاستقامة)، وقرَّروا أن يكون اليومُ الموافقُ ليوم مولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم عطلةً من العطلات الرسمية السنوية؛ كما في "التراتيب الإدارية" للعلامة عبد الحي الكتاني (2/ 200، ط. دار الأرقم)، وكما نقل الحفاظ والمؤرخون هذا الحدث العظيم ضمن عادات الدولة الرسمية التي يقوم عليها كبراؤها وقادتها؛ كالحافظ ابن حجر العسقلاني [ت: 852هـ] في "إنباء الغمر بأنباء العمر"، وجمال الدين ابن تغري بردي [ت: 874هـ] في "النجوم الزاهرة" في جملة حوادث الأعوام، ولا فرق في ذلك كله بين مسلم وغيره، بل هو توسعة على المجتمع كله وفسحة؛ أسوةً بمن هو أجودُ بالخير مِن الريح المرسلة صلى الله عليه وآله وسلم في كل نَفَس وَلَمْحَة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ فقد تأثرت الشخصية المصرية بفحوى الأوامر الشرعية، حتى اعتادت تحويلها إلى قيم حضارية، وممارسات سلوكية، فمارست العبادات قولًا وفعلًا، وعاشت الدين شرعًا وطبعًا؛ إذ هداها حُبُّ النبي الأمين، وحُبُّ آل بيته الطيبين الطاهرين؛ صلى الله عليه وآله وسلم في كل وقت وحين، إلى صراط الله المستقيم، ومِنهاجه القويم، حالًا ومآلًا؛ فصدق عليهم قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 52-53].
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ احتفال المسلمين بالمولد النبوي الشريف في كل عام، وإقامة الولائم، وصناعة الحلوى، والتزاور فيما بينهم إيذانًا باحتفالهم وابتهاجهم كما يفعلون في الأعياد، بل وإطلاق اسم "عيد المولد النبوي" على هذا اليوم؛ كل هذا مِن الأمور المشروعة المندوب إليها بالاتفاق.
والله سبحانه وتعالى أعلم.