نرجو منكم تحديد ضابط مسافة بداية القصر للصلاة في ظل الاتساع العمراني؟ حيث أسكن في إحدى المدن الجديدة، وأسافر في إجازاتي الأسبوعية للزيارات العائلية، وأقطع خلال ذلك مسافة تتجاوز 200 كيلو متر، مع العلم بأني أقطع من العمارة التي أسكن فيها مسافة 20 كيلو مترًا تقريبًا حتى الخروج إلى آخر حدود المدينة السكنية، وعندما أصِلُ إلى بوابة المدينة أو الكارتة أكون قد قطعت مسافة 50 كيلو مترًا تقريبًا، فمن أين أقصر الصلاة الرباعية كرخصة من رخص السفر؟
يجوز لك الترخُّص في قصر الصلاة الرباعية في سفرك المذكور بمجرد مجاوزتك لبنيان حيِّك الذي تسكن فيه، أو سوره إن كان له سور، مع مراعاة دخول وقت الصلاة بعد مجاوزتك تلك الحدود العمرانية من الجهة التي خرجت منها.
وإن غلب على ظنك أنك لن تتمكن من أداء الصلاة في وقتها بعد الخروج من المنزل أو كنت لا تعرف حدود حيك الذي تسافر منه، فلا مانع شرعًا في هذه الحالة من أن تترخص بقصر الصلاة من بيتك؛ ما دمت قد عزمتَ على السفر وتهيأتَ بأسبابه.
المحتويات
الإسلام دين يُسْرٍ ورحمةٍ للعالمين؛ حيث تضمَّنت شريعته السمحاء عددًا من الرُّخَص والتخفيفات على المكلفين؛ دفعًا للحرج ورفعًا للمشقة؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]؛ ولذلك كان من القواعد الكبرى التي دار عليها الفقه الإسلامي: أن "المشقة تجلب التيسير"، والسفر مَظِنةٌ للتخفيف؛ قال الحافظ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 77، ط. دار الكتب العلمية): [قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته. واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة؛ الأول: السفر] اهـ.
ولذا جاز قَصْرُ الصلوات المكتوبة وجَمْعُها للمسافر؛ حيث قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كَانَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ" متفقٌ عليه.
ذهب جماهير الفقهاء إلى أن مريدَ السفر لا يَقْصر الصلاة الرباعية حتى يخوض في السفر بأن يرحل، ويشمِّر، ويفارق منزلَه، ويفارق خِطةَ دار إقامته وهيكلها العمراني.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 93، ط. دار الكتب العلمية): [فالذي يصير المقيم به مسافرًا: نيةُ مدةِ السفر، والخروج من عمران المصر] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (2/ 366، ط. دار الغرب الإسلامي): [الشرط الثاني.. لا يقصر حتى يبرز عن بيوت القرية، وإذا رجع أتم إذا دخلها أو قاربها؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾.. فرتب القصر على الضرب، والكائن في البيوت ليس بضارب في الأرض فلا يقصر] اهـ.
وقال الإمام الشافعي في "مختصر المزني" (8/ 118، ط. دار المعرفة، مطبوعًا مع كتاب "الأم"): [إذا نوى السفر فلا يقصر حتى يفارق المنازل إن كان حَضَريًّا ويفارق موضعه إن كان بدويًّا] اهـ.
وقال شمس الدين ابن قدامة الحنبلي في "الشرح الكبير" (2/ 191، ط. مكتبة القاهرة): [مسألة: قال: (إذا جاوز بيوت قريته) وجملته: أنه ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته، ويجعلها وراء ظهره، وبهذا قال مالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور، وحكي ذلك عن جماعة من التابعين] اهـ.
وقد استدلوا على ذلك بحديث أنس رضي الله عنه في وصف حجة الوداع: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» متفقٌ عليه، وذو الحليفة ميقات أهل المدينة ويعرف الآن بـ "أبيار علي" بينه وبينها ستة أميال أو سبعة كما في "معجم البلدان" للحموي (2/ 295، ط. دار صادر)، وهي مسافة تقدر بنحو 9 كيلومترًا.
وقد بوَّب لهذا الحديث الإمام البخاري بقوله: (بَاب يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ)، وذكر فيه أن الإمام عَلِيًّا بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ خرج من الكوفة فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى البُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الكُوفَةُ قَالَ: "لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا".
ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن مريد السفر يجوز له أن يبدأ بالرخص من بيته دون اشتراط لمجاوزة محل إقامته، بشرط توفر قوة قصده وعزمه مع التهيؤ بأسباب السفر.
وممن قال بذلك: الحارث بن أبي ربيعة، والأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، وبمعناه قال: عطاء وسليمان بن موسى.
مستدلين على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 101]، أي بالعزم على السفر.
قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (5/ 356، ط. دار الكتب المصرية): [ويكون معنى الآية على هذا: ﴿وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض] اهـ.
وقال الإمام الروياني في "بحر المذهب" (2/ 320، ط. دار الكتب العلمية): [واحتج عطاء، بأنه لو نوى الإقامة فإنه يلزمه الإتمام في الحال، فإذا نوى السفر قصر في الحال أيضًا] اهـ.
قال العلامة ابن المنذر في "الأوسط" (4/ 352، ط. دار طيبة): [روينا عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، وقال عطاء بن أبي رباح: إذا خرج الرجل حاجًّا فلم يخرج من بيوت القرية حتى حضرت الصلاة، فإن شاء قصر وإن شاء أوفى، وقال سليمان بن موسى: إذا خرج الرجل من بيته ذاهبًا لوجهه فلم يخرج من القرية حتى حانت الصلاة فليقصرها، وكذلك إذا دخل القرية راجعًا من سفره، ثم حانت الصلاة فليقصرها حتى يدخل بيته] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 569، ط. دار المعرفة): [قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ لمن يريد السفر أن يَقصُرَ إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت، فذهب الجمهور إلى أنَّه لا بد من مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيين إلى أنَّه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله] اهـ.
قال العلامة ابن عطية في "المحرر الوجيز" (2/ 103، ط. دار الكتب العلمية): [روي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى] اهـ.
