ما حكم أكل النعام؟ حيث يتجه بعض الناس إلى أكل لحم النعام في هذه الأيام، فما حكم ذلك شرعًا؟
يجوز أكل لحم النَّعَامِ، ولا حرج شرعًا في حلِّ تناوله؛ وذلك لأن النَّعام من الأشياء التي لم ينص الشرع الشريف على تحريمها، فتبقى على الأصل؛ وهو الإباحة.
المحتويات
من المقرر شرعًا أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [لقمان: 20]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].
ومن يُسر الشريعة الإسلامية وسَعتها: رفع الحرج عن المكلفين، ولأجل ذلك نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الصحابةَ أن يسألوا عما سكت عنه من أحكام؛ حتى لا يكون سؤالهم مدعاةً للتحريم والتضييق عليهم وعلى غيرهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
وتحقيقًا لهذا الأصل النبوي الشريف؛ فقد فَهِم الصحابةُ رضوان الله عليهم أنَّ المسكوت عنه بعد ورود النَصِّ المحرِّم؛ داخلٌ في دائرة الحِلِّ؛ ودليل ذلك: أن ابن عباسٍ رضي الله عنهما تَلَا قول الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ الآية [الأنعام: 145]، ثم قال: "ما خلا هذا فهو حلالٌ" أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره".
وتأسيسًا على هذا الإرشاد النبوي الشريف، والمنهج الشرعي الحنيف: استنبط الفقهاءُ القاعدةَ الكليةَ أنَّ "الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية).
قال الإمام أبو بكرٍ الجصَّاص في "الفصول في الأصول" (3/ 249، ط. أوقاف الكويت): [ما كان على الإنسان مِن فعله تَبِعَة: فغير جائزٍ أن يُخَلِّيهُ الله تعالى مِن إقامة الدليل على أنَّ عليه فيه تَبِعَةً؛ لينتهي عنه، هذا حكم العقل، و(قد) أَكَّدَ السمعُ هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ الآية [التوبة: 115]؛ فأخبر أنَّ ما لم يَدُلَّ على تحريمه: فلا تَبِعَةَ على فاعله] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "الفروق" (2/ 19، ط. عالم الكتب): [ما لم يَدُلَّ فيه دليلٌ على تحريمه؛ قُلنا: هو مباح؛ عملًا بالبراءة] اهـ.
وقال العلامة الزركشي في "المنثور في القواعد الفقهية" (2/ 70-71، ط. أوقاف الكويت): [الحلال عند الإمام الشافعي: ما لم يَدُلَّ دليلٌ على تحريمه.. ويعضد قولَ الشافعي رضي الله عنه: قولُه تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ الآية، وقولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ؛ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»، وعلى هذه القاعدة يتخرجُ كثيرٌ من المسائل المُشْكِلِ حالُها] اهـ.
النَّعام من الأشياء التي لم ينص الشرع الشريف على تحريمها، فتبقى على الأصل؛ وهو الإباحة، بل إنه قد نص جمهور الفقهاء على مشروعية أكلها.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (11/ 222، ط. دار المعرفة): [وذكر عن رجل قال: كانت لبعض أهل الحي نعامة فضربها إنسان فوقذها فألقاها على كناسة وهي حية فسألنا سعيد بن جبير فقال: ذكوها وكلوها، وبه نقول، فإن الموقوذة إذا أدرك ذكاتها جاز تناولها لقوله تعالى: ﴿إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: 3] ولحصول ما هو المقصود، وهو تسييل الدم النجس، ومنه دليل إباحة تناول النعامة] اهـ.
وقال الإمام العمراني في "البيان" (4/ 505، ط. دار المنهاج): [مسألة: (جواز أكل النعامة وغيرها من الطيور وحرمة ما له مخلب): ويحل أكل النعامة؛ لأن الصحابة رضي اللَّه عنهم قضوا فيها ببدنةٍ إذا قتلها المحرم، فدل على أنها صيد] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 557، ط. دار الكتب العلمية): [ويباح البقر والظباء والنعام..؛ لأنها مستطابة، قضت الصحابة فيها بالجزاء على الـمُحْرِم] اهـ.
مما يدل على مشروعية أكلها أنَّه قد نص العلماء على أن النعام من صيد الحرم، الذي وضع الشرع الشريف له جزاءً عند التعدي عليه.
قال برهان الدين ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 440، ط. دار الكتب العلمية): [وأما ما يؤكل من صيود البر يجب في جزائه قيمتها بالغة ما بلغت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويستوي أن يكون المقتول صيدًا له مثل من النعم خلقة أو لا مثل له من النعم خلقة.
وقال محمد والشافعي: ما له مثل من النعم خلقة وصورة يجب في جزائه المثل خلقة، فيجب في النعامة بدنة] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (1/ 393، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ما قتل المحرم من الصيد فعليه جزاؤه، وما يجزي من الصيد شيئان: دواب وطير؛ فيجزي ما كان من الدواب بنظيره من الغنم، ففي النعامة بدنة] اهـ.
وقال الإمام الشافعي في "الأم" (2/ 209، ط. دار المعرفة): [فإذا أصاب المُحرمُ نعامةً ففيها بدنةٌ] اهـ.
نقل الإجماع على حل أكلها غير واحد من العلماء:
قال الإمام الدميري الشافعي في "النجم الوهاج" (9/ 554، ط. دار المنهاج) في كتاب الأطعمة: [(وتحل نعامة) بالإجماع؛ ولأن الصحابة قضوا فيها إذا قتلها المحرم ببدنة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (9/ 411، ط. مكتبة القاهرة): [ويباح النعام، وقد قضى الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنة. وهذا كله مجمع عليه، لا نعلم فيه خلافًا] اهـ.
لا يؤثر في الحكم بإباحة أكل النَّعَام أنَّه قد يأكل روثه بعد جفافه؛ فإن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية في وجه والحنابلة على طهارة روث ما يؤكل لحمه، ووافقهم الإمام زفر من الحنفية.
قال الإمام الموصلي الحنفي في "الاختيار" (1/ 32، ط. الحلبي): [وعند زفر: روث ما يؤكل لحمه طاهر] اهـ.
وقال الإمام أبو البركات الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 51، ط. دار الفكر): [(و) الطَّاهِرُ (بولٌ وعَذِرَةٌ) يعني رَوثًا (من مباح) أكله (إلا الـمُتَغَذِّي) منه (بنجسٍ) أكلًا أو شربًا تحقيقًا أو ظنًّا كشكٍّ، وكان شأنه ذلك؛ كدجاجٍ وفارٍ لا إن لم يكن شأنه ذلك كحمامٍ، وخرج بالمباح الـمُحَرَّمُ والمكروه، وفضلتهما نجسةٌ] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (1/ 16، ط. المكتب الإسلامي): [لنا وجهٌ: أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران. وهو أحدُ قَوْلَيْ أبي سعيد الإصطخري من أصحابنا، واختاره الروياني وهو مذهب مالكٍ وأحمد] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 65): [ وبول ما يؤكل لحمه وروثه طاهرٌ. وهذا مفهوم كلام الخرقي، وهو قول عطاءٍ والنخعي والثوري ومالك] اهـ.
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنَّه يجوز أكل لحم النَّعَامِ، ولا حرج شرعًا في حلِّ تناوله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.