ما حكم رمل الرجل والاضطباع في الطواف؟ حيث يوجد رجلٌ عزم على الذهاب لأداء العمرة إن شاء الله، ويريد أن يعرف حكم الرَّمَلِ والاضطباع في الطواف، وما هي كيفيتهما؟ وهل عليه شيءٌ إذا ترك الاضطباع أو لم يرمُل في الطواف بسبب الزحام أو وجود نساء معه أو ضَعف البِنية أو غير ذلك من الأعذار؟
الرَّمَل والاضطباع من سُنن الطواف التي يختص بها الرجال؛ وذلك في كلِّ طوافٍ بَعدَه سعيٌ، ويكون الرَّمَل بإسراع المشي مع تقارب الخطى في الأشواط الثلاثة الأولى منه، لا يفصل المُحْرِمُ بينها بوقوف، إلا أن يقف على استلام الركنين، ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية مع بقائه على هيئة الاضطباع؛ بجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، مع كشف كتفه اليمنى في كلِّ الطواف، وكلُّ ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.
فإن ترك المُحرم الرَّمَلَ في الشوط الأول أتى به في الشوطين الثاني والثالث، ولو تركه في الأول والثاني أتى به في الثالث فقط، ولو تركه في الثلاثة أشواط الأولى لم يقضه في الأربعة الباقية، ولا يجب عليه شيءٌ بتركه؛ سواءٌ تَرَكَهُ عمدًا لغير عذر، أو سهوًا، وهذا كله في حال السعة، فإن تركه المُحرِمُ لعذرٍ؛ كعدم التَّمَكُّنِ منه بسبب شدة الزحام، أو وجود نساءٍ معه، أو ضَعف البِنية: فإنه لا يُطلب منه الإتيان به، ويكون مثابًا عليه حينئذ.
وكذلك الاضطباع؛ إن تركه في بعض الأشواط أتى به في باقيها، ولا يجب عليه شيء بتركه، ولا حرج عليه؛ لأنه لم يُسقط شيئًا من نفس العمل، وإنما أسقط هيئة في العمل.
المحتويات
الرَّمَلُ في اللغة: الإسراع في المشي، مع تحريك المنكبين، من غير وَثْبٍ؛ "يُقال: رَمَلَ الرجل، يَرْمُلُ رَمَلَانًا وَرَمَلًا؛ إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه، وهو في ذلك لا ينزو، والطائف بالبيت يرْمُلُ رَمَلَانًا"؛ كما في "لسان العرب" لجمال الدين ابن منظور (11/ 295، ط. دار صادر).
ولا يَبْعُدُ المعنى الاصطلاحي للرَّمَل عند الفقهاء عن المعنى اللغوي؛ إذ هو إسراع المشي، مع تقارب الخُطَى من غير وَثْبٍ؛ كما في "شرح العلامة الزركشي على مختصر الإمام الخرقي" (3/ 192، ط. مكتبة العبيكان)، ويُطلَق عليه أيضًا: "الْخَبَبُ" وهو فوق المشي ودون السعي؛ كما في "الحاوي الكبير" للإمام الماوردي (4/ 141، ط. دار الكتب العلمية).
والِاضْطِباع في اللغة: افتعال من الضَّبْع بإسكان الباء، وهو العَضُد، وقيل: النصف الأعلى من العضد، وقيل: منتصف العضد، وقيل: الإبط، واشتقاقها من ضَبْع اليد، والجمع أضْبَاع، ومما يُشتق من هذا: الِاضْطِبَاعُ بالثوب؛ وهو أن يُدْخِلَ الثوبَ مِن تحت يده اليمنى فَيُلْقِيَه على مَنْكِبِهِ الأيسر؛ كما في "مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (3/ 387، ط. دار الفكر).
وفي اصطلاح الفقهاء: أن يشتمل المُحرِم بردائه على مَنْكِبِهِ الأيسر، ومِن تحت مَنْكِبِهِ الأيمن، حتى يكون مَنْكِبُهُ الأيمنُ بارزًا؛ أي: مكشوفًا، حتى يكمل السبعة أشواط؛ كما في "الأم" للإمام الشافعي (2/ 190، ط. دار المعرفة).