إن المتقدمين من جمهور الفقهاء لم يعتنوا بضبط مسألة الخروج من الأبنية وما يعد منها وما لا يعد منها، وفي هذا المعنى يقول إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب" (2/ 427، ط. دار المنهاج): [فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصَّلتُه غايةُ الإمكان فيه، وأشدُّ ما أعانيه في هذا المجموع أمثالُ هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط. والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنِّه ولطفه] اهـ.
وفي الباب آراء للفقهاء في تحديد "مجاوزة العمران"، وما يُعَدُّ من البلدة وما لا يُعَدُّ، وما يُعَدُّ من القرية وما لا يُعَدُّ، وذلك على التفصيل الآتي:
فذهب الحنفية في رواية الإمام محمد إلى أن مجاوزة العمران يُقَدَّر بغَـلْوَةٍ مما أُعِدَّ من مصالح البلد وكردونها، والغَلْوَةُ تُقدَّر من ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة، والذراع عندهم يساوي بالأطوال المعاصرة (46.375 سم تقريبًا)، ومن ثَمَّ فالغلوة تقدر بـ(185.5مترًا تقريبًا).
قال العلامة سراج الدين ابن نجيم الحنفي [ت: 1004هـ] في "النهر الفائق" (1/ 344، ط. دار الكتب العلمية): [وفي (الخانية): إن كان بينه وبين المصر أقل من غلوة ولم يكن بينهما مزرعة اشترطت مجاوزته، وإلا فلا] اهـ.
وفي رواية عن القاضي أبي يوسف أنها تُقدَّرُ بـ(مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ)، والميل يساوي بالأطوال المعاصرة (1855مترًا تقريبًا)؛ كما في "حاشية العلامة ابن عابدين" (2/ 121، ط. دار الفكر)، و"المكاييل والموازين الشرعية"، للأستاذ الدكتور/ علي جمعة، (ص: 70، ط. دار الرسالة).
لكن ذهب بعض محققي الحنفية إلى أن ضابط الاتصال يتفاوت بين البلدان فيما أُعِدَّ لمصالحها، فلا يلزم العمل بالتقدير المنقول، نظرًا لتفاوت مساحة البلد؛ كِبَرًا وصِغرًا؛ قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2 /121): [الفناء يختلف باختلاف كبر المصر وصغره، فلا يلزم تقديره بغلوة؛ كما روي عن محمد، ولا بمِيل أو مِيلين؛ كما روي عن أبي يوسف] اهـ.
ويتحقق الاتصال عند المالكية بتداخل بناء إحدى القريتين ببناء الأخرى، وباتصال ساكني البساتين التي في حكمها بارتفاقهم بمرافق المدينة أو القرية المجاورة من أخذ نار وطبخ وخبز وما يحتاج إلى شرائه.
كما قرروا أن الانفصال يتحقق إذا كان الموضع المرتحل عنه: قرية لا تقام فيها الجمعة ولا بناءات متصلة بها ولا بساتين؛ أو كان بين القريتين فضاء أو سور؛ فحينئذ يكون لكلِّ واحدةٍ حكم الاستقلال، وللمذهب رواية في تقدير الانفصال بثلاثة أميال؛ أي: بخمسة كيلو مترات ونصف تقريبًا، فالميل يساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، والذراع يساوي بالأطوال المعاصرة عندهم نحو (53 سم)، ومن ثَمَّ فالميل يقدر بـ(1855مترًا تقريبًا) ينظر: "حاشية العدوي على شرح الرسالة" (1/ 363، ط. دار الفكر)، و"المكاييل والموازين الشرعيَّة" (ص: 53).
قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في "المعونة" (1/ 269-270، ط. المكتبة التجارية): [وفي المسافة التي يقصر ببلوغه إليها روايتان: إحداهما أن يفارق بيوت بلده ولا يحاذيه ولا عن يمينه وشماله شيء منها، والآخر: أن يكون من المصر على ثلاثة أميال، فوجه الأولى: أنه مفارق لبيوت بلده فأشبه إذا بلغ مسافة ثلاثة أميال، ووجه الثانية: أن ما دون الثلاثة أميال في حكم البلد] اهـ.
وقال العلامة الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 143 ط. دار الفكر): [ص: (إن عدى البلدي البساتين المسكونة). ش: أي: التي لا ينقطع عنها أهلها، قال ابن عبد السلام في قول ابن الحاجب: ويشترط في الشروع مجاوزة بناء خارج البلد، وبساتينه التي في حكمه.. وقد قال سند في تعليل اعتبار البساتين؛ لأن عمارتها متصلة بعمارة القرية فهي من توابعها، وقد يسكن فيها أهلها، وقد قالوا: لو كان في طرف البلد مساكن خربت وخلت من السكان إلا أن أبنيتها قائمة لم يقصر حتى يجاوزها.. ويدل أيضًا على اعتبار الاتصال ما ذكره بعد ذلك ونصه: لو كانت قريتان يتصل بناء إحداهما بالأخرى فهما في حكم القرية، وإن كان بينهما فضاء فلكل واحدة حكم الاستقلال انتهى. وانظر كلام الأُبِّـي وابن بشير ففيه زيادة، (فائدة) قال ابن بشير: إن سافر من مصر لا بناء حوله ولا بساتين قَصَر بمفارقته لسوره، وقيل: حتى يجاوز البلد بثلاثة أميال، إن كان حول المصر بناءات معمورة وبساتين فإن اتصلت به وكانت في حكمه فلا يقصر حتى يجاوزها، وإن لم تتصل به وكانت قائمة بأنفسها قصر وإن لم يجاوزها.. وقال الأُبِّي: كان الشيخ -يعني ابن عرفة- يعتبر البساتين التي في حكم المصر كالبساتين التي يرتفق ساكنها بمرافق المصر من أخذ نار وطبخ وخبز وما يحتاج إلى شرائه في الحال، ويمثل ذلك برأس الطابية وما قاربها انتهى] اهـ.
ويقصد الإمام الحطاب [ت:٩٥٤ هجرية/ ١٥٤٧ ميلادية] بـ"رأس الطابية" البستان الملاصق لمدينة تونس القديمة كما في "مسالك الأبصار" للعمري (4/ 146، ط. مجمع أبو ظبي الثقافي)، وهي الآن حي من الأحياء التابعة لـلتقسيم الإداري "معتمدية العمران" بولاية تونس.
