حكم التعامل بخطاب الضمان البنكي

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 08 فبراير 2023
  • رقم الفتوى: 7463

السؤال

ما حكم التعامل بخطاب الضمان البنكي بنوعيه: المغطى، والمكشوف؟ فأنا شخص أعمل في مجال المقاولات وبعض الأعمال التجارية، ويُطلب مني في بعض المعاملات إحضار خطاب ضمان من أحد البنوك كشرط لإتمام هذه المعاملات.

لا مانع شرعًا مِن التعامل بخطاب الضمان البنكي بنوعيه: المغطى، والمكشوف، ولا حرج في ذلك؛ فإن خطاب الضمان هو أحد العقود المستحدثة التي لا تخرج في مضمونها عن قواعد الشرع الشريف ولا تنافي مقاصده، بل هي تطبيقٌ لما جاء به وفق مستجدات العصر بما يلائم تطور العقود والمعاملات، ويُحقق مصلحة أطرافها، ويعمل على تسهيل حركة التجارة وتنمية عجلة الاستثمار والإنتاج، ولا علاقة له بالربا؛ لأنه من قبيل عقود المعاوضات؛ حيث يُصدِره البنكُ كخدمة تمويلية يقدمها لعملائه يستحق في مقابلها الأجر، لا كعقد تبرع وإرفاق بغير مقابل.

المحتويات

مفهوم خطاب الضمان في قانون التجارة المصري

خطاب الضمان (Letter of Guarantee) -كما عرفته المادة (355) من قانون التجارة المصري رقم (17) لعام (1999م)- هو عبارة عن: [تعهد مكتوب يُصدَر من البنك بناءً على طلب شخص (يسمى الآمر) بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين لشخص آخر (يسمى المستفيد) إذا طلب منه ذلك خلال المدة المعينة في الخطاب ودون اعتداد بأيَّة معارضة] اهـ.

ونصَّت المادة (358) من القانون المذكور على أنه: [لا يجوز للبنك أن يمتنع عن الوفاء للمستفيد لسبب يرجع إلى علاقة البنك بالآمر أو إلى علاقة الآمر بالمستفيد] اهـ.

كما نصَّت المادة (360) من ذات القانون على أنه: [إذا دفع البنك للمستفيد المبلغ المتفق عليه في خطاب الضمان جاز له الرجوع على الآمر بمقدار المبلغ المدفوع وعائده، من تاريخ دفعه] اهـ.

أطراف عقد خطاب الضمان والعلاقة بينهما

من خلال ما سبق يتبيَّن أنَّ أطراف عقد خطاب الضمان ثلاثة:

الطرف الأول: (العميل) وهو الذي يُصدر البنكُ لحسابه خطابَ الضمان، ويكون خطاب الضمان بناءً على طلبه.

والطرف الثاني: (البنك) وهو الذي يقوم بإصدار خطاب الضمان بناءً على طلب العميل.

والطرف الثالث: (المستفيد) وهو الذي يُصدَر لصالحه خطاب الضمان.

والعلاقة بين هؤلاء الأطراف الثلاثة هي على النحو الآتي:

العلاقة الأولى: بين (البنك) و(الآمر)، وهي علاقة ضمانٍ مستقلة؛ حيث يتعهد فيها البنك بموجب الخطاب بدفع المبلغ المبيَّن فيه عند أول طلب للمستفيد، بشرط أن يُقَدِّم المستفيدُ الطلبَ خلال المدة المبيَّنة في خطاب الضمان، ما لم يكن الخطاب مفتوح المدة، أو أن تكون المدة قابلة للتجديد سواء تلقائيًّا أو بناءً على طلب المستفيد.

والعلاقة الثانية: بين (الآمر) و(المستفيد)، وهي علاقة مستقلة أيضًا، يحكمها عقد الأساس المبرم بينهما، سواءٌ كان عقد مقاولة، أو عقد توريد، أو عقد بيع، أو أيَّ عقد آخر، ولا علاقة للبنك بأيِّ نزاع قد يثار بينهما؛ فالبنك ليس طرفًا في تلك العلاقة.

والعلاقة الثالثة: بين (البنك) و(المستفيد)، وهي الالتزام الناشئ عن خطاب الضمان؛ حيث يلتزم البنك بإرادته المنفردة بالدفع للمستفيد عند طلبه منه، وينشأ هذا الالتزام بمجرد وصول الخطاب موقعًا عليه إلى علم المستفيد منه.

