الواجب على من أكل من النذر المخصص للفقراء والمساكين

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 06 يونيو 2023
  • رقم الفتوى: 7696

السؤال

رجلٌ يملك بقرة، ونذر أنه إذا شفا اللهُ تعالى ابنَه المريض فسوف يذبحها لله تعالى ويوزعها على الفقراء والمحتاجين، وحين أكرمه الله بشفاء ولده وَفَّى بالنذر، فذبحها ووزعها على الفقراء والمحتاجين، لكنه أكل منها؛ فما حكم ما أكله من هذا النذر؟ وهل يجب عليه شيء؟

يجب على هذا الرجل الذي أكل من النذر الذي عَيَّنَهُ للفقراء والمحتاجين أن يُخرج بدل ما أكله، ويتخير في ضمان بدله حسبما يتيسَّر له أو يكون أنفع للفقير، ولا حرج عليه في ذلك شرعًا.

المحتويات

 

بيان مفهوم النذر

النذر في اللغة: بمعنى الإيجاب، وقيل لَهُ (نَذْر)؛ لأَنه نُذِرَ فيه؛ أَي: أَوجب، مِن قولك: نَذَرتُ على نفسي؛ أَي: أوجبتُ؛ كما في "لسان العرب" للعلامة جمال الدين ابن منظور (5/ 200، ط. دار صادر).

وفي الشرع: عبارة عن إِيجاب المرءِ فِعْلَ الْبِرِّ على نفسه؛ كما في "الاستذكار" للإمام ابن عبد البر (5/ 173، ط. دار الكتب العلمية).

حكم الوفاء بالنذر والأدلة على ذلك

أوجب الشرع الشريف على المُكلَّف أن يفي بنذر الطاعة عند القدرة عليه، وشدَّد على الوفاء به، وعلى ذلك تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة.

فمن الكتاب: قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: 270]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، وقوله تعالى في بيان صفات الأبرار: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإِنسان: 7].

ومن السنة: ما أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ».

وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» متفقٌ عليه.

التحذير من عدم الوفاء بالنذر عند القدرة عليه

ذَمَّ اللهُ تعالى مَن نذر نذرًا ولَم يَفِ به مع كونه يستطيع الوفاء به؛ فقال سبحانه: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27].

قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (6/ 156-157، ط. مكتبة الرشد): [النذر في الطاعة واجب الوفاء به عند جماعة الفقهاء لمَن قدر عليه، وإن كانت تلك الطاعة قبل النذر غير لازمة له فَنَذْرُهُ لها قد أوجبها عليه؛ لأنه ألزمها نفسه لله تعالى فكل من ألزم نفسه شيئًا لله فقد تعين عليه فرض الأداء فيه، وقد ذم الله من أوجب على نفسه شيئًا ولم يَفِ به؛ قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ الآية] اهـ.

ولا خلاف بين الفقهاء "أنَّ النذر بالطاعة يلزم الوفاء به ولا كفارة فيه، واتفقوا أنَّ من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها"؛ كما قال الإمام ابن القطَّان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 375، ط. دار الفاروق).

حكم أكل الناذر من النذر المعين

ذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية في المعتمد، والشافعية، والحنابلة إلى أنَّ النذر المعلق على حدوث شيءٍ أو عدم حصوله إذا عيَّنهُ الناذر باللفظ أو بالنية للفقراء والمحتاجين أو غيرهم، فأكل منه؛ فإنه يضمن مقدار ما أكله، لكنهم اختلفوا في ضمان هذا المقدار؛ هل يضمن قيمتَه مالًا؟ أو مقداره طعامًا؟ أو لحمًا مثله؟ وذلك على التفصيل الآتي:

مذهب الحنفية في هذه المسألة

أما الحنفية: فذهبوا إلى أنَّ الناذر لا يأكل من نذره مطلقًا، سواء كان النذر معلقًا على حصول شيءٍ أو عدم حصوله أو كان غير معلق أصلًا، وسواء كان معيًّنا أو غير معيَّن؛ لأن النذر سبيلُهُ التصدق، وليس للمتصدق أن يأكل من صدقته؛ فإن أكل منه فعليه قيمة ما أكل؛ كما في "العناية" للعلامة أكمل الدين البابرتي (9/ 518، ط. دار الفكر).

قال العلامة زين الدين ابن نُجَيْم في "البحر الرائق" (8/ 199، ط. دار الكتاب الإسلامي): [في "الأصل": الناذر لا يأكل ممَّا نذره، ولو أكل فعليه قيمة ما أكل] اهـ.

