ما حكم زيارة المزارات التاريخية الدينية بالمدينة المنورة؟ فإني قدِمتُ المدينة المنورة، وأريد زيارة بعض المزارات الدينية بها؛ كالمسجد النبوي، ومسجد قباء، وشهداء أُحد، والبقيع، وغير ذلك ممَّا بها من مزارات، فما حكم ذلك؟ علمًا بأن أحد أصدقائي أخبرني بأن هذا لا يجوز، وأنه بدعة.
زيارة المزارات التاريخية الدينية بالمدينة المنورة من مساجد، وأودية، وآبار، ومقابر وروضات الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وصالحيها، هي من أفضل القربات، وآكد المستحبات، وقد تواردت الأدلة ونصوص العلماء المعتبرين على ذلك. والقول بعدم جواز ذلك وأنه بدعة غير صحيح أبدًا، ولا يُعَوَّلُ عليه ولا يُلتَفَتُ إليه.
المحتويات
المدينة النبوية المنورة مَهد الإسلام؛ قد شرَّفها الله تعالى وفضَّلها، وجعلها من خير بقاع الأرض، ودعا لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأهلها بالبركة، وجعلها حرمًا آمنًا؛ فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَكَّةَ» متفقٌ عليه.
بل وشَرُفَتْ بِضَمِّ بُقعة هي أفضل بقاع الأرض على الإطلاق بإجماع العلماء، وهي البقعة التي ضمت الجسد الشريف لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (2/ 91، ط. دار الكتب العلمية): [لا خلاف أنَّ موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض] اهـ.
وتحظى المدينة المنورة بالعديد من المعالم الدينية التاريخية التي يرغب القاصي والداني في زيارتها من: مساجد؛ كالمسجد النبوي الشريف، ومسجد قباء، ومسجد القبلتين، ونحوها. وآبار؛ كبئر أريس، وبئر غرس، ونحوها. وجبال؛ كجبل أحد، ونحوه. ومقابر وروضات الصحابة والشهداء وعلماء الأمة وصالحيها؛ كشهداء أحد، والبقيع ونحوهم. وأودية؛ كوادي العقيق، ونحوه.
تواردت النصوص -العام منها والخاص- على استحباب زيارة هذه المزارات والبقاع المباركة جميعًا.
قال مجد الدين ابن مودود الموصلي في "الاختيار" (1/ 177، ط. الحلبي): [ويستحب أن يخرج بعد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع، فيأتي المشاهد والمزارات، خصوصًا قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه] اهـ.
وقال برهان الدين ابن فرحون في "إرشاد السالك" (2/ 776، ط. مكتبة العبيكان): [وينبغي أن يقصد المزارات التي بالمدينة النبوية والآثار المباركة والمشاهد الفاضلة، قال القاضي بدر الدين: وهي ثلاثون نذكر منها ما هو مشهور] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 276، ط. دار الفكر): [يستحب أن يزور المشاهد التي بالمدينة، وهي نحو ثلاثين موضعًا، يعرفها أهل المدينة، فيقصد ما قَدِرَ عليه منها، وكذلك يأتي الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ منها أو يغتسل، وهي سبع آبار، فيتوضأ منها ويشرب] اهـ.
وقال شهاب الدين القَسْطَلَّانِي في "المواهب اللَّدُنِيَّة بالمنح المحمدية" (3/ 623، ط. المكتبة التوفيقية): [وينبغي أيضًا بعد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم أن يقصد المزارات التي بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التي صلى فيها صلى الله عليه وآله وسلم؛ التماسًا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة مَن فيه، فإن أكثر الصحابة ممَّن توفي في المدينة في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته مدفون في البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين] اهـ.
ويزيد الاستحباب في زيارة بعض المواطن التي لها مزيد فضل وشرف، ووردت بخصوصها الأحاديث والآثار؛ منها:
- المسجد النبوي الشريف: وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» متفقٌ عليه؛ فأفاد منع شد الرحال إلى مسجدٍ ما بقصد تعظيمه والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة.
وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَذُكِرَتْ عِندَهُ صَلَاةٌ فِي الطُّورِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآِلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ، غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
ويزيد على ذلك أن الصلاة فيه تعدلُ ألفَ صلاة فيما سواه من المساجد في الأجر والثواب، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ» أخرجه الشيخان.
- قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروضته الشريفة، وزيارتهما من أعظم القُرُبات وآكد المستحبات، لِمَا ورد من الأحاديث النبوية الشريفة في استحباب ذلك، وجعل هذه الزيارة موجبة لشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم لزائريه، وقد صحَّح جميع الحفَّاظ الأحاديث الواردة في ذلك؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَن جَاءَنِي زَائِرًا لَا تُعْمِلُهُ حَاجَةٌ إِلَّا زِيَارَتِي، كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَن أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه الطبراني في معجميه "الكبير" و"الأوسط".
وعنه أيضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَن زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» أخرجه الدارقطني في "السنن".
