ما حكم السجود على قدم المصلي عند الزحام؟ حيث دخلتُ لأداء صلاة الجمعة بأحد مساجد القاهرة الكبرى، واشتد الزحام في المسجد، ولم أستطع تمكين جبهتي من الأرض عند السجود لضيق المكان، فسجدت على قَدَمِ من يصلي أمامي؛ فهل صلاتي صحيحة شرعًا؟ وهل يلزمني إعادتها؟
ما دمت لم تستطع وضع جبهتك على الأرض أثناء سجودك في الصلاة بسبب الزحام الشديد وضيق المكان، فسجدت على قدم المصلي الذي أمامك؛ فإنَّ صلاتَكَ صحيحةٌ شرعًا، ولا يلزمك إعادتها.
المحتويات
صلاة الجمعة شعيرةٌ عظيمةٌ من شعائر الإسلام، طلب الشرعُ الشريفُ من المكلَّف بها السعي إليها، والاجتماع فيها، والاحتشاد لها؛ توخِّيًا لمعنى الترابط والائتلاف بين المسلمين؛ ولذلك فرضها اللهُ تعالى جماعةً؛ بحيث لا تصح مِن المكلَّف وحدَه مُنفرِدًا؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 9-10].
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» أخرجه الإمامان: أبو داود في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط الشيخين.
من المقرر شرعًا أنه ينبغي للمصلي أن يباشر الأرض عند سجوده بأعضاء سبعة مخصوصة؛ منها: الجبهة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ-، وَاليَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ» متفقٌ عليه.
قال الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (4/ 208، ط. دار إحياء التراث العربي): [هذه الأحاديث فيها فوائد؛ منها: أنَّ أعضاء السجود سبعة، وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها] اهـ.
قد اختلف الفقهاء في حكم المصلي إذا تعذَّر عليه أن يُمَكِّنَ جبهته من الأرض عند السجود بسبب الزحام الشديد -خاصة في صلاة الجمعة كما هي مسألتنا-، فسجد على قَدَمِ المصلي الذي أمامه؛ هل تصح صلاته ويجزئه ذلك عن مباشرة الأرض بجبهته أو لا؟
فذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية -كما هو مقتضى مذهبهم-، والشافعية في الصحيح، والحنابلة: إلى أنه يجزئه السجود على قدم المصلي الذي أمامه وهو معه في نفس جماعة الصلاة، ولا يجب عليه في هذه الحالة إعادة الصلاة، وهو أيضًا قول الأئمة: الثوري، وأبي ثور، وابن المنذر، واستحب الحنفية تأخير السجود إلى أن يزول الزحام، واشترط بعضهم أن تكون ركبتاه -عند سجوده على قدم المصلي- على الأرض، وأن يكون المسجودُ عليه ساجدًا على الأرض، واشترط الشافعية مراعاةَ هيئة السجود؛ بحيث لا يرتفع رأسُه فيخرج عن هيئة الساجد.
ودليل ذلك: ما أخرجه الإمامان: البيهقي في "السنن الكبرى"، وأحمد في "المسند" عن سَيَّارِ بن الْمَعْرُورِ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب وهو يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ بَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ مَعَهُ؛ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَصَلُّوا فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْكُمْ مَكَانًا فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ".
فإذا جاز سجود المصلي على ظهر مصلٍّ غيره عند الزحام وتعذر تمكين جبهته من الأرض؛ فلَأَن يجوز السجود على قدم المصلي الذي أمامه من باب أولى؛ إذ السجود على قدم المصلي أضبطُ وأمكنُ لهيئة السجود من الذي يسجد على الظهر؛ فإن الساجد على القدم لا يرتفع رأسه كما يرتفع الساجد على الظهر.
قال شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ الحنفي في "المبسوط" (1/ 207، ط. دار المعرفة): [قال: (ومَن زَحَمَهُ الناسُ فلم يجد موضعًا للسجود فسجد على ظهر رجلٍ أجزأه)؛ لقول عمر رضي الله تعالى عنه: "اسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيكَ؛ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ لَكَ"، وقال في خطبته حين طلب من الناس أن يوسع المسجد: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا مَسْجِدٌ بَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَعَهُ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ"، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال: إن كان السجود على ظهر شريكه في الصلاة يجوز، وإلا فلا؛ لأن الجواز للضرورة، وذلك عند المشاركة في الصلاة، ومِن أصحابنا مَن قال: المراد ظهر القدم، فأما إذا سجد على ظهره فهو راكعٌ لا ساجد فلا يجزئه؛ وهو قول الحسن بن زياد، والأصح أنه يجوز؛ لأن الرخصة فيه ثابتةٌ شرعًا للضرورة] اهـ.
