ما حكم اشتراط النية في صيام التطوع؟ وما هو وقتها؟ فقد كان لدي عمل مهم، وانتهيت منه بعد آذان العصر، ولانشغالي في هذا العمل لم أتناول شيئًا، فأردت أن أصوم هذا اليوم تطوعًا؛ فهل تشترط النية لذلك؟ وهل تصح إذا نويت الصيام بعد العصر؟
لا يصح صيام يوم فرضًا كان أو نفلًا من غير نية؛ لأن النية مطلوبة في كل أنواع الصيام؛ إذ الصيام عبادة محضة تفتقر إلى النية، ويصح أن تكون النية في صيام النفل بعد العصر وقبل الغروب؛ إذ النهار كله محلٌّ للنية في صوم التطوع، فمتى وجدت في أي جزء منه صَحَّت؛ تقليدًا لمن أجاز من الفقهاء، وهذا كله ما لم يأت مريد الصوم بشيء يتنافى مع الصيام، مثل: الأكل والشرب أو غيرهما.
المحتويات
اتفق الفقهاء على أن النية مطلوبة في كل أنواع الصيام، فرضًا كان أو نفلًا، إما على سبيل الشرط أو الركن، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك؛ لأن الصوم عبادة محضة، والعبادات تفتقر إلى النية.
فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» أخرجه البخاري في "الصحيح".
قال الإمام كمال الدين ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/ 302، ط. دار الفكر): [ولا بد من النية في الكل، والكلام في وقتها الذي يعتبر فيه؛ فقلنا في رمضان والمنذور المعين والنفل: تجزيه النية من بعد الغروب إلى ما قبل نصف النهار في صوم ذلك النهار، وفيما سوى ذلك من القضاء والكفارات والمنذور المطلق؛ كنذر صوم يوم من غير تعيين: لا بد من وجودها في الليل] اهـ.
وقال الإمام الحطاب الرُّعيني المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 427، ط. دار الفكر): [وقال الجزولي: مفسدات الصوم عشرون، عشرة متفق عليها، وعشرة مختلف فيها؛ فالمتفق عليها: تعري الصوم من النية] اهـ.
وقال الإمام محيي الدين النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 300، ط. دار الفكر): [مذهبنا: أنه لا يصح صوم إلا بنية، سواء الصوم الواجب من رمضان وغيره والتطوع] اهـ.
وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [(فصل: ولا يصح صوم) إلا بنية؛ ذكره الشارح إجماعًا] اهـ.
وقال موفق الدين بن قدامة في "المغني" (3/ 109، ط. مكتبة القاهرة): [وجملته: أنه لا يصح صوم إلا بنية إجماعًا، فرضًا كان أو تطوعًا؛ لأنه عبادة محضة، فافتقر إلى النية، كالصلاة] اهـ.
وعليه: فلا يصح صيام يوم فرضًا كان أو نفلًا من غير نية.
بخصوص وقت النية في صوم التطوع؛ فإنه لا يجب تبييت النية له على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وهو المختار للفتوى وعليه العمل؛ لما ثبت أنَّ أمَّ المؤمنينَ عائشةَ رَضِى الله عنها، قالت: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فقال: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فقلنا: "لا"، قال: «فإنِّي إذًا صائِمٌ»" أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".
وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَت: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: "عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟" فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: "فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا" وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رواه البخاري معلقًّا، ووصله البيهقي، كما ذكره ابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 144-145، ط. المكتب الإسلامي).
أما عن صحة نية صوم التطوع قبل الزوال أو بعده، فقد ذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية (اختارها الشيخ ابن تيمية) إلى صحة نية التطوع بعد الزوال ولو نواها آخر النهار، وهو قول جماعة من السلف؛ كالثوري، وإبراهيم النخعي، والحسن ابن حي، وهو المختار للفتوى؛ لأنه لما كان الليل محلًّا للنية في صوم الفريضة، واستوى الإتيان بالنية في أي وقت منه، ثم كان النهار محلًّا للنية في صوم التطوع، وجب أن يستوي الإتيان بالنية في أي وقت منه.
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي" (3/ 406، ط. دار الكتب العلمية): [فإذا تقرر جواز النية في صوم التطوع نهارًا قبل الزوال، فهل يجوز أن ينوي فيه بعد الزوال أو لا؟ على قولين:.. والقول الثاني: وهو ظاهر ما نقله حرملة جوازه، لأنه لما كان الليل محلًّا للنية في صوم الفريضة، واستوى حكم جميعه، ثم كان النهار محلًّا للنية في صوم التطوع، وجب أن يستوي حكم جميعه] اهـ.
وقال محيي الدين النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 292، ط. دار الفكر): [قال المصنف رحمه الله: وأما صوم التطوع فانه يجوز بنية قبل الزوال.. وهل يجوز بنية بعد الزوال؟ فيه قولان: (روى) حرملة أنه يجوز؛ لأنه جزء من النهار، فجازت نية النفل فيه كالنصف الأول] اهـ.
وقال العلَّامة البكري الدمياطي الشافعي في "إعانة الطالبين" (2/ 252، ط. دار الفكر): [وفي الإيعاب: للشافعي قول جديد؛ أنه تصح نية النفل قبل الغروب.
قال: فمَن تركها قبل الزوال ينبغي له بالشرط الذي ذكرناه -وهو تقليد في ذلك- أن ينويها بعده، ليحوز ثوابه على هذا القول، بناء على جواز تقليده. اهـ كردي] اهـ.
وقال العلامة ابن عبد البر في "الاستذكار" (3/ 285، ط. دار الكتب العلمية): [وقال الثوري في صوم التطوع: إذا نواه في آخر النهار أجزأه. قال: وقال إبراهيم له أجر ما استقبل، وهو قول الحسن ابن حي] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 397-398، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: (ويصح صوم النفل بنية من النهار، قبل الزوال وبعده) هذا المذهب، نص عليه. قال في "الفروع": وعليه أكثر الأصحاب، منهم القاضي في أكثر كتبه، وهو من المفردات، ومنهم ابن أبي موسى، والمصنف، وصححه في "الخلاصة"، و"تصحيح المحرر"] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (25/ 120، ط. مجمع الملك فهد): [وأما النفل: فيجزئ بنية من النهار؛ كما دل عليه قوله: «إِنِّي إِذًا صَائِمٌ».. واختلف قولهما: هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال؟ والأظهر: صحته كما نقل عن الصحابة] اهـ.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه تلزم النية لصيام النفل كالفرض تمامًا؛ لأن النية مطلوبة في كل أنواع الصيام؛ إذ الصيام عبادة محضة تفتقر إلى النية، ويصح أن تكون النية في صيام النفل بعد العصر وقبل الغروب؛ إذ النهار كله محلٌّ للنية في صوم التطوع، فمتى وجدت في أي جزء منه صَحَّت؛ تقليدًا لمَن أجاز من الفقهاء، وهذا كله ما لم يأت مريد الصوم بشيء يتنافى مع الصيام، مثل: الأكل والشرب أو غيرهما.
والله سبحانه وتعالى أعلم.