وقال العلامة العدوي المالكي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 364): [وَمِثْلُ الْبَسَاتِينِ: الْقَرْيَتَانِ إذَا اتَّصَلَتَا أَوِ اشْتَدَّ قُرْبُهُمَا بِحَيْثُ يَرْتَفِقُ أَهْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِأَهْلِ الْأُخْرَى فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ مِنْ إحْدَاهُمَا حَتَّى يُجَاوِزَ الْأُخْرَى وَيَنْفَصِلَ عَنْهُمَا لَا إنْ بَعُدَتْ إحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فَلَا يَعْتَبِرُ مُجَاوَزَةَ الْأُخْرَى] اهـ.
وذهب الشافعية إلى أنَّ ضابط مفارقة العمران يتحقق بالخروج من الأبنية حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل، وقرروا أنَّ الخراب الذي يتخلل العمارات معدود منها كالنهر الحائل بين جانبي البلد، كما قرروا أن مرد الانفصال إلى العرف؛ فما يعتبره العرفُ فاصلًا يجوز القصر بمجاوزته، وما لا يعتبره فاصلًا فلا يجوز القصر إلا بعد مجاوزة الجميع، وأعطوا القرية التي هي أقل سكانًا ومرافق: أحكامَ البلدة انفصالًا واتصالًا؛ بناء على النظام السكني الذي كان سائدًا في عصرهم.
قال الإمام الرافعي في "فتح العزيز" (4/ 435، ط. دار الفكر): [فابتداء السفر بمفارقة العمران حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل، والخراب الذي يتخلل العمارات معدود من البلد كالنهر الحائل بين جانبي البلد، مثل ما في بغداد؛ فلا يترخص بالعبور من أحد الجانبين إلى الآخر] اهـ.
وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (2/ 370، ط. دار الكتب العلمية): [إذا كان في قرية متصلة بقرية أخرى فإن كان بين القريتين انفصال ولو كذراع جاز له القصر إذا فارق بنيان قريته، وإن لم يكن بينهما انفصال واتصل بنيان أحدهما بالآخر لم يجز له القصر حتى يفارق منازل القريتين لأنهما بالاتصال كالبلد الجامع لقبيلتين] اهـ.
وتعقبه الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (2/ 251، ط. دار الفكر) بأن المعول عليه هو العرف لا التقدير: [والقريتان المتصلتان عُرْفًا (كبلدة) واحدة وإن اختلف اسمهما، وإلا اكتفي بمجاوزة قرية المسافر، وقول الماوردي: يكفي في الانفصال ذراع؛ جَرْيٌ على الغالب، والمعول عليه: العرف] اهـ.
وذهب المحقق العلامة نجم الدين الحفني الشافعي [ت: 1181هجرية/ 1768ميلادية] -وهو ثامن شيوخ الأزهر الشريف- إلى أن ضابط الانفصال يكون بأحد ثلاثة أمور: إما السور، أو الخندق، أو العمران إن لم يكن سور ولا خندق كما نقله عنه العلامة البجيرمي في "حاشيته على شرح المنهج" (1/ 350، ط. الحلبي).
وذهب الحنابلة إلى أنَّ ضابط الانفصال يرجع إلى تحديد القرب والبُعد، بالإضافة إلى اتصال البناء من عدمه.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2 /192، ط. مكتبة القاهرة): [إن كان بعضها متصلًا ببعض: لم يقصر حتى يفارق جميعها. ولو كانت قريتان متدانيتين، فاتصل بناء إحداهما بالأخرى: فهما كالواحدة، وإن لم يتصل: فلكل قرية حكم نفسها] اهـ.
وبهذا التفصيل يتجلى واقع القرى والبلاد وتظهر سمات العمران فيها قديمًا، ويتأكد أن تَشَعُّب طرائق الاجتهاد بين المذاهب في حقيقة "مجاوزة العمران" من أجل وضع ضابط لهذه المسألة يَلُم شعثَها، ويَجْمع متفرقَها: ناتج بالأصالة عن ملاحظة هذا الواقع الذي كان فيه حجم البناء في القرى والمدن ومساحتهما ليس بالاتساع والتمدد الذي عليه في الواقع المعاصر، بالإضافة إلى تشابك نمط بنيان البيوت واتصالها ببعضها وضيق شوارعها، واختصاص بعضها بالخدمات دون بعض.
وهو ما راعاه العلامة البجيرمي الشافعي في التفرقة بين المدينة (العاصمة) والقرية والبلدة، حيث يقول في "حاشيته على شرح المنهج" (1/ 350، ط. الحلبي): [(قوله: كبلد وقرية) في عطف القرية على البلد إشارة إلى تغايرهما؛ لأن القرية الأبنية المجتمعة القليلة عرفًا، والبلدة الأبنية المجتمعة الكثيرة عرفًا، والأولى ما ذكروه في الجمعة: أن المصر ما كان فيها حاكم شرعي وشرطي وسوق، والبلد ما خلت عن بعض ذلك، والقرية ما خلت عن الجميع] اهـ.
وهو تعريف راعى الدور الوظيفي للمدينة والقرية ومظهر مبانيها وحجم مساحتها وكثافة سكانها، وهي أسس خمسة رئيسية قررها الجغرافيون في تعريف المدينة والقرية، وهي: الإحصائي، والتاريخي (ويراعى فيه احتفاظ المدينة بحقوقها وآثارها وحصونها)، والإداري، والوظيفي، والحقيقة المادية "اللاندسكيب Landscaping" التي يُتعرف عليها من خلال مظهر المباني والكتلة وطبيعة الشوارع والطرق والمتنزهات. ينظر: "جغرافية المدن" للدكتور/ جمال حمدان (ص: 5-17، ط. عالم الكتب).
ولا شك أن واقع المدن والقرى آخذٌ في التطوير إداريًّا ووظيفيًّا وإحصاءً وحقيقةً ماديةً في كلِّ عصر عن سابقه؛ فهذا التطور الذي نشهده في العصر الحديث أفرز واقعًا متباينًا جدًّا عن ذلك الواقع الذي تصفه كتب الجغرافيا والتاريخ؛ فهناك طفرة هائلة جرت على المدن والقرى وأنماطها وهياكلها العامة في التخطيط والمرافق والخدمات، وتمددت خِطتها العمرانية والحضْرية بتمدد مبانيها ومنشآتها وكردونها، وتلاحمت أحياؤها القديمة بالجديدة وتداخلت، وزاد تعدادها السكاني وكثافة محتواها البشري كمًّا وكيفًا؛ فأضحت متغيرة عن هاتيك المدن والقرى القديمة؛ شكلًا وحجمًا ووظيفةً وإحصاءً وإدارة.