وعلى ذلك: فإن محل الالتزام في خطاب الضمان منحصر في تعهد البنك بإرادته المنفردة بناءً على طلب العميل بالسداد للمستفيد عند الطلب، وذلك بمجرد إصدار البنك الخطاب موقعًا عليه ووصوله إلى علم المستفيد منه كما سبق بيانه، بغض النظر عن العلاقة التي بين (البنك والآمر) أو بين (الآمر والمستفيد)، ويترتب على ذلك: أن (الآمر) لا يستطيع أن يوقف البنك الضامن عن السداد (للمستفيد) بسبب أيِّ خلافٍ ينشأ بينهما، وإنما يكون من حقِّ (الآمر) مقاضاة (المستفيد) لاستعادة المبلغ المدفوع له من طرف البنك إذا كان (المستفيد) غير مستحقٍّ لذلك المبلغ الذي دفعه البنك بموجب الالتزام الناشئ عن خطاب الضمان تنفيذًا لتعهده بالسداد عند الطلب، بالإضافة إلى أنه لا يُعتبر ورقة تجارية؛ ولذا لا يجوز تداوله أو تظهيره للغير. ينظر: "البنوك وأهمية خطاب الضمان" للدكتور عبد القادر غالب، بحث منشور في "مجلة اتحاد المصارف العربية" (العدد: 438، بتاريخ: مايو 2017م)، و"ضمانات الائتمان المصرفي" للدكتور تامر ريمون فهيم (ص: 293، ط. دار النهضة العربية).

أنواع خطاب الضمان من حيث الغطاء المالي

خطاب الضمان من حيث الغطاء المالي نوعان:

الأول: خطاب الضمان المغطى: وهو ما يكون لعميلِ البنكِ المتقدمِ بطلبه رصيدٌ في البنك يغطي ما يتعهد البنك بسداده للمستفيد عند الطلب.

والثاني: خطاب الضمان المكشوف: وهو ما لا يكون لعميلِ البنكِ المتقدمِ بطلبه رصيدٌ في البنك يكفي لسداد ما يتعهد البنك بسداده للمستفيد عند الطلب؛ كما أفادته "موسوعة أعمال البنوك" للدكتور محيي الدين إسماعيل علم الدين (1/ 583-587، ط. الطنطاني).

التكييف الفقهي لخطاب الضمان

خطاب الضمان بنوعيه: المغطى، والمكشوف، ومن خلال خصائصه وواقعه المستمد من العرف المصرفي والقانوني: ما هو إلا وسيلةُ تأمينٍ للمستفيد مِن مخاطر تنفيذ عقد الأساس؛ بأن يلتزم البنك بدفع قيمة الخطاب عند أول مطالبةٍ بموجب تعهده الوارد فيه، ومن ثَمَّ فدور البنك في خطاب الضمان مستقلٌّ عن عقد الأساس.

وبذلك يكيَّف خطاب الضمان على أنه من العقود المستحدثة في الفقه الإسلامي.

حكم استحداث عقود جديدة غير المُسمَّاة في الفقه الموروث

الذي عليه التحقيق والعمل: جواز استحداث عقودٍ جديدةٍ غير المُسمَّاة في الفقه الموروث، ما دامت خالية من الغرر والضرر، ومحققة لمصالح أطرافها، خصوصًا إذا كانت تهدف إلى الحدِّ مِن المخاطر المالية المحتملة التي قد تنشأ عن المعاملات التجارية، مع تحقيق أكبر فائدة لأطرافها حسب احتياجاتهم.

والأصل في العقود الصحة، وهذا هو الملائم للشريعة الإسلامية التي امتازت بصلاحيَّتها لكل زمانٍ ومكانٍ، وشموليتها لكل أحوال الإنسان؛ عبادةً ومعاملةً وتزكيةً.

الدليل من القرآن والسنة والعرف على جواز استحداث عقود جديدة في الفقه الإسلامي

 يَدُلُّ على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، ووجه الدلالة: أن الألف واللام في قوله: ﴿الْبَيْعَ﴾ للجنس، وهي من صيغ العموم، فلا يخصَّص منه إلا ما استثناه الشرع الشريف بالنهي عنه أو ما في معناه بنصٍّ ثابتٍ أو إجماع.