الرَّمَلُ للمُحْرِم في الطواف في الأشواط الثلاثة الأُوَل منه ثابتٌ بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فعن عبد الله بن عمر رضي عنهما قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه"؛ قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "منحة الباري بشرح صحيح البخاري" (4/ 132، ط. مكتبة الرشد): [(خَبَّ ثَلَاثًا)؛ أي: رَمَلَ في الأشواط الثلاثة الأول، (ومَشَى أَرْبَعًا)؛ أي: من غيرِ رمَل] اهـ.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ" أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"؛ قال الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (8/ 175، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه: أن السُّنة أيضًا الرَّمَلُ في الثلاث الْأُوَلِ، وَيَمْشِي على عادته في الأربعِ الأخيرة] اهـ.
وكذلك الاضطباع في الطوفات السبع ثابتٌ أيضًا بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى" أخرجه الإمامان: أبو داود في "سننه" واللفظ له، وأحمد في "مسنده".
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، إلى أن الرَّمَل والاضطباع متلازمان في أصل المشروعية؛ فحيث استُحب الرَّمَل استُحب الاضطباع، وحيث لم يُستحب الرَّمَل لم يُستحب الاضطباع؛ لكونه تبعًا له.
قال علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 147، ط. دار الكتب العلمية): [كلُّ طوافٍ بَعده سعيٌ فمِن سُنَنِهِ الِاضْطِباع والرَّمَل] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 43، ط. دار الفكر): [والاضطباع ملازم للرَّمَل؛ فحيث استحببنا الرَّمَل بلا خلاف فكذا الاضطباع، وحيث لم نستحبه بلا خلاف فكذا الاضطباع، وحيث جرى خلافٌ جرى في الرَّمَل والاضطباع جميعًا، وهذا لا خلاف فيه] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (2/ 423، ط. مكتبة الحرمين): [الاضطباع إنما هو معونة على الرَّمَل، وإنما فُعل تبعًا له، فإذا لم يَرمُل: لم يضطبع] اهـ.
وأما المالكية: فلا يرون أنَّ المحرم بحج أو عمرة يُسّنُّ له الاضطباع، وإنما يسن له الرَّمل فقط من غير حسر الثوب عن منكبيه؛ باعتبار الطواف في نفس مرتبة الصلاة من حيث الستر، فيُكره فيه تعرية المنكبين كما يُكره تعريتهما في الصلاة.
قال الإمام ابن عرفة في "المختصر الفقهي" (2/ 167، ط. مؤسسة خلف أحمد): [الرَّمَل يُطلب في ثلاثة أشواط.. ولا يحسر عن منكبيه ولا يحركهما] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد الجد في "البيان والتحصيل" (3/ 449، ط. دار الغرب الإسلامي): [سئل مالك عن حسر المحرم عن منكبيه إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرَّمَل، قال: لا يفعل] اهـ.
وقال العلامة خليل في "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (2/ 562، ط. مركز نجيبويه): [(وواجباته خمسة: الأول: شروط الصلاة من الحدث والخبث وستر العورة إلا الكلام، فلو طاف غير متطهر أعاد) أي: وواجبات الطواف، ولأجل أن الطواف كالصلاة في الستر كَرِهَ مالكٌ للطائف أن يعري عن منكبيه] اهـ.
ومع كون الرَّمَل وَالاضْطِباع متلازمين -كما هو مذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والشافعية، والحنابلة-، إلا أنهما يفترقان في أمر واحد؛ وهو أَنَّ الاضطباع مسنونٌ في جميع الطوفات السبع، وأما الرَّمَل فإنما يُسن في الثلاث الأُوَل منها، ويمشي المُحرِم في الأربع الأواخر؛ كما في "البحر الرائق" لزين الدين ابن نجيم الحنفي (2/ 352، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المجموع" للإمام النووي الشافعي (8/ 20)، و"شرح العمدة" للشيخ ابن تيمية الحنبلي (2/ 422).
شُرِعَ الرَّمَلُ والاضطباع في مبتدأ الأمر إظهارًا لقوة المسلمين وجَلَدِهِم وصلابتهم؛ فعندما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله المشركون في عام الحديبية مِن أنَّ أهل المدينة من الصحابة قد أوهنهم الوباء الذي كان يُعرف بـ"حمَّى يثرب"، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابَه قد خارت قُواهم ونال منهم التعبُ والإجهادُ حتى إنهم لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت مِن شدة العيِّ والهُزال؛ أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه رضوان الله عليهم أن يَرْمُلوا في طوافهم حول البيت ثلاث طوفات، ويمشوا في الأربعة الباقية من الأشواط؛ حتى يُظهروا قوَّتَهم ونشاطَهم وهمَّتَهم وتحمُّلَهم وشدةَ بأسهم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الـْحُمَّى وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؛ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ! هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا"، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: "وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ" أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
والرَّمَل في الطواف -وما يتبعه من اضطباع كما هو مذهب الجمهور- وإن كان سببه ما ذكر ابنُ عباس رضي الله عنهما، ولكنه صار سُنةً بذلك السبب؛ فَيَبْقى بعد زواله؛ كرمي الجمار؛ سببه: رمي الخليل صلوات الله عليه الشيطانَ، ثم بقي بعد زوال ذلك السبب؛ كما قال شمس الأئمة السرخسي في "المبسوط" (4/ 10، ط. دار المعرفة).
