ما حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة، وبين الخطبتين أثناء جلسة الإمام؟
رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة وبين الخطبتين أثناء جلسة الإمام؛ أمرٌ مستحبٌّ؛ لكونه من آداب الدعاء ومن أسباب قبوله، وأدعى لإجابته، ولما فيه من كمال الأدب مع الله تعالى وإظهار الذلة والفقر بين يديه، ولعموم النصوص الدالة على استحباب ذلك.
المحتويات
من آداب الدعاء المتفق عليها -والتي هي من أسباب قبوله، وأدعى لإجابته-: رفع اليدين أثناء الدعاء؛ لما فيه من كمال الأدب مع الله تعالى وإظهار الذلة والفقر بين يديه؛ فروى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟
قال العلامة الطوفي في "التعيين في شرح الأربعين" (1/ 116، ط. مؤسسة الريان): [قوله: «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ» يدل على أن من أدب الدعاء رفع اليدين إلى السماء، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/ 269، وما بعدها، ط. مؤسسة الرسالة): [وقوله: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»: هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة.. الثالث: مد يديه إلى السماء، وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته] اهـ.
ذهب العلماء إلى جواز رفع الخطيب والمأموم أيديهم بالدعاء يوم الجمعة للاستسقاء وغيره من النوازل كاشتداد الريح والزلازل، حيث روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «أَتَى أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ المَاشِيَةُ، هَلَكَ العِيَالُ هَلَكَ النَّاسُ، «فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَهُ يَدْعُونَ»، قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا مِنَ المَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتِ الجُمُعَةُ الأُخْرَى».
ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء وغيره من النوازل، واستدل الإمام البخاري بهذا الحديث على جواز رفع اليدين في الدعاء مطلقًا، وبوَّب له بقوله: «باب رفع اليدين في الخطبة».
قال الإمام القسطلاني في "شرح صحيح البخاري" (2/ 251، ط. الأميرية): [استدلَّ به على استحباب رفع اليدين في الدعاء للاستسقاء، وهل ترفع في غيره من الأدعية أم لا؟ الصحيح الاستحباب في سائر الأدعية] اهـ.
الدعاء بين الخطبتين أثناء جلسة الإمام بين الخطبة الأولى والثانية مستحبٌّ، ويندب رفع اليدين فيه، خاصة أن هذا الوقت يرجى إجابة الدعاء فيه؛ فقد بيَّن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم يدعو الله تعالى فيها بخير إلَّا استجاب دعاءه، وهذا الوقت هو أقرب الأوقات لأن يكون ساعة الإجابة؛ لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ».
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (6/ 140، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال القاضي: اختلف السلف في وقت هذه الساعة.. وقيل: من حين يجلس الإمام على المنبر حتى يفرغ من الصلاة] اهـ.
كما أَنَّ هذا الوقت -وقت الاستراحة بين الخطبتين- غير داخلٍ في الوقت المنهي عن الكلام فيه والإمام يخطب على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف ومحمد من الحنفية، لما رواه الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ».
فالنهي الوارد في الحديث لأجل الاستماع للخطبة، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالإِمَامُ يَخْطُبُ».
قال العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" (3/ 324، ط. دار الحديث): [فيه دليل على اختصاص النهي بحال الخطبة، وَرَدٌّ على من أوجب الإنصات من خروج الإمام] اهـ.
وعلى ذلك تواردت عبارات الفقهاء:
قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 29، ط. دار المعرفة): [قال أبو حنيفة: يكره الكلام بعد خروج الإمام قبل أن يأخذ في الخطبة وبعد الفراغ من الخطبة قبل الاشتغال بالصلاة كما تكره الصلاة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: تكره الصلاة في هذين الوقتين ولا يكره الكلام] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (1/ 553، ط. دار الكتب العلمية): [ولا يكره الكلام قبل الخطبة ولا بعدها ولا بين الخطبتين ولا للداخل ما لم يأخذ له مكانًا ويستقر فيه] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 417، ط. دار إحياء التراث العربي): [ظاهر قوله: «وَالإِمَامُ يَخْطُبُ» أنَّ الكلام يجوز بين الخطبتين إذا سكت، والصحيح: أن الكلام بينهما يباح] اهـ.
اختلف العلماء في حكم رفع اليدين بالدعاء بعد الفراغ من الخطبة الثانية، فذهب بعض الحنفية، والمالكية في قول، وابن حجر الهيتمي من الشافعية، وابن عقيل من الحنابلة إلى استحباب رفع اليدين أثناء الدعاء بعد الفراغ من الخطبة الثانية؛ لعموم النصوص الدالة على استحباب رفع الأيدي في الدعاء، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى.