مذهب المالكية في هذه المسألة

أما المالكية: فقد منعوا الأكل من النذر المعيَّن -كَنَذْرِهِ بقرةً أو شاةً معيَّنة وصَرْفِها لصنفٍ معيَّن مِن الناس-؛ لأنه بالتعيين يتأكد في حقِّ مَن تَعَيَّن له، فإذا أكل الناذر منه فقد أكل مما لا يحل له الأكل منه فيضمنه، وفي الضمان قيل: يضمن بدل الجميع، وَشَهَّرَهُ الإمام ابن عبد البر في "الكافي" (1/ 403، ط. مكتبة الرياض الحديثة)، وقيل: يجب عليه قَدْر ما أَكَلَهُ؛ لأنه شبيهٌ بالغاصب، وَشَهَّرَهُ الإمام ابن الحاجب في "جامع الأمهات" (ص: 214، ط. دار اليمامة)، "وهذا هو الذي ينبغي أن يكون المشهور"؛ كما صرَّح به العلامة الموَّاق في "التاج والإكليل" (4/ 286، ط. دار الكتب العلمية)، و"هو المعتمد؛ لأنه قول ابن القاسم فيها"؛ كما قال الشيخ عليش في "منح الجليل" (2/ 387، ط. دار الفكر).

قال العلامة أبو عبد الله الموَّاق في "التاج والإكليل" (4/ 286): [إنْ أكل مما نذره للمساكين؛ قال ابن القاسم: لا أدري ما قول مالكٍ فيه، وأرى أنْ يطعم للمساكين قَدْر ما أكل لحمًا، ولا يكون عليه البدل؛ لأنَّ هديَ نذرِ المساكينِ في ترك الأكل منه عند مالكٍ بمنزلة الجزاء والفدية] اهـ.

وقال العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (2/ 91، ط. دار الفكر): [(وهل) على رَبِّهِ البَدَل كاملًا في كلِّ ممنوع (إلا نذر مساكين عُيِّنَ؛ فقَدْرُ أكلِهِ) فقط؛ وهو المعتمدُ. وقولُ ابن القاسم في "المدونة" أو مطلقًا (خلافٌ) في التشهير] اهـ. والمراد بقوله: "في كلِّ ممنوع" أي: ممنوع عليه أَكْلُهُ.

وعلى القول بمعتمد المذهب أنه يضمن مقدار ما أكله؛ فثلاثة أوجُه في الضمان:

أحدها: يضمن مثل اللحم إن عرف وزنه؛ لأنه من ذوات الأمثال.

والثاني: يضمن قيمته طعامًا؛ وهو قول الإمام عبد الملك بن الماجشون.

والثالث: يضمن قيمته مالًا ويتصدق به على من عيَّن لهم النذر من الفقراء والمحتاجين.

قال العلامة ابن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 309، ط. دار الغرب الإسلامي): [فإن أكل مما ليس له الأكل منه.. قال ابن الماجشون: ليس عليه إلا قدر ما أكل منهما.. فقيل: عليه مثل اللحم؛ لأنه ممَّا له مثل، وقال عبد الملك: عليه قيمته طعامًا؛ إذ مثله لحم هدي، لا يوجد، وقيل: يغرم قيمة ما أكل ثمنًا] اهـ.

وقال الإمام شهاب الدين القرافي في "الذخيرة" (3/ 369، ط. دار الغرب الإسلامي): [إذا أوجبْنا بدل المأكول؛ فقيل: بدل اللحم؛ لأنه من ذوات الأمثال، وقال عبد الملك: قيمته طعامًا؛ لأن مثل لحم الهدي لا يوجد، وقيل: يغرم القيمة ثمنًا] اهـ.

مذهب الشافعية في هذه المسألة

أما الشافعية: فإنهم منعوا في الجملة أكلَ الإنسان مِن كلِّ ما وجب عليه، وإن اختلفوا في بعض الصور، إلا أنهم نصُّوا على عدم جواز أكل الناذر مِن نذر المجازاة، وهو ما علَّقه على حصول شيءٍ أو عدم حصوله -كما في مسألتنا-؛ سواء كان المنذور به معيَّنًا في الذمة؛ كتعيينه ذبيحةً بعينها، أو مرسَلًا من غير تعيين؛ لأنه بالتعليق صار جزاءً فلم يجز أن يأكل منه؛ كجزاء الصيد، فإن أكل منه: ضَمِنَهُ، وفي ضمانه ثلاثة أوجُه:

أحدها: يلزمه قيمة ما أكل مالًا، وهو أصح الأوجُه في الضمان عندهم؛ "لأن اللحم لا مثل له، وما لا مثل له يُضمن بالقيمة؛ كسائر المتلفات"؛ كما قال الإمام أبو الحسين العمراني في "البيان" (4/ 457، ط. دار المنهاج).