قال القاضي أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 321، ط. دار الكتب العلمية): [تبيَّن أنَّ معنى الآية ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾: المطلق الذي يقع فيه العوض على صحة القصد والعمل، وحرُم منه ما وقع على وجه الباطل] اهـ.

وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 356، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد؛ إذ لم يتقدم بيعٌ مذكورٌ يُرجع إليه.. وإذا ثبت أن البيعَ عامٌّ فهو مخصَّصٌ بما ذكرناه من الرِّبا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه؛ كالخمر، والميتة، وحبل الحبلة، وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه. ونظيره.. سائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص، وهذا مذهب أكثر الفقهاء] اهـ.

وقال شمس الأئمة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (23/ 92، ط. دار المعرفة): [الأصل في العقود: الصحة] اهـ.

وقال العلَّامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (2/ 217، ط. دار الفكر): [والأصل في العقود: الصحة] اهـ.

وقال الإمام ابن الرفعة الشافعي في "كفاية النبيه" (9/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في العقود والظاهر من حالها: الصحة] اهـ.

وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (4/ 79، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمِه وإبطالِه نصٌّ أو قياسٌ عند من يقول به، وأصولُ أحمدَ المنصوصُ عنه: أكثرُها تجري على هذا القول، ومالكٌ قريب منه، لكنَّ أحمدَ أكثرُ تصحيحًا للشروط] اهـ.

ويدل على جواز استحداث العقود كذلك من السنة النبوية المشرفة: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ». فدلَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» على أنَّ الشرع قد جعل الأصل في البيع هو الإباحة، وإنما بيَّن لهم ما يريد استثناءه.

ولذلك تعدَّدت العقود وتنوَّعت واختلفت من مكانٍ إلى آخر بحسب عُرف أهله وما جرت به مصالحهم، وقد بوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" بابًا أسماه: (باب مَن أجرَى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة).

قال الإمام البدر العيني في "عمدة القاري" (12/ 16، ط. دار إحياء التراث العربي): [أي: هذا بابٌ يُذكر فيه: مَن أجرى أمرها إلى الأمصار على ما يتعارفون بينهم، أي: على عرفهم وعوائدهم في أبواب البيوع والإجارات والمكيال، وفي بعض النسخ: والكيل والوزن مِثلًا بمِثلٍ: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي أو وزني يعمل في ذلك على ما يتعارفه أهل تلك البلدة؛ مثلًا: الأرز فإنه لم يأت فيه نصٌّ من الشارع أنه كيليٌّ أو وزنيٌّ، فيعتبر في عادة أهل كل بلدة على ما بينهم من العرف فيه، فإنه في البلاد المصرية يُكال، وفي البلاد الشامية يُوزَن، ونحو ذلك من الأشياء؛ لأنَّ الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية] اهـ.

علة عدم جريان الربا في خطاب الضمان

خطاب الضمان بنوعيه لا يجري فيه الربا؛ لأنه ليس من عقود الإرفاق، فإن عقود الإرفاق لا يُتصوَّر حصولها إلا من الشخص الطبيعي أو الجهة التي تتبنى العمل الخيري، أما البنك فإنه شخصية اعتبارية استثمارية يختلف في طبيعته وأحكامه عن الشخصية الطبيعية والجهة الخيرية؛ فهو جهةٌ استثمارية تهدف إلى تحقيق الأرباح مقابل ما تقدمه من خدمات لعملائها، فمقصودها الإفادة والاستفادة، وهذا شأن عقود المعاوضات؛ حيث أُصدِر قانونُ البنوك المصري رقم (88) لسنة (2003م)، وأُصدِرت لائحته التنفيذية عام (2004م)؛ ليقطع بتصوير العلاقة بين البنوك والمتعاملين معها على أنها كذلك، والبنك حين يصدر هذا الخطاب إنما يصدره كخدمة تمويلية يقدمها لعملائه يستحق في مقابلها الأجرَ على جهة المعاوضة والتربُّح، لا الإرفاق والتبرع، فإن البنك ليس من شأنه إصدار عقود الإرفاق والتبرعات، وإنما تقتصر أعماله على قبول الودائع، والحصول على التمويل، واستثمار الأموال في تقديم التمويل، وما يندرج تحته من التسهيلات الائتمانية، أو المساهمة في رؤوس أموال الشركات، وكذلك ما يجري العرف المصرفي على اعتباره من أعمال البنوك؛ كما جاء في قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي الصادر برقم (194) لسنة (2020م)، وتقرره الممارسة المصرفية، ومن ثَمَّ فلا تعتبر الزيادة على قيمة الخطاب في الحالتين من الرِّبا الذي وَرَدَت حُرْمته في صريحِ الكتابِ والسُّنة وأجمَعَت الأمةُ على تحريمه؛ لأنها ليست فوائد قروض ولا منافع تجُرُّها عقود تبرعات، وإنما هي عبارة عن أرباح تمويلية وعمولات مصرفية ورسوم إدارية ناتجة عن عقود تحقق مصالح أطرافها.