قال العلامة بدر الدين العيني الحنفي في "البناية" (4/ 203، ط. دار الكتب العلمية): [(والرفع سنة الدعاء) ش: أي رفع اليدين سنة] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 341، ط. دار الفكر): [وعبارة شب: وفي رفع يديه قولان، قال الموضح: مذهب "المدونة" عدم الرفع] اهـ.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3/ 277، ط. دار الوفاء): [كره قوم من السلف رفعَ اليدين في الخطبة والدعاء، وهو قول مالك، وحجة من قال ذلك هذا الحديث، وأجازه آخرون، وهو قول بعض أصحابنا، وحجتهم رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه ومدَّها في الخطبة والدعاء يوم الجمعة حين استسقى] اهـ.
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/ 252، ط. المكتبة الإسلامية) عندما سئل عن رفع اليدين بعد فراغ الخطبتين يوم الجمعة: [رفع اليدين سنة في كلِّ دعاء خارج الصلاة ونحوها، ومن زعم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرفعهما إلا في دعاء الاستسقاء فقد سها سهوًا بيِّنًا وغلط غلطًا فاحشًا] اهـ.
وقال العلامة الزركشي في "شرحه على مختصر الخرقي" (2/ 182، ط. دار العبيكان): [(وإن أراد الخطيب أن يدعو لإنسان دعا).. ويستحب رفع اليد في الدعاء عند ابن عقيل، لعموم مطلوبية رفع الأيدي في الدعاء] اهـ.
وذهب الحنفية، والشافعية، والمالكية في الصحيح، والحنابلة إلى كراهة رفع الأيدي للخطيب أثناء الدعاء بعد الفراغ من الخطبة الثانية.
قال ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 158، ط. دار الفكر): [قال البقالي في "مختصره": وإذا شرع الخطيب- في الدعاء لا يجوز للقوم رفع اليدين ولا تأمين باللسان جهرًا، فإن فعلوا ذلك أثموا، وقيل أساؤوا ولا إثم عليهم] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 341): [وضعَّف مالك رفع اليدين في جميع المشاعر والاستسقاء، وقد رئي رافعًا يديه في الاستسقاء، وقد جعل بطونهما إلى الأرض وقال: إن كان الرفع فهكذا انتهى] اهـ.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3/ 277، ط. دار الوفاء): [كره قوم من السلف رفعَ اليدين في الخطبة والدعاء، وهو قول مالك] اهـ.
وقال العلامة الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 506، ط. دار الفكر): [ويكره للخطيب رفع يديه حال الخطبة، قاله البيهقي] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 37، ط. دار الكتب العلمية): [ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة] اهـ.
المختار ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول القائلون باستحباب رفع الأيدي في الدعاء مطلقًا، لعموم الأدلة الواردة في الاستحباب التي وصلت لدرجة التواتر.
بل إن هذا أدعى لإجابة الدعاء؛ لما رواه الإمام الترمذي في "سننه" عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ».
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 143، ط. دار المعرفة): [قد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال: السُّنَّة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها] اهـ.
وقال العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخارى" (3/ 21، ط. مكتبة الرشد): [قال المهلب: رفع اليدين في الاستسقاء وغيره مستحب؛ لأنه خضوع وتذلل، وتضرع إلى الله تعالى] اهـ.
وقال العلامة المناوي في "فيض القدير" (2/ 228، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وفي "الكشاف" هو جار على سبيل التمثيل، وفيه ندب رفع اليدين في الدعاء، وَرَدٌّ على مالك حيث كره ذلك، قال ابن حجر: وقد ورد في رفع اليدين أخبار صحيحة صريحة لا تقبل تأويلًا] اهـ.
ولعل مدرك رفع اليدين في الدعاء -كما قال العلامة البجيرمي- أن السماء قبلة الدعاء، والطالب لشيء يبسط كفيه لأخذه، والداعي طالب، ولأن حوائج العباد في خزانة تحت العرش، فالداعي يمد يديه لحاجته، وفيه إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء. ينظر: "حاشية البجيرمي على الخطيب" (1/ 176، ط. دار الفكر).
بناءً على ما سبق: فرفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة وبين الخطبتين أثناء جلسة الإمام؛ أمرٌ مستحبٌّ؛ لكونه من آداب الدعاء ومن أسباب قبوله، وأدعى لإجابته، ولما فيه من كمال الأدب مع الله تعالى وإظهار الذلة والفقر بين يديه، ولعموم النصوص الدالة على استحباب ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.