أصبحت المدن والقرى في الآونة المعاصرة ذات تخطيط عمراني سريع النمو ومستمر التطور بمرور الزمن، ولغرض توفير حاجات الإنسان من مسكن وخدمات وفرص عمل، ولذا فقد اتسعت مناطقها السكنية وأحياؤها العمرانية اتساعًا أفقيًّا متزايدًا باطراد ملحوظٍ بلغ في المدن الجديدة مساحات شاسعة في الأراضي الصحراوية تمتد إلى عدة كيلو مترات في جهاتها الأربع، حتى يسير السائرُ في طرقها المتشابكة والمتداخلة مسافات طويلة، قد تتعدى أكبر مسافة قَصْر حددها مذهب من المذاهب الفقهية وهو لم يتجاوز أبنيتها وأحياءها المتداخلة بَعدُ وكأنها "مدينة واحدة"، بل وصل الأمر في ذلك إلى إيقاف هذا التوسع وذلك التمدد والعمل على إيجاد بدائل خارج حدودها الجغرافية سواء كانت تلك البدائل مدنًا تابعة أو مستقلة.
ولذا عمدت الجهات المعنية إلى تقسيمها إلى أحياء متتالية؛ كل حيٍّ قائم بحياله، مميز باسمه وشوارعه، تمتد مساحته في بعض المدن إلى نحو 1000 فدانٍ، ومشتمل على تقسيم داخلي يضم عدة مناطق سكنية أساسية تُعْرَفُ أحيانًا بـ "المجاورة"، ويخضع لرئيسٍ مختصٍّ قائمٍ بشؤونه، وبعضها محاط بسور؛ بما يجعل كلَّ حيٍّ مستقلًّا بنفسه في أموره الإدارية، ومتكاملًا في خدماته ومرافقه الأساسية؛ كالأسواق، والمجمَّعات التجارية، ودور العبادة، والملاعب، والمدارس التعليمية، خاصة التعليم الأساسي، ونحو ذلك من مقومات الحياة المتكاملة التي يهنأ فيها الناس بالإقامة والاستقرار.
وفي معالجة هذا الاتساع العمراني واستنباط الأحكام المناسبة لواقعه التي تراعي مقصد تشريع الرخص، وترفق بالمكلفين وأحوالهم، قرر المحققون في كلِّ مذهب عدم الجمود على التقدير الذي اجتهد فقهاء كل مذهب لضبط المسألة بحسب الحالة المعهودة للقرى والمدن في هاتيك الأزمان؛ لأنه في ظل الاتساع العمراني والسكاني أصبح غير مناسب مع حقائق الواقع المتطور قرنًا بعد قرن.
فعند الحنفية:
دفع العلامة الشرنبلالي الحنفي [ت: 1069هجرية/ 1658 ميلادية] لزوم الأخذ بالتقدير الذي نص عليه فقهاء الحنفية -على ما بينهم من خلاف في ذلك- بالتنزيل على واقع مدينة القاهرة مبينًا صعوبة ضبط الاتساع الحاصل في زمنه بهذه التقديرات المنقولة؛ فقال في رسالته المسماة "تحفة أعيان الفناء بصحة الجمعة والعيدين في الفناء": [اعلم أن بعض المحققين أهل الترجيح أطلق الفناء عن تقديره بمسافة، وكذا محرر المذهب الإمام محمد وبعضهم قدره بها، وجملة أقوالهم في تقديره: ثمانية أو تسعة: غلوة، ميل، ميلان ثلاثة، فرسخ، فرسخان، ثلاثة، سماع الصوت، سماع الأذان، والتعريف أحسن من التحديد؛ لأنه لا يوجد ذلك في كل مصر، وإنما هو بحسب كِبَر المصر وصغره، بيانه: أن التقدير بغلوة أو ميل لا يصح في مثل مِصْرَ؛ لأن القرافة والترب التي تلي باب النصر يزيد كلٌّ منها على فراسخ من كل جانب، نعم هو ممكن لمثل بولاق، فالقول بالتحديد بمسافة يخالف التعريف المتفق على ما صدقا عليه بأنه المعد لمصالح المصر؛ فقد نص الأئمة على أن الفناء: ما أُعِدَّ لدفن الموتى وحوائج المعركة وكركض الخيل والدواب وجمع العساكر والخروج للرمي وغير ذلك.
وأي موضعٍ يحد بمسافة يسع: عساكر مصر ويصلح ميدانًا للخيل والفرسان ورمي النبل والبندق والبارود واختبار المدافع، وهذا يزيد على فراسخ بالضرورة، وانظر إلى سعة سفح الجبل المقطم أيقدر فناء المصر منه بغلوة أو فرسخ مع أنه بعض فناء مصر؟ فظهر أن التحديد بحسب الأمصار] اهـ ملخصًا بواسطة ابن عابدين في "منحة الخالق" (2/ 152، ط. دار الكتاب الإسلامي).
وقد اعتمده العلامة ابن عابدين الحنفي [ت: 1252هجرية/ 1836ميلادية] وفرَّع عليه تمثيلًا على واقع مدينة "دمشق" وفق هيكلها العمراني في زمنه؛ حيث حدَّد الأماكن التي يتحقق فيها "مجاوزة العمران" لساكن هذا المدينة بقوله في "حاشيته" (2/ 121): [إذا علمت ذلك ظهر لك أن ميدان الحصا في دمشق من ربض المصر وأن خارج باب الله إلى قرية القدم من فنائه؛ لأنه مشتمل على الجبانة المتصلة بالعمران، وهو معد لنزول الحاجِّ الشريفِ فإنه قد يستوعب نزولهم من الجبانة إلى ما يحاذي القرية المذكورة فعلى هذا لا يصح القصر فيه للحجاج، وكذا المرجة الخضراء فإنها معدة لقصر الثياب وركض الدواب ونزول العساكر ما لم يجاوز صدر الباز؛ بناًء على ما حققه الشرنبلالي في رسالته من أن الفناء يختلف باختلاف كبر المصر وصغره فلا يلزم تقديره بغلوة كما روي عن محمد ولا بميل أو ميلين كما روي عن أبي يوسف] اهـ.
والمرجة الخضراء هي "الميدان الكبير، أو ساحة الشهداء، أو المرجة" وتقع الآن في وسط مدينة دمشق، وقد كانت في زمان العلامة ابن عابدين من فناء مدينة دمشق، حيث تبعد عن مركز المدينة بنحو ثلث فرسخ، وهو ما يساوي (1855مترًا)؛ وفق ما جاء في قوله في "حاشيته على الدر المختار" (2/ 139) في "مطلب صحة الجمعة بمسجد المرجة والصالحية في دمشق": [وبه ظهر صحتها في تكية السلطان سليم بمرجة دمشق، وكذا في مسجده بصالحية دمشق؛ فإنها من فناء دمشق بما فيها من التربة بسفح الجبل وإن انفصلت عن دمشق بمزارع لكنها قريبة؛ لأنها على ثلث فرسخ من البلدة] اهـ.
وعند المالكية:
قرر الإمام ابن الحاج المالكي [ت: 737 هجرية/ 1336ميلادية] في "نوازله" عدم الاعتداد باتصال البساتين بالبلدة تمثيلًا على واقع "مدينة قرطبة" في زمانه، فقال: [من خرج مسافرًا من قرطبة فوصل إلى البُرْتَال، أو إلى مينة، أو إلى عين شهدة قصر، ولا يراعي أن يكون البساتين عن يمينه وشماله] اهـ، نقلًا عن "التاج والإكليل" (2/ 494، ط. دار الكتب العلمية).
و"عين شُهْدة" كانت في الطرف الشمالي لمدينة قرطبة؛ فهي ينبوع ينبجس من الجبل المطل عليها المعروف عند مؤرخي العرب بـ "جبل العروس"، يقول بعض المؤرخين في وصف قرطبة: [وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضًا، وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلِّة بنفسها.. وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد، وهي في سفح جبل مطل عليها] اهـ. ملخصًا من "نفح الطيب" لشهاب الدين ابن المقري (1/ 558، ط. دار صادر).
والبرتال ومينة وعين شهدة مواضع تقع في أطراف مدينة "قرطبة" في هذا الزمان، وقد استشهد بهذه الأماكن ابن الحاج في تحديد مفارقة العمران للمسافر من "قرطبة"؛ موضحًا أنه لا يشترط في ذلك اتصال البساتين بالمدينة؛ مراعاة للمشقة الحاصلة من ذلك؛ فهذه البساتين ممتدة لمسافات طويلة لما تمتاز به هذه المنطقة بالسهول الخضراء والغابات والحدائق. ينظر: "نزهة المشتاق" للعلامة الإدريسي (2/ 579، ط. دار النفائس)، و"تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة" للدكتور/ محمود يوسف خضر (ص: 17-20، ط، دار الحياة).
وعند الشافعية:
افترض إمام الحرمين الجويني الشافعي (ت: 478هجرية/ 1085ميلادية) مثل هذا الواقع المعاصر وقرر في بحثه: الاكتفاء بخروج المسافر من قريته وإن كانت أبنيتها متصلة بأبنية القرية المجاورة لها، فقال في "نهاية المطلب" (2/ 426، ط. دار المنهاج): [لو فرضت قرى كثيرة متصلة تمتد خطتها مراحل، فيلزم على قياسهم ألا يستبيح الخارج من أقصاها الرخصَ، ما لم يخرج عن جميعها. وهذا بعيدٌ جدًّا.. والوجه في اتصال أبنية القريتين: ما ذكرناه؛ من أنّ مجاوزةَ أبنية القرية التي خرج عنها كافية] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي [ت: 450 هجرية/ 1058 ميلادية] في "الحاوي" (2/ 369-370، ط. دار الكتب العلمية) تطبيقًا على واقع مدينة "البصرة" في زمنه: [الفرق بين اتصال البنيان بالعمران وبين اتصاله بالخراب؛ لأن بين جامع البصرة ومريدها والعقيق خرابات دارسة قد غطى سربها، وكل من حواه سورها مقيم بالبصرة ومنسوب إليها؛ فإذا خرج من سور البلد جاز له القصر، وإن اتصل سور البلد ببنيان البساتين كمن خرج من البصرة من درب سليمان جاز له القصر، وإن كانت بنيان البساتين متصلًا بالسور؛ لأن هذه البنيان لم تبن للاستيطان وإنما بنيت للانتفاع والارتفاق فهي كـ "أرض البساتين"، وإنما يكون مقيمًا إذا كان في بنيان يلبث فيه للاستيطان أهل البلد.. أهل البساتين ومكان القصور كساكني دجلة والبصرة وأنهارها الذين لا يجمعهم بلد ولا تضمهم قرية وإنما يستوطنون قصور البساتين؛ فلهم القصر إذا فارقوا الموضع المعروف بينهم] اهـ.
و"درب سليمان" كانت فيه دار سليمان حفيد أبي جعفر المنصور [ت: 199 هجرية] وإليه ينسب، وقد كان ضمن الخطة العمرانية لمدينة "بغداد" حيث منطقة الرصافة التي تقع في الجانب الشرقي لدجلة، وكانت آنذاك تقع بعده بساتين متصلة إلى مساحات كبيرة؛ وقد وصف هذه الخطة المؤرخ اليعقوبي في "البلدان" (ص: 42، ط. دار الكتب العلمية) بقوله: [قصره -أي المهدي- بالرصافة الذي بالجانب الشرقي من دجلة فإذا جاوز موضع الجسر؛ فالجسر، ومجلس الشرطة، ودار صناعة للجسر، فإذا جاوزت ذلك فأول القطائع: قطيعة سليمان بن أبي جعفر في الشارع الأعظم على دجلة، وفي درب يعرف بدرب سليمان]، وأخذ يُعدد في هذه البساتين بستانًا تلو الآخر، ثم قال (ص: 43): [وفي هذه الأرباض والقطائع ما لم نذكره؛ لأن كافة الناس بنوا القطائع وغير القطائع وتوارثوا] اهـ. وهو ما يفيد أن الإمام الماوردي اعتبر السور كحد لمجاوزة العمران دون اعتبار لاتصال العمران والبساتين له وارتفاق أهلها بمرافق الأحياء المجاورة والملاصقة لها.