قال العلَّامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 354، ط. الحلبي) عن البقعة النبوية: [وأما هي: فهي أفضل من جميع بقاع الأرض والسماء حتى الكعبة والعرش والكرسي واللوح والقلم والبيت المعمور] اهـ.
وقال العلَّامة محمَّد الخَضِر الشنقيطي [ت: ١٣٥٤هـ] في "كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي" (11/ 145، ط. مؤسسة الرسالة): [وقد ذكر الرهونيُّ المالكيُّ في "حاشيته على الزُّرْقاني" هذا البحث، في باب "النَّذْر" مختصرًا عند قول المتن "والمدينة أفضل ثم مكة" قال: قد انعقد الإجماع على أن الروضة الشريفة أفضل بقاع الأرض والسماء، فيكون ما قاربها وجاورها أفضل من غيره، إذ بجيرانها تغلو الديار، وترخص، فتأمله بإنصاف] اهـ.
- مسجد قباء: وهو أول مسجد بُنِيَ في الإسلام، وقد شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابةَ في بنائه؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا» زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، «فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» أخرجه الشيخان.
وَعَن سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَن تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» أخرجه ابن ماجه -واللفظ له- والترمذي والنسائي والبيهقي في "السنن"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، ووافقه الذهبي في "التلخيص".
وبوَّب له البخاري في "صحيحه" بـ (بَابِ مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ)، ومسلم في "صحيحه" بـ (بَابِ فَضْلِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَزِيَارَتِهِ)، والنسائي في "سننه" بـ (فَضْلِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَالصَّلَاةِ فِيهِ)، وعبد الرزاق في "مصنفه" بـ (بَابِ مَا تُشَدُّ إِلَيْهِ الرِّحَالُ وَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ).
قال مجد الدين ابن مودود الموصلي في "الاختيار" (1/ 178): [ويستحب أن يأتي مسجد قباء يوم السبت، كذا ورد عنه عليه الصلاة والسلام، ويدعو: يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا مفرج كُرَب المكروبين، يا مجيب دعوة المضطرين، صلِّ على محمد وآله، واكشف كربي وحزني كما كشفتَ عن رسولك حزنه وكربه في هذا المقام، يا حنَّان يا منَّان، يا كثيرَ المعروف، يا دائمَ الإحسان، يا أرحم الراحمين] اهـ.
وقال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 260، ط. دار المعرفة): [ويستحب له أن يأتي مسجد قباء في كلِّ سبت، ويصلي فيه] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 276): [يستحب استحبابًا متأكدًا أن يأتي مسجد قباء، وهو في يوم السبت آكد، ناويًا التقرب بزيارته والصلاة فيه] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 284، ط. دار الكتب العلمية): [ويسن أن يأتي سائر المشاهد بالمدينة، وهي نحو ثلاثين موضعًا يعرفها أهل المدينة، ويسن زيارة البقيع وقباء].
- مسجد القبلتين: وهو المسجد التي صُلِّيَت فيه صلاة واحدة إلى قبلتين؛ حيث تحولت فيه قِبلة المسلمين من بيت المقدس إلى البيت الحرام أثناء صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه بأصحابه صلاة الظهر، فسُمِّي بهذا الاسم.
قال برهان الدين ابن فرحون في "إرشاد السالك" (2/ 820-833): [فصل: في المساجد والآثار التي ينبغي زيارتها والتبرك بها.. ومنها: مسجد القبلتين، وهو: الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر بأصحابه، فلما صلَّى ركعتين أُمِر أن يتوجه إِلى الكعبة، فسُمِّي لذلك مسجد القبلتين] اهـ.
- بئر أريس: وهو بئر في الجهة الغربية لمسجد قباء مقابل له بالقرب من الحديقة الصغيرة التابعة لسور المسجد، وقد أزيل بسبب توسعة مسجد قباء، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزله فيتوضأ منه ويشرب، وهو الذي بُشِّرَ به أبو بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم بالجنة، وهو الذي سقط به خاتم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فسُمِّيَ بئر الخاتم؛ فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقُلْتُ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، قَالَ: فَجَاءَ المَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا، فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ البَابِ، وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي البِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ البَابِ، فَقُلْتُ لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَدَفَعَ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي القُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي البِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا -يُرِيدُ أَخَاهُ- يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقُلْتُ عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي القُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي البِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ البَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ» فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ القُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وِجَاهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ قَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: "فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ" أخرجه الشيخان.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنه قَالَ: "اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ" أخرجه الشيخان.
قال شمس الدين الرملي في "نهاية المحتاج" (3/ 320، ط. دار الفكر): [ويسن زيارة البقيع وقباء، وأن يأتي بئر أريس، فيشرب منها ويتوضأ، وكذلك بقية الآبار السبعة وقد نظمها بعضهم، فقال:
أَرِيسٌ وَغَرْسٌ رُومَةٌ وَبِضَاعَةٌ كَذَا بَصَّةٌ قُلْ بِئْرَ حَاءٍ مَعَ الْعِهْنِ] اهـ.