بيان عدم اندراج خطاب الضمان ضمن العقود المسَمَّاة في الفقه الإسلامي كالقرض

كما أنَّ خطاب الضمان على النحو الذي بيَّنَّاه لا يصحُّ اندراجه تحت شيءٍ من العقود المسَمَّاة في الفقه الإسلامي أو إلحاقه بها؛ كالقرض والضمان والكفالة والوكالة ونحوها من العقود المسَمَّاة، ولا يصح أيضًا تخريجه عليها؛ للفرق بينه وبينها، ولأن فيها من القيود والشروط والضوابط ما يُخرجه عنها، والأصل تصحيح أفعال المكلفين مهما أمكن ذلك، وبيان ذلك كالآتي:

فأما القرض الذي نصَّ عليه الفقهاء: فهو عقدُ إرفاقٍ وتوسعةٍ لا يُراعى فيه ما يراعى في عقود المعاوضة؛ كما قال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (5/ 358، ط. دار الكتب العلمية). فبَعُدَ إلحاقُ خطاب الضمان به إذ كان القرضُ على هذا النحو.

بيان عدم إلحاق خطاب الضمان بعقد الضمان

أما عقد الضمان المسَمَّى؛ فيُعرَّف بأنه: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق؛ فيثبت في ذمتهما جميعًا، ولصاحب الحق مطالبة مَن شاء منهما؛ كما جاء في "المغني" للإمام ابن قدامة (4/ 399-400، ط. مكتبة القاهرة).

ومعنى ذلك: أنه ينتج عنه ثبوت الالتزام بأداء المضمون في ذمة الضامن والمضمون عنه على السواء، ويكون لصاحب الحق الذي أنشئ الضمان من أجل الوفاء بحقه مطالبةُ مَن يشاء منهما، بينما خطاب الضمان ليس كذلك؛ بل هو التزام مستقل يقع على عاتق البنك منفردًا في مواجهة المستفيد، وتبعًا لذلك فإنَّ المستفيد يطالِب البنكَ لا العميلَ الذي أُصدِر الخطاب بناءً على طلبه.

كما أنَّ عقد الضمان المسمَّى يُعَدُّ مِن عقود التبرعات التي شأنها الإرفاق والإحسان إلى من يحتاج إليه؛ فهو كالقرض، وكما اشترط الفقهاء في القرض ألَّا يَجرَّ نفعًا للمقرض، فقد اشترطوا في الضمان كذلك بالاتفاق ألَّا يكون بعوضٍ؛ لأنه يؤول إلى قرضٍ جرَّ نفعًا.

قال الشيخ أحمد الدردير في "الشرح الكبير" (3/ 77، ط. دار الفكر): [وأما صريح ضمانٍ بجُعلٍ، فلا خلاف في مَنْعِهِ؛ لأنَّ الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تُفعل إلا لله تعالى؛ فأخْذُ العِوَض عليها سُحْتٌ] اهـ.