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (2/ 194، ط. المطبعة العلمية) شارحًا: [النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يَسُنُّ الشيء لمعنًى، فيزول ذلك المعنى وتبقى السُّنة على حالها] اهـ.
وقد بَوَّبَ الإمام ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 211، ط. المكتب الإسلامي) على هذا المعنى فقال: [باب ذكر الدليل على أن السُّنة قد كان يَسُنُّها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلةٍ حادثةٍ، فتزول العلة وتبقى السُّنة قائمة إلى الأبد؛ إذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما رَمَلَ في الابتداء واضطبع لِيُرِيَ المشركين قُوَّتَهُ وَقُوَّةَ أصحابه، فبقي الاضطباع والرَّمَل سُنَّتَيْنِ إلى آخِر الأبد] اهـ.
الرَّمَل والاضطباع -عند الجمهور-، من سُنن الطواف التي يختص بها الرجال؛ وذلك في كلِّ طوافٍ بَعدَه سعيٌ، ويكون الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى منه، لا يفصل المُحْرِمُ بينها بوقوف، إلا أن يقف على استلام الركنين، ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية مع بقائه على هيئة الاضطباع في كلِّ الطواف، وكلُّ ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، كذلك فَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضوان الله عليهم؛ ليرى المشركون جَلَدَهُمْ ابتداءً، لكنه صار سنة بهذا السبب، وبقي على سُنِّيَّته بعد زواله؛ فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "فِيمَ الرَّمَلَانُ الْيَوْمَ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ، وَقَدْ أَطَّأَ اللهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟ مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ" أخرجه الإمام أبو داود في "سننه".
ومعنى "أَطَّأَ اللهُ الْإسْلَامَ": "أي ثَبَّتَهُ وَأَرْسَاهُ، والواو قد تُبدل همزًا"؛ كما قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (2/ 194).
ومعنى كون ذلك في طوافٍ بَعده سعيٌ: "أي حال كون الطوفات الثلاث كائنة من طواف يعقبه سعي، أي مطلوبٌ في حج أو عمرة وإن كان مكيًّا، فإن رَمَلَ في طواف القدوم، وسعى بعده سعي الحج: لا يَرْمُل في طواف الركن؛ لأن السعي بعده حينئذٍ غير مطلوب، ولا رمل في طواف الوداع لذلك"؛ كما قال الشيخ البكري الدمياطي في "إعانة الطالبين" (2/ 339، ط. دار الفكر).
سار الصحابة رضوان الله عليهم على سُنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأُوَل في الطواف بالبيت الحرام؛ فَرَمَلَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه عام حَجِّهِ؛ إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عمر وعثمان والخلفاء رضي الله عنهم؛ فروى ابن جريج، عن عطاء: "أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ خَبًّا، لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مَشْيٌ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ رَمَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْخُلَفَاءُ جَرًّا" أخرجه الإمام الشافعي في "مسنده"، ومن طريقه الإمام البيهقي في "معرفة السنن والآثار"، والإمامان: المروزي في "السنة" واللفظ له، وأبو داود في "مراسيله" وقال: "وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا يَصِحُّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ".
وعلى سُنِّية الرَّمَل نص فقهاء المذاهب المتبوعة؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، من غير خلاف بينهم.
قال شمس الأئمة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (4/ 10): [كل طواف بعده سعيٌ فالرمل في الثلاثة الأُوَل منها سُنَّة] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 326، ط. دار الفكر): [مَن أحرم مِن الرجال مِن الميقات بحج أو عمرة يُسَنُّ في حقه الرَّمَل في الأشواط الثلاثة] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (4/ 141): [فإذا أراد الطواف؛ فمِن السُّنة أن يَرْمُل في ثلاثة أطوافٍ لا يفصل بينها بوقوف، إلا أن يقف على استلام الركنين، ويمشي في أربعة أطواف] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 340، ط. مكتبة القاهرة): [(ورَمَلَ ثلاثة أشواط، ومَشَى أربعة؛ كل ذلك مِن الحجر الأسود إلى الحجر الأسود).. وهو سُنَّة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافًا] اهـ.
إذا تَرَكَ المُحرمُ الرَّمَلَ في الشوط الأول أتى به في الشوطين الثاني والثالث، وإذا تركه في الأول والثاني أتى به في الثالث فقط، وإذا تركه في الثلاثة أشواط الأولى لم يقضه في الأربعة الباقية؛ لأنها هيئةٌ فات موضعها فتسقط؛ كما لو ترك رفع اليدين في الركوع لا يقضه في السجود، ولأنَّ المشي سُنةٌ في الأربعة كما أن الرَّمَل سُنةٌ في الثلاثة، فإذا رَمَلَ في الأربعة الأخيرة كان تاركًا للسُّنَّتَين في جميع طوافه؛ كتارك الجهر في الركعتين الأُوليَين من العشاء؛ إذا جهر في الأخيرتَين لا يُعدُّ هذا قضاءً للجهر.
وفي كل الأحوال لا يجب عليه شيء بترك الرَّمَل في الطواف؛ سواءٌ تَرَكَهُ عمدًا أو سهوًا؛ لأنه لم يُسْقِط شيئًا من نفس العمل وإنما أسقط هيئة العمل، والهيئات لا تُجْبَر، لكن يكون مسيئًا بتركه عامدًا من غير عذر، فإن كان له عذر في تركه؛ كعدم التمكن منه لضعف البنية، أو الزحام الذي لا يتمكن معه من الرمل، أو وجود نساءٍ معه: فلا يطلب منه ابتداءً؛ لأنه غير مستطيع، والاستطاعة من جهة الصحة والوُسع والتمكن وسلامة الآلات تكون قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]؛ كما في "متن الطحاوية" للإمام أبي جعفر الطحاوي [ت: 321هـ] (ص: 74، ط. المكتب الإسلامي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان.
قال الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (25/ 32، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: «فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»؛ أي: افعلوا قدر استطاعتكم] اهـ.
وهذا الحديث من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أُعطيها صلى الله عليه وآله وسلم، ويدخل فيها ما لا يحصى من الأحكام؛ كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك؛ كما قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (9/ 102).
وعلى هذا المعنى يدخل الرَّمَل في تلك الأحكام، ويُقاس فيه حال المكلف على جميع ما سبق، فإن لم يستطع الرَّمَل لشدة الزحام الذي يؤدي إلى عدم استطاعته سقط عنه ما لا يقدر عليه ولا يكون مطالبًا به، ويفعل الممكن ويمشي، وكذلك إذا كان ضعيف البنية لا يقوى على جهد الرَّمل، أو كان معه نساء ليس لهن القدرة على تدبير أمورهن وحدهن وهو المسؤول عنهن؛ فلا يكون مطالبًا بالرَّمَل؛ لكونه فاقدًا للاستطاعة في كل هذه الحالات، وكل ذلك يندرج تحت الأصل الوارد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق، وهو الموافق لقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، بل إذا ترتب على الإتيان به حصول التدافع وما قد يترتب عليه من هلاك الأنفس فإنه يكون منهيًّا عنه؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص المناسك: «أيُّهَا النَّاسُ، عَلَيكُمُ السَّكِينَةَ وَالوَقَارَ، وَلَا يَقتُلْ بَعضُكُم بَعضًا» أخرجه الأئمة: أبو يعلى -واللفظ له- والحميدي في "مسنديهما"، والفاكهي في "أخبار مكة"، وابن عبد البر في "الاستذكار".
والاضطباع -على القول باستحبابه كما هو مذهب الجمهور عدا المالكية- مثل الرَّمَلِ لا يجب بتركه شيء، وإن تركه في بعض الأشواط أتى به في الباقي، ويستحب لمَن لم يتمكن من الرمل لسببٍ من الأسباب ألَّا يترك الاضطباع.
قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "حاشيته على درر الحكام" (1/ 223، ط. دار إحياء الكتب العربية): [ولو تركَ الاضْطِبَاعَ وَالرَّمَلَ لا شيء عليه بالإجماع] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 498، ط. دار الفكر): [لو مشى شوطًا ثم تَذَكَّر: لا يَرْمُل إلا في شوطين، وإن لم يذكر في الثلاثة: لا يَرْمُلُ بعد ذلك اهـ. أي: لأنَّ ترك الرَّمَل في الأربعة سنة، فلو رَمَلَ فيها كان تاركًا للسُّنَّتين، وتَرْك إحداهما أسهل] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 366، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [لو نسي أن يَرْمُل بالثلاثة الأطواف: لم يَرْمُل في شيءٍ من الأربعة؛ لأنَّها مواضعُ مشيٍ لا رمَل فيها، ولو تعمد ترك الرَّمَل ومشى في أشواطه كلها: لم يكن عليه شيء؛ لأنه لم يُسقط شيئًا من نفس العمل، وإنما أسقط هيئة عمل] اهـ.
وجاء في "الأم" للإمام الشافعي (2/ 230): [فإن ترك الرَّمَل في طوافٍ رَمَلَ في اثنين، وإن تركه في اثنين رَمَلَ في واحد، وإن تركه في الثلاثة لم يقض؛ إذا ذهب موضعه لم يقضه فيما بقي، ولا فدية عليه ولا إعادة، وسواء تركه ناسيًا أو عامدًا، إلا أنه مسيءٌ في تركه عامدًا، وهكذا الاضطباع] اهـ.
وجاء فيه أيضًا (2/ 190): [فإذا طاف الرجل ماشيًا لا علة به تمنعه الرَّمَل، لم أُحب أن يَدَع الاضطباع.. فإن ترك الاضطباع في بعض السبع اضطبع فيما بقي منه، وإن لم يضطبع بحالٍ كرهته له، كما أكره له ترك الرَّمَل في الأطواف الثلاثة، ولا فدية عليه ولا إعادة] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (4/ 142): [قد ذكرنا أن الرَّمَل مسنونٌ في ثلاثة أطواف الأولى، والمشي مسنون في الأربعة الباقية، فإن ترك الرَّمَل في الطوفة الأولى أتى به في الثانية والثالثة، وإن تركه في الأولى والثانية أتى به في الثالثة، وإن تركه في الثالثة كلها لم يقضه في الأربع؛ لأمرين: أحدهما: أنَّ الرَّمَلَ هيئةٌ، والهيئاتُ لا تُقْضَى في غير محلها، كما لو تَرَكَ رَفْعَ اليدين في الركوع لم يقضه في السجود. والثاني: أنَّ الرَّمَلَ وإن كان مسنونًا في الثلاث، فالمشي مسنونٌ في الأربع، فإذا قضاه في الأربع ترك المشي المسنون فيها بِرَمَلٍ مسنونٍ في غيرها، فيكون تاركًا للسُّنَّتَيْن معًا. قال الشافعي: ولو ترك الرَّمَل والاضطباع والاستلام؛ فقد أساء، ولا شيء عليه؛ لأنَّ كلَّ هذه هيئات، والهيئات لا تُجْبَرُ] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 511، ط. دار الكتب العلمية): [ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف لم يقضه فيما بعده؛ كمن فاته الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالرَّمَل والاضطباع من سُنن الطواف التي يختص بها الرجال؛ وذلك في كلِّ طوافٍ بَعدَه سعيٌ، ويكون الرَّمَل بإسراع المشي مع تقارب الخطى في الأشواط الثلاثة الأولى منه، لا يفصل المُحْرِمُ بينها بوقوف، إلا أن يقف على استلام الركنين، ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية مع بقائه على هيئة الاضطباع؛ بجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، مع كشف كتفه اليمنى في كلِّ الطواف، وكلُّ ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.
فإن ترك المُحرم الرَّمَلَ في الشوط الأول أتى به في الشوطين الثاني والثالث، ولو تركه في الأول والثاني أتى به في الثالث فقط، ولو تركه في الثلاثة أشواط الأولى لم يقضه في الأربعة الباقية، ولا يجب عليه شيءٌ بتركه؛ سواءٌ تَرَكَهُ عمدًا لغير عذر، أو سهوًا، وهذا كله في حال السعة، فإن تركه المُحرِمُ لعذرٍ؛ كعدم التَّمَكُّنِ منه بسبب شدة الزحام، أو وجود نساءٍ معه، أو ضَعف البِنية: فإنه لا يُطلب منه الإتيان به، ويكون مثابًا عليه حينئذ.
وكذلك الاضطباع؛ إن تركه في بعض الأشواط أتى به في باقيها، ولا يجب عليه شيء بتركه، ولا حرج عليه؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.