كما فرَّع متأخرو الشافعية على أصول المذهب أن مجاوزة سور القاهرة القديمة كافٍ بالخروج من إحدى بوابته بحسب الجهة التي يخرج منها المسافر دون اشتراط لمجاوزة ما بعد السور رغم امتداد أحياء القاهرة بعدها إلى مسافات شاسعة، يقول العلامة الشرواني [ت: 1301هجرية/ 1884ميلادية] في "حاشيته على تحفة المحتاج" (2/ 372، ط. دار الفكر): [وبه يعلم أنه يقصر بمجاوزة باب زويلة ع ش، زاد البجيرمي: ومثله مجاوزة باب الفتوح؛ لأنهما طرفا القاهرة حفني. اهـ.] اهـ.
وعند الحنابلة:
قال الإمامُ ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 192): [وإن كان للبلد مَحَالُّ، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد، فمتى خرج من محلته: أبيح له القصر إذا فارق محلته] اهـ.
وهو ظاهر كلام كثير من فقهاء الحنابلة كما في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للعلامة المرداوي الحنبلي (2/ 321، ط. دار إحياء التراث العربي).
وهو واقع مشابه في أصله مع الواقع المعاصر؛ فقد كان لمدينة بغداد في هاتيك الأزمان هيكلٌ عمراني دائري مبتكر يضم قرًى متجاورةً امتدت خطتها المركزية نحو خمسة آلاف ذراع في مختلف الاتجاهات، والذراع السوداء تسمى أيضًا بـ "ذراع الحديد" وأول مَنْ قاس بها هارون الرشيد الأبنية، وهي تساوي (2.16 كيلو مترًا) تقريبًا. ينظر: "الأحكام السلطانية" للعلامة الماوردي، (ص: 152-153)، و"المكاييل والموازين" (ص: 28)، و"المقادير الشرعية" للعلامة الكردي دون طبعة (ص: 250-254).
يقول المؤرخ اليعقوبي في "البلدان" (ص: 25) واصفًا بغداد في عصر المنصور (754 إلى 775 هجرية): [للمدينة أربعة أبواب، بابا سماه باب الكوفة، وبابا سماه باب البصرة، وبابا سماه باب خراسان، وبابا سماه باب الشام، وبين كل باب منها إلى الآخر خمسة آلاف ذراع بالذراع السوداء من خارج الخندق] اهـ. ثم وصف خلال سبعة وعشرين صفحة كيف هندست، وهندست أرباضها، وقطائعها، وأسواقها، ودروبها، وسككها، ومحالها، وختم ذلك بقوله في (ص: 51-52): [وهذه القطائع والشوارع والدروب والسكك التي ذكرتها على ما رسمت في أيام المنصور ووقت ابتدائها وقد تغيرت ومات المتقدمون من أصحابها وملكها قوم بعد قوم وجيل بعد جيل.. وزادت عمارة بعض المواضع، ولأنه اتصلت العمارة والمنازل بين بغداد وسُرَّ مَنْ رَأى في البر والبحر، أعني في دجلة وفي جانبي دجلة] اهـ.
ومقتضى هذا البيان لواقع القرى والمدن في القديم وواقعها في العصر الحديث، ونصوص الفقهاء في وضع ضابط لـ "مجاوزة العمران" فإنه: يتجه القول بأنه يجوز للمسافر من سكان هذه المدن والمقيمين فيها في الاتساع العمراني: أن يبدأ بقصر الصلاة بمجرد خروجه من حيِّه ومفارقته لبنيانه ومجاوزة حدوده، التي تميزه عن الأحياء الأخرى المجاورة له، قربت مسافة أيٍّ منها أو بعدت، وهو الأرفق بحال المسافر، والأوفق لمقصود الشرع من تشريع الرُّخص للمسافر.
ولا يَرِدُ على ذلك كون هذه الأحياء متجاورة ومتشابكة في المرافق والطرق الواصلة بين بعضها بعضًا؛ وفقًا لخطة عمرانية مشتركة وهيكل عام موحد يجمعها جميعًا تحت مظلة مدينة مركزية واحدة.
فمع التسليم بذلك؛ إلا أن كلَّ حيٍّ سكني مستقلٌ بنفسه عن غيره من الأحياء المتجاورة؛ سواء بالاسم أو بعدم اتصال الأبنية والوحدات السكنية ببعضها البعض، أو بتمايز الحدود الإدارية بمراعاة وجود شوارع واسعة فاصلة بين أغلبها، وفي أحيان يكون التجمع السكني مستقلًّا بسور محيط به من اتجاهاته كافة، مع وضع علامة إرشادية تدل على ذلك، وأصبح ذلك مراعًى في استخراج البطاقات التعريفية للشخص كـ"بطاقة الرقم القومي" ونحوها من الأوراق الرسمية.
بالإضافة إلى أن الفقهاء قد نزَّلوا القرية التي هي أصغر وحدة إدارية منزلة البلدة وأعطوها حكمها في مسألة القصر، مع أن واقع القرية في هاتيك الأزمان يتباين كثيرًا مع ما عليه واقع الحي السكني بمفهومنا المعاصر، مساحة، ومرافق، وتعدادًا سكانيًّا.. إلخ؛ فلأن تُنَزَّلَ الأحياءُ السكنية منزلةَ البلدةِ من باب أولى.
وهذا القول هو مؤدى كلام أصحاب المتون من مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب المالكية، والمذهب عند الشافعية، وهو الظاهر من نصوص الحنابلة:
فعند الحنفية:
قال العلامة زين الدين ابن نجيم (ت: 970هـ) في "البحر الرائق" (2/ 139، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ويدخل في بيوت المصر ربضه، وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن، ويقال لحرم المسجد: ربض أيضًا، وظاهر كلام المصنف: أنه لا يشترط مجاوزة القرية المتصلة بربض المصر، وفيه اختلافٌ، وظاهر المجتبى ترجيح عدم الاشتراط، وهو الذي يفيده كلام أصحاب المتون كالهداية أيضًا] اهـ.
وقال العلامة سراج الدين ابن نجيم في "النهر الفائق" (1/ 344): [(من جاوز بيوت مصره) من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من الجانب الآخر كما في "الأصل"، ويدخل في بيوت المصر ربضه، وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن، وأما القرية المتصلة بالربض: فظاهر كلامه أنه لا يشترط مجاوزتها، وصحح الشارح بقرب المصر لا يقصر، وإلا قصر، والمختار: أنه يقصر فيهما؛ لأنه جاوز الربض، ومتى جاوز الربض فقد جاوز البلد] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 423، ط. دار الكتب العلمية): [قوله: "المتصلة بربض المصر" قيد بالربض احترازًا عن القرية المتصلة بالفناء فلا يشترط مجاوزتها على هذا الصحيح الذي صححه الشارح تبعًا "للنهاية" معزيًا "للمحيط، وأفاد في "النهر" عن "الولوالجية" أن المختار عدم اشتراط مجاوزة القرية مطلقًا] اهـ.
وعند المالكية:
قال العلامة المواق في "التاج والإكليل" (2/ 494، ط. دار الكتب العلمية): [وإن كان حول المصر بناءاتٌ معمورةٌ وبساتين: فإن اتصلت به وكانت في حكمه: فلا يقصر حتى يجاوزها. وإن لم تتصل به وكانت قائمة بنفسها: قصر، وإن لم يجاوزها، وإن كان الموضع المرتحل عنه قرية لا تقام فيها الجمعة ولا بناءات متصلة بها ولا بساتين، قَصَر إذا جاوز بيوت القرية بلا خلاف] اهـ.
وقال العلامة زروق في "شرح متن الرسالة" (1/ 359، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يقصر حتى يجاوز بيوت المصر وتصير خلفه ليس بين يديه ولا بحذائه منها شيء). هذا إن كان مصرًا اتصلت بيوته وبساتين فيها بيوت، وإن لم تتصل به واستقلت بنفسها: قَصَر عند مفارقته] اهـ.
وعند الشافعية:
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 194، ط. دار الكتب العلمية): [وإن كان في قرية وبقربها قرية ففارق قريته جاز له القصر، وقال أبو العباس: إن كانت القريتان متقاربتين فهما كالقرية الواحدة فلا يقصر حتى يفارقهما، والمذهب: الأول؛ لأن إحدى القريتين منفردة عن الأخرى] اهـ.
قال الإمام النووي شارحًا له في "المجموع" (4/ 348، ط. دار الفكر): [أما إذا كانت قريتان ليس بينهما انفصال: فهما كمحلتين من قرية، فيشترط مجاوزتهما بالاتفاق، وقد نبَّه عليه المصنف بقوله: "لأن إحدى القريتين منفردة عن الأخرى"، قال إمام الحرمين: "وفيه احتمال"، وإن انفصلت إحداهما عن الأخرى فجاوز قريته؛ جاز القصر، سواء قربت الأخرى منها أم بعدت، وقال ابن سريج: إذا تقاربتا اشترط مفارقتهما، والصحيح عند الأصحاب: هو الأول] اهـ.
وقال في "الروضة" (1/ 381، ط. المكتب الإسلامي): [فلو كان بينهما انفصال فجاوز قريته؛ كفى، وإن كانتا في غاية التقارب على الصحيح] اهـ.
وقد صرح الشافعية بأن القرية إذا كان لها سور محيط بها، فإن المسافر يبدأ في الترخص برخص السفر -من قصر للصلاة الرباعية وجمع بين الصلوات وغير ذلك- بمجرد خروجه من هذا السور المختص بها ومن الناحية أو البوابة التي خرج منها، لا المدينة المركزية الجامعة للأحياء والتجمعات السكنية، سواء كان بنيانها متفاصلًا؛ أو متقاربًا، وهو وصف ينطبق على واقع الأحياء المعاصرة حيث إن بعضها له سور يفصله عن غيره، وبعضها الآخر -وهو الأكثر- يفصله عن غيره محاور وشوارع واسعة، وهي في معنى الخندق الفاصل وإن لم يكن فيه ماء.
قال الإمام النووي في "منهاج الطالبين" (ص: 44، ط. دار الفكر): [من سافر من بلدة فأول سفره مجاوزة سورها؛ فإن كان وراءه عمارة اشترط مجاوزتها في الأصح. قلت: الأصح لا يشترط. والله أعلم] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (2/ 370-371، ط. المكتبة التجارية): [(ومن سافر من بلدة فأول سفره مجاوزة سورها) المختص بها، وإن تعدد إن كان لها سور كذلك ولو في جهة مقصده فقط، لكن إن بقيت تسميته سورًا؛ لأن ما في داخله ولو خرابًا ومزارع محسوب من موضع الإقامة، والخندق كالسور وبعضه كبعضه، وإن لم يكن فيه ماء على الأوجه] اهـ.
وقال العلامة القليوبي الشافعي في "حاشيته على شرح المحلي على المنهاج" (1/ 295، ط. دار الفكر): [قوله: (لها سور) هو بالهمزة اسم لبقية الشيء، وبعدمه اسم للمراد هنا بمعنى المحيط بالشيء، والمراد به هنا: ما يختص بالبلد ولو من نحو تراب لمنع العدو أو جبل، وإن تعدد إن لم يهجر وسافر من جهته، فإن لم يكن اعتبر الخندق، وهو ما يحفر حول البلد استغناء به عن السور، وإن لم يكن فيه ماء، فإن فقدا اعتبرت القنطرة، وهي ما عقد خارج الباب في عرض حائطه لا ما زاد على عرضها] اهـ.
وعند الحنابلة:
قال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (2/ 321، ط. دار إحياء التراث العربي) معلقًا على كلام ابن قدامة السابق نقله: [ظاهر كلامه أيضًا وكثير من الأصحاب: جواز القصر إذا فارق بيوت قريته، سواء اتصل به بلد آخر أو لا] اهـ.