والثاني: يضمن مثله من اللحم.

والثالث: يشتري جزءًا من حيوانٍ مثله ويشارك في ذبحه.

قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 413-414، ط. دار الفكر): [إن كان نذر مجازاة؛ كالنذر لشفاء المريض، وقدوم الغائب، لم يجز أن يأكل منه؛ لأنه جزاءٌ، فلم يجز أن يأكل منه كجزاء الصيد، فإنْ أكل شيئًا منه ضَمِنَهُ، وفي ضمانه ثلاثة أوجه: (أحدها): يلزمه قيمة ما أكل؛ كما لو أكل منه أجنبي، (والثاني): يلزمه مثله من اللحم؛ لأنه لو أكل جميعه ضمنه بمثله، فإذا أكل بعضه ضمنه بمثله، (والثالث): يلزمه أن يشتري جزءًا من حيوانٍ مثله ويشارك في ذبحه] اهـ.

وقال أيضًا (8/ 417): [وإنْ نَذَرَ نَذْرَ مجازاةٍ؛ كتعليقِهِ التزام الهدي أو الأضحية بشفاء المريض ونحوه، لم يجز الأكل منه أيضًا كجزاء الصيد، ومقتضى كلام الأصحاب أنه لا فرق بين كون الملتزَم معيَّنًا أو مرسلًا في الذمة] اهـ.

وقال شهاب الدين الرملي في "حاشيته على أسنى المطالب" (1/ 545، ط. دار الكتاب العربي): [وبالجملة: فالمذهب منع الأكل من الواجبة مطلقًا؛ كما لا يجوز له أن يأكل من زكاته أو كفارته شيئًا] اهـ.

مذهب الحنابلة في هذه المسألة

أما الحنابلة: فقد منعوا الأكل من النذر مطلقًا؛ سواء كان النذر معيَّنًا لصنفٍ من الناس بعينه أو غير معيَّن، وسواء كان نذرَ مجازاةٍ أو غيرَ مجازاةٍ، فإذا أكل منه الناذر فإنه يضمن قدر ما أكله لحمًا؛ لأن النذر كله مضمونٌ عليه بمثله حيوانًا، فكذلك أبعاضه.

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 466، ط. مكتبة القاهرة): [فصل: وإن أكل منها ما مُنِعَ مِن أكله ضمنه بمثله لحمًا؛ لأن الجميع مضمونٌ عليه بمثله حيوانًا، فكذلك أبعاضه، وكذلك إنْ أعطى الجازِرَ منها شيئًا ضَمِنَهُ بمثله] اهـ.

الواجب على من أكل من النذر المعين للفقراء والمساكين

بناءً على ذلك: فإنه يجب الوفاء بنذر الطاعة لمَن قدر عليه، ومَن نذر شيئًا وعيَّنهُ للفقراء والمساكين فإنه يتعين لهم، ولا يجوز للناذر أن يأكل منه، فإذا أكل منه ضَمِن قدر ما أكله؛ على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية في المعتمد، والشافعية، والحنابلة، وهو مخيرٌ في هذا الضمان؛ فإن شاء ضَمِن القيمة مالًا ووزعه على الفقراء؛ كما هو مذهب الحنفية، والمالكية في قول، والشافعية في أصح الأوجُه عندهم، أو ضَمِنها لحمًا؛ كما هو مذهب المالكية في المعتمد، والحنابلة، والشافعية في وجه، أو ضَمِنها طعامًا؛ كما هو قول الإمام عبد الملك بن الماجشون من المالكية، أو يشتري جزءًا من حيوانٍ مثله ويشارك في ذبحه ثم يوزعه عليهم؛ كما ذهب إليه الشافعية في وجهٍ ثالث عندهم، ويجزيه ما اختار من أيِّ صور الضمان تلك؛ بناءً على ما تقرر في المذاهب الفقهية أنَّ العامي "لَوِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا"؛ كما قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (1/ 218، ط. المكتب الإسلامي)، و"مَتَى وَافَقَ عَمَلُ العَامِّيِّ مَذْهَبًا مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ.. كَفَاهُ ذَلِكَ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا"؛ كما قال العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق في "الفتاوى" (1/ 225، ط. دار وهبة).

الخلاصة

وفي واقعة السؤال: فإنه يجب على هذا الرجل الذي أكل من النذر الذي عَيَّنَهُ للفقراء والمحتاجين أن يُخرج بدل ما أكله، ويتخير في ضمان بدله حسبما يتيسَّر له أو يكون أنفع للفقير، ولا حرج عليه في ذلك شرعًا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة