ما حكم الشرع في استمرار حضانة الأولاد مع الأم مع كونها غير مبصرة؟
حضانة الصغير تثبت للأم فاقدة البصر ما دامت قادرة على رعايته وكفايته وتدبير شؤونه بنفسها أو بغيرها، وهذا ما عليه العمل إفتاء وقضاء؛ لأن المدار في حق الحضانة على مصلحة الصغير وحده، فمتى وجدت مصلحته وجد معها حق الحضانة.
المحتويات
حرصت الشَّريعة على أن تُبنَى الأسرة على أسسٍ متينةٍ من صيانة الحقوق ورعاية الواجبات بين أفرادها بما يحقِّق المصلحة الخاصة لأفراد الأسرة والمصلحة العامة للمجتمع التي تعتبر الأسرة لَبِنَتَه، فتحقيق المصلحة هو الذي عليه مدار تنظيم الشريعة للحقوق بين النَّاس؛ ولذا جاء في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 8، ط. دار الكتب العلمية): ما نصه [رجَّع الشيخ عز الدين بن عبد السلام الفقهَ كلَّه إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، بل قد يُرجع الكلُّ إلى اعتبار المصالح، فإنَّ درء المفاسد من جملتها] اهـ.
ومن هذه المصالح حقُّ الحضانة الَّتي بها صلاح حال المحضون وحفظه.
الحضانة في اللغة من الحِضن ويصحُّ فيها الفتح والكسر. ينظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 140، ط. المكتبة العلمية)، وهي بمعنى الكفالة والحفظ والتَّربية؛ قال العلامة الزبيدي في "تاج العروس" (34/ 442، ط. دار الهداية): [حَضَن الصبيَّ.. حِضانة، بالكسر: جعله في حِضنِه، أو كفله وربَّاه وحفظه] اهـ.
ولم يبعد تعريف الفقهاء عن هذا المعنى؛ فجاء في "نهاية المحتاج" للإمام الرَّملي (7/ 225، ط. دار الفكر): أنَّها: [حفظ من لا يستقلُّ بأموره وتربيته بما يصلحه ويقيه عمَّا يضرُّه] اهـ.
والأصل في الحضانة: ما رواه الإمام أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله َسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».
الحضانة بكونها حقًّا قد ثبتت لكلٍ من الحاضن والمحضون، إلا أنَّ حقَّ المحضون في الحضانة أقوى من حقِّ الحاضن؛ فقد نقل الإمام ابن عابدين في "حاشيته" (3/ 559، ط. دار الفكر): عن المفتي أبي السُّعود قوله: [إنَّ أقوى الحقَّين في الحضانة للصَّغير] اهـ.
فالمدار في حق الحضانة على مصلحة المحضون وحده، فمتى وجدت مصلحته وجد معها حق الحضانة.
قد وضع العلماء شروطًا لمَن يتولى حضانة الصَّغير؛ من الحرِّية والبلوغ والعقل وغيرها. ومن هذه الشُّروط: شرط القدرة. ينظر: "حاشية ابن عابدين" (3/ 555). والمقصود بالقدرة هو القيام بحفظ المحضون وتدبيره ووقايته المخاطر والمضار، مع القيام بمصالحه وكافة شؤونه، ولا يخفى أنَّ مصلحة المحضون لا تتحقَّق إلَّا بتوافر هذا الشَّرط، وهو القدرة على القيام بمتطلَّبات هذه الحضانة.
وقد نقل الإمام الدَّميري في "النجم الوهاج" (8/ 303، ط. دار المنهاج) قول ابن البزري أنَّ الحاضنة [إن كانت ناهضة بحفظه وتدبيره ووقايته الأسواء والقيام بمصالحه ودفع مضارِّه فلها الحضانة، وإن كانت عاجزة فلا حضانة لها] اهـ.
من الأمور التي قد يؤثر عدمها في تحقّق القدرة على الوجه المطلوب، انعدام البصر، ولا يخفى أن البصر من تمام القدرة، وكون غير المبصر الأعمى قادرًا على القيام بمتطلَّبات الحضانة يُعدّ أمرًا نسبيًا؛ فقد يكون عائقًا في حقّ شخص وليس عائقًا في حق آخر.
وقد اختلفت مذاهب العلماء في اعتبار العمى صفة مؤثرة في ثبوت الحضانة من عدمه؛ فالحنفية علقوا الأمر على القدرة باعتبارها نسبيَّة؛ فقال الإمام ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر" (ص: 270، ط. دار الكتب العلمية) ضمن أحكام الأعمى: [وأما حضانته فإن أمكنه حفظ المحضون كان أهلًا، وإلا فلا] اهـ. وعقب ابن عابدين في "حاشيته" (3/ 556) على كلام ابن نجيم؛ فقال: [وهو بحث وجيه، وهو معلوم من قول الرملي "قادرة"] اهـ.
أمَّا المالكيَّة والحنابلة فقد نفوا حقَّ الحضانة عن الحاضن المتصف بالعمى؛ لعدم الكفاية وحصول المقصود من حفظ المحضون وتربيته ورعايته؛ فجاء في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (4/ 425، ط. دار الفكر) قول الشَّيخ خليل: [وشرط الحاضن: العقل، والكفاية، لا كمسنَّة". وعقبه الشارح الشَّيخ محمد عليش بقوله: (والكفاية) أي القدرة على القيام بما يحتاج إليه المحضون؛ فـ (لا) حضانة لذاتٍ (كمسنَّة)؛ أي كبيرة السن كبرًا مانعًا من ذلك، وأدخلت الكاف: الزَّمِنة، والمقعدة، والعمياء، والخرساء، والصماء؛ ذكرًا كانت أو أنثى] اهـ.
وجاء في "كشاف القناع" للإمام البهوتي الحنبلي (5/ 498-499، ط. دار الكتب العلمية): [ولا حضانة أيضًا لعاجز عنها؛ كأعمى ونحوه؛ كزَمِن؛ لعدم حصول المقصود به] اهـ.
بل إن بعضهم قد نصَّ على أنَّ ضعف البصر لا عدمه قد يكون سببًا في المنع من تمام حصول الكفاية للمحضون؛ ففي "كشاف القناع" (5/ 498): [وضعف البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح] اهـ.
وواضح أنَّ مدار الأمر عندهم هو انتفاء حصول المقصود من الحضانة في الأحوال المذكورة.
وأما الحكم عند الشَّافعيَّة فقد اختلفوا فيه، والمعتمد عندهم: عدم ثبوت الحضانة لغير المبصر؛ لما للعمى من تأثير في القدرة على القيام بمتطلبات الحضانة.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 449، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولا حضانة لأعمى كما أفتى به عبد الملك بن إبراهيم المقدسي من أئمتنا ومن أقران ابن الصباغ، واستنبطه ابن الرفعة من كلام الإمام، ثم قال: وقد يقال إن باشر غيره وهو مدبر أموره فلا منع، كما في الفالج. وذهب في "المهمات" إلى حضانته؛ إذ لا يلزم الحاضن تعاطيها بنفسه، بل له الاستنابة فيها، وقد صرحوا بجواز استئجار أعمى للحفظ، إجارة ذمة لا إجارة عين، وما قاله هو مقتضى كلام المصنف وغيره] اهـ بتصرف.
جاء في "متن أبي شجاع" من كتب السادة الشافعية بشرح الخطيب الشربيني (2/ 491-492، ط. دار الفكر): [وشرائط الحضانة سبعة]، ثم قال الشارح بعد الإشارة إلى أن هناك ستة شرائط أخرى غير السبعة: [وحادي عشرها: أن لا يكون أعمى، كما أفتى به عبد الملك بن إبراهيم المقدسي من أئمتنا ومن أقران ابن الصباغ، وأقره عليه جمع من محققي المتأخرين] اهـ.
وكلام ابن الرفعة الذي نقله شيخ الإسلام زكريا هو ما جاء في كتابه "كفاية النبيه" (15/ 298-299، ط. دار الكتب العلمية) حيث قال: [والعمى هل يمنع؟ لم أر للأصحاب فيه شيئًا، غير أنَّ في كلام الإمام ما يؤخذ منه أنَّه مانع؛ فإنه قال: إنَّ حفظ الأمِّ للولد الذي لا يستقل ليس مما يقبل القرائن؛ فإنَّ المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظًا من مراقب لا يسهو ولا يغفل لأوشك أن يهلك. ومقتضى هذا أن العمى يمنع؛ فإن الملاحظة معه كما وَصف لا تتأتى] اهـ.
وعقب الإمام الأذرعي في "قوت المحتاج" (7/ 436، ط. دار الكتب العلمية) على قول الإمام ابن الرفعة قائلًا: [وينبغي أن يقال: لغير العاجزة الحضانة ما لم يدب الطفل يحبو أو يمشي، فإن حبا أو مشى احتاج إلى الملاحظة والمراقبة، فيخرج عن الأهلية، فإذا ميَّز تمييزًا تامًّا عادت كفالتها؛ لأنه حينئذٍ يتجنب المعاطب فيؤمن عليه] اهـ.
وفي "بداية المحتاج" (3/ 433، ط. دار المنهاج بجدة): [للحضانة موانع أُخر؛ منها: المرض الذي لا يرجى زواله.. قال الرافعي: ومنها: العمى، فلا حضانة لأعمى، كما أفتى به عبد الملك بن إبراهيم المقدسي الهمداني شارح المفتاح] اهـ.
ومنهم من رأى أن تأثير العمى على قيام الحاضن بحفظ المحضون وتربيته أمرٌ نسبي؛ فعلق الحكم على قدرة الحاضن موافقًا بذلك ما ذهب إليه الحنفية؛ فأفتى ابن الصلاح بأن الولد إن كان صغيرًا فلها الحضانة؛ لأنه يمكنها أن تحضنه، وإن كان كبيرًا فلا. وأفتى ابن البزري بأنه يختلف باختلاف أحوالها، فإن كانت ناهضة بحفظه وتدبيره ووقايته الأسواء والقيام بمصالحه ودفع مضاره فلها الحضانة، وإن كانت عاجزة فلا حضانة لها. ينظر: "النجم الوهاج" (8/ 301-302).
ومن الشافعيَّة من فرَّق بين ثبوت الحقِّ ومباشرته؛ فحقُّ الحضانة عندهم يثبت للمرأة حتى وإن كانت عمياء ما دامت قادرة على أن تستنيب عنها مَن يقوم بمصالح ولدها؛ فيقول الإمام الإسنوي في "المهمات" (8/ 121، ط. مركز التراث الثقافي المغربي ودار ابن حزم): [ولم يذكر من الشُّروط كونها بصيرة، وهو يقتضي أنَّ العمياء تثبت لها الحضانة، وهو كذلك؛ فإن الحضانة عبارة عن القيام بحفظ الطِّفل ومصالحه في نفسه، والحاضنة لا يجب عليها تعاطيه بنفسها، بل لها أن تستنيب فيه. وقد صرَّحوا في باب الإجارة أنَّه يجوز استئجار الأعمى في الحفظ إجارة ذمة لا إجارة عين] اهـ.
وجاء في "حاشية الرملي الكبير" على "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (3/ 448): [للمرأة في الحضانة أن تستنيب عنها مَن يقوم بأمور ولدها، ومن ذلك استنبط البارزي أنَّ للعمياء الحضانة قال: لأنَّ الشَّرط أن يكون الحاضن قائمًا بمصالح المحضون إمَّا بنفسه أو بمَن يستعين به، سواء كان أعمى أو بصيرًا، قال في الخادم: ويوافق ما ذكره قول الرَّافعي: إنَّ ابن العمِّ تثبت له الحضانة على بنت عمِّه الَّتي تشتهى، وله أن يطلب تسليمها لامرأةٍ ثقةٍ، ولكن لا تسلَّم إليه] اهـ.
قد جرى الإفتاء والقضاء المصري في مسائل الحضانة على ما ذهب إليه الحنفية وبعض الشافعية من كون العمى ليس مانعًا بذاته، وأنَّ المعتبر هو توفُّر القدرة والاستطاعة على حفظ المحضون والقيام بشؤونه؛ ومن ذلك ما قضت به محكمة المنيا الكلية بتاريخ 9/ 1/ 1957م في الدعوى رقم (13) لسنة (1957م) من أن [القدرة على الحضانة مناطها أن تكون في حالة تستطيع معها أن تقوم على رعاية الصغير وحضانته، ولا يشترط لذلك أن تكون بصيرة؛ فإن العمى ليس من شأنه منع الحاضنة من واجب الحضانة، ومن ثم فإن العمى بذاته ليس مانعًا من الحضانة] اهـ.
كما قضت محكمة الإسكندرية الابتدائية بتاريخ 27/ 10/ 1964م في الدعوى رقم (596) لسنة (1964م) كلي مستأنف؛ بأنه [إذا كان الزوج قد تزوج بزوجة وهي كفيفة ولم ير في ذلك ما يمنع زواجه بها وإنجابه منها ورعايتها لابنيهما أثناء غيابه عن المنزل في العمل، فلا يجوز له بعد ذلك أن يدعي عدم صلاحيتها للحضانة؛ ذلك أن الأصل هو صلاحية الحاضنة] اهـ.
وقد سئل فضيلة الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية الأسبق عن أنه هل هناك مانع من صلاحية الأم فاقدة البصر لحضانة طفلها؟
فأجاب بقوله: [المنصوص عليه شرعًا أن فقدان الأم المذكورة لبصرها لا يمنع من حضانتها لابنها المشار إليه، ما دامت قادرة على تربيته والمحافظة عليه؛ لأن المدار في حق الحضانة على مصلحة الصغير وحده، فمتى وجدت مصلحته وجد معها حق الحضانة. فإذا فرض وأن فقدان هذه الأم لبصرها يحول دون رعايتها مصلحة ابنها والمحافظة عليه لم تكن أهلًا لحضانته، وانتقل هذا الحق لمَن يليها فيه شرعًا، وهي الجدة لأم، لأنها مقدمة فيه على الجدة لأب] اهـ. ينظر: الفتوى رقم: (306) سجل: (83) بتاريخ: 4/ 3/ 1958م.
عليه: فإنَّ حضانة الصغير تثبت للأم فاقدة البصر ما دامت قادرة على رعايته وكفايته وتدبير شؤونه بنفسها أو بغيرها، وهذا ما عليه العمل إفتاء وقضاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.