وقال العلامة شيخي زاده الحنفي في "مجمع الأنهر" (1/ 98، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وإن سجد للزحمة على ظهرِ مَن هو معه في صلاته) يعني لو سجد للزحام على ظهرِ مَن يصلي صلاته (جاز) للضرورة، ولا تجوز لو سجد على ظهرِ مَن لا يصلي أو يصلي ولكن لا يصلي صلاته؛ لعدم الضرورة، وهذا إذا كان ركبتاه على الأرض، وإلا فلا يجزيه، وقيل: لا يجزيه إلا إذا سجد الثاني على الأرض] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 232، ط. دار الكتب العلمية): [قوله: (على ظهر مصلٍّ صلاتَه.. إلخ) وشرط في "الكفاية": كون ركبتي الساجد على الأرض، وشرط في "المجتبى": سجود المسجود عليه على الأرض، فجملة الشروط خمسة، بل ستة بزيادة الزحام، لكن في "الْقُهُسْتَانِيّ" عن "الأصل": أنه يجوز ولو على ظهر غير المصلي، ونقل الزاهدي جوازه على ظهر كلِّ مأكول، وفي "الْقُهُسْتَانِيّ" عن صدر القضاة: أنه يجوز وإن كان سجود الثاني على ظهر الثالث، وفيه: أنه في هذه الحالة يكون الساجد الثالث في صفة الراكع أو أَزْيَد، ونقل عن الجلابي: أنه يستحب التأخير حتى يزول الزحام اهـ. قوله: (وهو اختيار الفقيه) وقيل: إن وضع اليدين والركبتين سُنة، وعليه يقال: إنَّ الحديث يقتضي وجوب السجود على الأعضاء السبعة المصرح بها فيه، ولم يقولوا به. والجواب أن الاستدلال بهذا الحديث إنما هو على أن محل السجود هذه الأعضاء لا أنَّ وَضْعَ جميعها لازمٌ لا محالة؛ فوضع اليدين والركبتين سُنة عندنا] اهـ.
فإذا كانت نصوصُ فقهاء الحنفية السابقةُ تفيد جواز السجود على الظهر؛ فإنها تقتضي جواز السجود على القدم من باب أَوْلَى؛ كما سبق بيانه، بل هذا ما صرح به بعض فقهائهم؛ حيث حملوا لفظة "الظهر" على "ظهر القدم"؛ كما تقدم ذكره في كلام شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ في "المبسوط".
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (4/ 563-564، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: إذا مَنَعَتْهُ الزحمة من السجود على الأرض في الركعة الأولى مِن الجمعة مع الإمام؛ فإن أمكنه أن يسجد على ظهرِ إنسانٍ أو رِجله أو غير ذلك مِن أعضائه -قال الشيخ نصر المقدسي وغيره: أو ظهر بهيمةٍ-: لزمه ذلك على الصحيح الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي، ومِن أصحابنا مَن قال فيه قولان: (أحدهما): هذا. (والثاني): قاله في القديم: يتخير؛ إن شاء سجد على الظهر، وإن شاء صبر ليسجد على الأرض، وهذا الطريق حكاه المصنف وآخرون، واتفقوا على أن المذهب وجوب السجود على الظهر ونحوه؛ للحديث الصحيح: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، ولأثر عمر رضي الله عنه، ولأنه متمكنٌ منه، ثم قال الجمهور: إنما يسجد على الظهر ونحوه إذا أمكنه رعاية هيئة السجود؛ بأن يكون على موضعٍ مرتفعٍ، فإن لم يكن فالمأتيُّ به ليس بسجودٍ فلا يجوز فعله، وفيه وجه ضعيفٌ: أنه لا يَضُرُّ هنا ارتفاع رأسه وخروجه عن هيئة الساجد للعذر؛ حكاه الرافعي وغيره، والمذهب الأول] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 232-233، ط. مكتبة القاهرة): [فصل: ومتى قدر المزحوم على السجود على ظهرِ إنسانٍ، أو قدمِه: لزمه ذلك، وأجزأه. قال أحمد في رواية أحمد بن هاشم: يسجد على ظهر الرجل والقدم، ويُمَكِّنُ الجبهة والأنف في العيدين والجمعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر] اهـ.
ذهب الإمام مالك إلى أن المصلي إذا زُوحم في الصلاة فلم يستطع السجود على الأرض: فإنه يؤخر السجود حتى يزول الزحام؛ لما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعبد الرزاق في "مصنفه"، والطبراني في "المعجم الكبير" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَإِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الْأَرْضِ»، إلا أنْ يخاف مع الانتظار فوات الركوع في الركعة التالية؛ فإنه يومئ حينئذٍ حتى يستطيع متابعة الإمام في الركوع، وذهب الإمام أشهب إلى أنه يومئ متى لم يتمكن من السجود على الأرض ولا يتأخر، وعندهما جميعًا: لا يسجد على ظهر أخيه أو قدمه، فإنْ فعل فإنَّ عليه -في قول الإمام مالك- أن يعيد الصلاة مطلقًا ولو خرج وقتها؛ لأن فَرْضَهُ عند تعذر السجود على الأرض قد انتقل إلى الإيماء، وذهب الإمام أشهب إلى أنه لا يعيد في هذه الحالة إلا في وقت الفريضة، فإذا خرج الوقت فلا إعادة عليه.
قال الإمام المَازِرِيّ في "شرح التلقين" (1/ 1017-1018، ط. دار الغرب الإسلامي): [إذا لم يستطع المأمورُ السجودَ وزُوحم عليه؛ فأصلُ مالكٍ أنه يؤخر حتى يمكنه ذلك، لكنه مع هذا يكون حكمه أن يومئ إذا خشي فوات الركوع مع الإمام؛ فإنه يومئ ليدرك معه الركوع، وأصل أشهب: أنه يومئ وليس عليه أكثر مما في وسعه، ورأى أن الإيماء أولى من التأخير.. وأما مالكٌ فإنه يحتج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَكِّنْ مِنْ جَبْهَتِكَ عَلَى الْأَرْضِ»] اهـ.
وقال شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 516، ط. دار الفكر): [السجود من فرائض الصلاة؛ فإذا علم أنه لا يقدر في السفينة أن يسجد إلا على ظهر أخيه؛ فلا ينبغي له ركوبها في حج ولا عمرة، فإن فعل وصلى وسجد على ظهر أخيه؛ أعاد أبدًا على قوله؛ لأنه جعل ذلك كَتَرْكِ الصلاة، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في الذي يقدح الماء من عينه فيصلي إيماءً: أنه يعيد أبدًا، وقال أشهب: لا إعادة عليه، وكذا نقول في الذي لا يقدر على الزحام أن يسجد إلا على ظهر أخيه: أنه لا يعيد إلا في الوقت؛ وذلك أن الفرض انتقل عنه إلى الإيماء مِن أجل الزحام؛ فكان كالمريض لا يستطيع السجود فرفع إلى جبهته شيئًا فسجد عليه: أن ذلك يجزئه، وهو عند مالك خلاف المريض يعيد أبدًا إن لم يسجد إلا على ظهر أخيه] اهـ.
يجاب على القول ببطلان صلاة من صلى على قدم المصلي عند الزحام: بأن الأثر السابق الوارد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قاله بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم في يوم جمعة ولم يظهر له مخالف؛ فكان إجماعًا، ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح؛ كالمريض الذي يسجد على شيءٍ وضع له، وأما حديث: «وَإِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الْأَرْضِ»: فالمقصود بالأمر هو تمكين الجبهة من الأرض عند السجود في حال القدرة على ذلك لا حال العذر؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يأمر العاجز عن الشيء بفعله؛ كما في "المغني" للإمام ابن قدامة (1/ 233).
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دمت لم تستطع وضع جبهتك على الأرض أثناء سجودك في الصلاة بسبب الزحام الشديد وضيق المكان، فسجدت على قدم المصلي الذي أمامك؛ فإنَّ صلاتَكَ صحيحةٌ شرعًا، ولا يلزمك إعادتها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.