يضاف إلى كل ما سبق ممَّا هو واقع وحاصل الآن: أن اشتراط مجاوزة "بوَّابة المدينة"، أو ما يُعرَف بـ"الكارتة" عند مَدْخل المدينة ومَخْرَجِها، وما شابه ذلك مما يُعْرَف به الحدود الجغرافية للمُدُن والمحافظات، لا يتماشى مع ضبط مسافة القصر وتحديدها؛ في ظل الواقع المعاصر من تعدد الجهات والطرق وتنوع المحاور والمداخل والمخارج لهذه المدن، مع تفاوت المسافات البينية بين هذه البوابات وبين الأحياء السكنية؛ مع ما يضاف إلى ذلك من اتساع الرقعة المأهولة وكثرة الأحياء السكنية؛ ومن ثَمَّ فاشتراط مجاوزة هذه البوابات وما وراء هذه المدن من الأحياء وعمرانها الممتد لمسافات طويلة لا معنى له في التحقق بهذه الرخصة الشرعية التي يُراد منها التيسير والرفق بالمكلفين، فالقول به يلزم منه ألا يستبيح الخارج من أقصى هذه المدن الرخصَ، لأنه قد يستغرق مسافة مترامية تبلغ في أغلبها مسافة القصر دون أن يخرج عن جميع أحيائها سواء اتصلت أو انفصلت؛ فضلًا عن الوصول إلى محل "البوابة" أو ما يُعرف بـ "الكارتة".
ولذا لا يشترط "مجاوزة الكارتة أو بوابة المدينة" إلا لساكن الحي المجاور لها؛ لكونها العلامة المميزة لحدود هذا الحي بالنسبة له، أما الأحياء الأخرى فيكفي المسافر منها الخروج عن حدود حيه، وهو مقتضى نصوص المحققين من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة المذكورة آنفًا حيث راعوا هذا الاتصال العمراني واتساع رقعته في مثل هذا الواقع وتعقبوا الضوابط والتقديرات التي ذكرها الفقهاء.
وقد تعقَّب إمامُ الحرمين الجوينيُّ اطِّرادَ الفقهاءِ القياسَ في مثل هذه الحواضر الممتدة والمتصلة في أبنيتها، باشتراط مجاوزتها جميعها حتى يتسنَّى للمسافر منها الترخص: بأنه "بعيد جدًّا"؛ بل ردَّ ما قدَّره بعضهم في تحديد القرب والبعد بينها بأنه "غير منضبط"، بل حكم عليه بالبطلان؛ لعدم استناده إلى أصل معتبر.
فقال في "نهاية المطلب" (2/ 426): [قال العراقيون: لو فرضت قريتان أبنية إحداهما متصلة بأبنية الأخرى، فمن خرج من إحدى القريتين في صوب الأخرى، فلا بد من مجاوزتهما جميعًا؛ فإنهما بمثابة محلَّتين، والذي ذكروه ممكن ظاهر، وقد حكَوْه من نص الشافعي. ولكن للاحتمال فيه مجالٌ بيِّنٌ؛ فإن المحال تعزى إلى بلدة، وخِطتُها شاملةٌ لها، أما هاهنا القرية منفصلة عن القرية باسمها وحدودها، والدليل عليه أنه لو فرضت قرى كثيرة متصلة تمتد خطتها مراحل، فيلزم على قياسهم ألا يستبيح الخارج من أقصاها الرخصَ، ما لم يخرج عن جميعها. وهذا بعيدٌ جدًّا؛ ثم قالوا: لو انفصلت أبنية إحداهما عن أبنية الأخرى، ولكن كانتا مع ذلك متقاربتين، فمن خرج من إحداهما كفاه مفارقة أبنيتها، وحَكَوْا عن ابن سُريج أنه قال: لا بد من مفارقتهما جميعًا، كما لو اتصلت الأبنية، ثم زيفوا هذا، وهو لعمري مزيف غيرُ منضبط؛ فإن القرب الذي ذكروه لا ضبط له، ولعل الوجهَ في تقريبه أن يكون مثلَ ما يقع بين محلتين متواليتين في بلدة، وهذا باطلٌ لا أصل له، والوجه في اتصال أبنية القريتين: ما ذكرناه؛ من أنّ مجاوزةَ أبنية القرية التي خرج عنها كافية] اهـ.
كما جعل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي القياس هو المعول عليه في الاستدلال على كفاية مجاوزة المسافر محلته في ظل اتصال أبنيتها بأخرى، حيث قال في "الوسيط" (2/ 244، ط. دار السلام): [وإن اتصلت أبنية قرية بأخرى فالقياس أن يكفيه مجاوزة قريته] اهـ.
هذا، وإن غلب على ظن المسافر فوات الصلاة وعدم أدائها في وقتها؛ كأن يسافر بالمواصلات العامة، والتي من شأنها عدم التوقف أو التمهل لكي يؤدي صلاته في وقتها المحدد لها، أو كان لا يعرف الحدود الفاصلة بين حيِّه السكني وبين الحي المجاور له -كما هي الحال في أحياء المدن القديمة- فحينئذٍ لا مانع شرعًا من تقليد القائلين بجواز القصر للمسافر من بيته بمجرد قصد السفر عليه مع التهيؤ بأسبابه.
ويستأنس لذلك بأن الفقهاء قد أناطوا فعل الرخص حال مقارنة العذر للسبب المُرخِّص واستمراره بقدر وسع المكلف حينئذٍ؛ ومعلومٌ أن المشقة هي الحكمة من تشريع الرخص في السفر، و"العبادات تؤثر فيها الأعذار" كما قرر العلامة المرغيناني في "الهداية" (2/ 279، ط. دار إحياء التراث العربي).
بالإضافة إلى أن هذه المسألة من المسائل التي نُقِل فيها الخلاف؛ والمقرر شرعًا في ذلك: أن للمكلف تقليدَ من أجاز شيئًا وقع فيه خلاف؛ إذا كان العمل بالرأي المانع والمُحَرِّم سيسبب ضيقًا ومشقة عليه، حيث تقول القاعدة الفقهية: "من ابتلي بشيء من ذلك -أي مما وقع فيه الخلاف بين الحل والحرمة- فليقلد من أجاز".
بناءً على ذلك، وفي واقعة السؤال: فيجوز لك الترخُّص في قصر الصلاة الرباعية في سفرك المذكور بمجرد مجاوزتك لبنيان حيِّك الذي تسكن فيه، أو سوره إن كان له سور، مع مراعاة دخول وقت الصلاة بعد مجاوزتك تلك الحدود العمرانية من الجهة التي خرجت منها.
وإن غلب على ظنك أنك لن تتمكن من أداء الصلاة في وقتها بعد الخروج من المنزل أو كنت لا تعرف حدود حيك الذي تسافر منه، فلا مانع شرعًا في هذه الحالة من أن تترخص بقصر الصلاة من بيتك؛ ما دمت قد عزمتَ على السفر وتهيأتَ بأسبابه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.