- بئر غرس: وهي إحدى آبار المدينة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرب منها ويتوضأ، ودعا له بالبركة، ونسبه إلى نفسه، حتى إنه ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى أن يُغَسَّل بسبع قِرَبٍ من مائه.
فعَنْ عَلِيِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنَا مُتُّ فَاغْسِلُونِي بِسَبْعِ قِرَبٍ، مِنْ بِئْرِي بِئْرِ غَرْسٍ» أخرجه ابن ماجه في "السنن".
وعن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رَأَيْتُ الليْلَةَ أَنِّي أَصْبَحْتُ عَلَى بِئْرٍ مِنَ الجَنَّةِ» فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها وبصق فيها، وغُسِّلَ منها حين توفي صلى الله عليه وآله وسلم".
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "غُسِّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر يقال لها: "غرس"، وكان يشرب منها" رواهما ابن النجار في "الدرة الثمينة في أخبار المدينة"، وقال: "وهذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل".
- جبل أُحد ومقبرة شهدائه: والجبل موقع غزوة أُحد التي وقعت بين المسلمين ومشركي قريش في السنة الثالثة من الهجرة، ومقبرة شهدائه: هي موضع دفن الصحابة الكرام الذين استشهدوا في غزوة أُحد.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» أخرجه الشيخان.
وعنه أيضًا، قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، قَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدَانِ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
قال مجد الدين ابن مودود الموصلي في "الاختيار" (1/ 178): [ويستحب أن يزور شهداء أحد يوم الخميس، ويقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 245، ط. المنيرية): [ويستحب أن يزور قبور الشهداء بأُحد، وأفضله يوم الخميس، ويبدأ بالحمزة رضي الله عنه] اهـ.
- مقابر البقيع: وهي مدفن المدينة، تقع شرق المسجد النبوي الشريف، دُفن بها زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبناته، وكثير من الصحابة والتابعين.
عَنْ أم المؤمنين السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ -كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا -إِنْ شَاءَ اللهُ- بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
قال مجد الدين ابن مودود الموصلي في "الاختيار" (1/ 177): [ويستحب أن يخرج بعد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع، فيأتي المشاهد والمزارات، خصوصًا قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، ويزور في البقيع: قبة العباس وفيها معه: الحسن بن علي، وزين العابدين وابنه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق، وفيه: أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وفيه إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجماعة من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعمته صفية، وكثير من الصحابة والتابعين] اهـ.
قال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 260): [ويستحب أن يخرج كلَّ يومٍ إلى البقيع بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويزور قبر عثمان رضي الله عنه، وقبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، وفيه أيضًا قبر علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد رضي الله عنهم، ويصلي في مسجد فاطمة رضي الله عنها، ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقبر صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك كله بالبقيع] اهـ.
- وادي العقيق: وهو من أشهر أودية المدينة المنورة، ويُسمَّى بالوادي المبارك.
فعن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
قال برهان الدين ابن فرحون في "إرشاد السالك" (2/ 842-844): [ومن المواضع المشهورة البركة وادي العقيق، وفي "البخاري": أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أتاني الليلة آتٍ من ربي عز وجل قال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة".. وفي هذا الوادي من قبور الصحابة ما لا يُحصَى كثرةً، ووُجد قبر عليه حجر مكتوب: أنا عبد الله ورسول رسول الله سليمان بن داود إِلى أهل يثرب، ووُجد أيضًا حجر على قبر مكتوب عليه: أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى ابن مريم إِلى أهل هذه القرية.
فينبغي إِتيانه والصلاة فيه، والسلام على مَن دفن فيه مِن المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعي التابعين رضوان الله عليهم أجمعين] اهـ.
المدينة المنورة حافلة بالمزارات التاريخية والآثار، كثُرت المصنفات والمؤلفات التي تناولتها بالبيان والتعريف، ومن ذلك: "تاريخ المدينة المنورة" لأبي زيد عمر بن شبة [ت: 262هـ]، و"الدرة الثمينة في أخبار المدينة" للعلامة ابن النجار [ت: ٦٤٣هـ]، و"المغانم المطابة في معالم طابة" للفيروز آبادي [ت: 817هـ]، و"التحفة اللطيفة في أخبار المدينة الشريفة" للإمام السخاوي [ت: 902هـ]، و"وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" لنور الدين علي بن أحمد السمهودي [ت: 911هـ]، و"آثار المدينة المنورة" للأستاذ عبد القدوس الأنصاري، و"المدينة المنورة تاريخ ومعالم" الصادر عن مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن زيارة المزارات التاريخية الدينية بالمدينة المنورة من مساجد، وأودية، وآبار، ومقابر وروضات الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وصالحيها، هي من أفضل القربات، وآكد المستحبات، والقول بعدم جواز ذلك وأنه بدعة غير صحيح ألبتة، ولا يُعَوَّلُ عليه ولا يُلتَفَتُ إليه؛ لِـمَا مرَّ وسبق بيانه من الأدلة الصحيحة وكلام العلماء المعتبرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.