وعقود التبرعات على هذا النحو إنما يُتصوَّر حصولها من الشخص الطبيعي أو الجهة التي تتبنى العمل الخيري، أما البنك فهو أولًا: شخصية اعتبارية تختلف في طبيعتها وأحكامها عن الشخصية الطبيعية، وهو ثانيًا: جهةٌ استثمارية تهدف إلى تحقيق الربح مقابل ما تقدمه من خدمات لعملائها، فمقصودها الإفادة والاستفادة، بخلاف الجهة الخيرية؛ فإنها لا تهدف إلى الربح، بالإضافة إلى أنَّ خطاب الضمان على نحو ما سبق بيانه إنما هو من قبيل عقود المعاوضات؛ إذ يُصدِره البنكُ كخدمة تمويلية وتسهيل ائتماني يقدمها لعملائه يستحق في مقابلها الأجر، لا كعقد تبرع وإرفاق بغير مقابل؛ فإن البنك ليس من شأنه إصدار مثل هذه العقود؛ كما سبق بيانه.

فتبيَّن مما سبق: أنَّ خطاب الضمان ليس له حظٌّ من عقد الضمان المسمَّى في الفقه سوى اسمه، أما حقيقته فإنها مغايرةٌ له في الصورة والمعنى.

بيان عدم إلحاق خطاب الضمان بالكفالة والوكالة

أما الكفالة -كما عرفتها المادة (772) من القانون المدني المصري- فهي: [عقدٌ يلتزم بمقتضاه شخصٌ يُسَمَّى الكفيل بأن يَضمن الوفاء بالالتزام إذا لم يَفِ به المدينُ عند حلول الأجل] اهـ.

أو هي: ضَمّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ بِشَيْءٍ؛ كما جاء في المادة (612) من "مجلة الأحكام العدلية" (ص: 115، ط. نور محمد).

بمعنى أنها ينتج عنها ضمُّ الكفيلِ ذِمَّتَهُ إلى ذِمَّةِ المكفول عنه بالشيء المكفول به؛ فيثبت في ذمتهما جميعًا، ويكون لصاحب الحق مطالبةُ مَن شاء منهما.

ومُقتضى ذلك: أن الكفالة عبارةٌ عن التزامٍ تابِع؛ فلا تنشأ بذاتها، بل تكون تبعًا لالتزام أصليٍّ ثابتٍ بالفعل حالًا؛ أو بالضرورة مآلًا، على شخص آخر، بينما الالتزام في خطاب الضمان التزامٌ أصيلٌ ينشأ بإرادة البنك المنفردة بناءً على طلب العميل لا تبعًا لالتزامه.

وأما الوكالة -كما عرفتها المادة (699) من القانون المدني المصري- فهي: عقدٌ بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل. أو هي: تَفْوِيضُ أَحَدٍ فِي شُغْلٍ لِآخَرَ وَإِقَامَتُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ الشُّغْلِ؛ كما جاء في المادة (1449) من "مجلة الأحكام العدلية" (ص: 280).

ومقتضى ذلك: أنَّ ما يقوم به الوكيل من عملٍ إنما يكون بالنيابة عن الموكِّل، وهذه الوكالة تتيح للموكِّل التصرف فيما أوكل فيه، وللمستفيد الرجوع على أيِّ واحد منهما، بينما خطاب الضمان ليس كذلك؛ فهو لا يُعَدُّ تنفيذًا لعقدٍ بين العميل والمستفيد، ولا يعتبر البنك نائبًا أو وكيلًا عن العميل أو كفيلًا له في تنفيذه والوفاء للمستفيد بقيمة الضمان المبينة في الخطاب، وإنما هو أصيلٌ في الالتزام به استقلالًا في حدود ما تعهد به.

بيان عدم اندراج خطاب الضمان تحت الوعد بالالتزام

كما لا يصح اندراج خطاب الضمان تحت ما نصَّ عليه الفقهاء من الوعد بالالتزام؛ فالوعد -كما عرَّفه العلامة الحطاب في "تحرير الكلام في مسائل الالتزام" (ص: 153، ط. دار الغرب الإسلامي) نقلًا عن الإمام ابن عرفة- هو: [إخبارٌ عن إنشاءِ المُخَيَّر معروفًا في المستقبَل] اهـ.

والالتزام -كما عرَّفه العلامة الحطاب في "المرجع السابق" (ص: 68)- هو: [إلزام الشخص نفسَهُ شيئًا من المعروف مطلقًا أو معلقًا على شيءٍ؛ بمعنى العطية، وقد يُطلَق في العرف على ما هو أخص من ذلك؛ وهو التزام المعروف بلفظ الالتزام] اهـ.

فتبيَّن من ذلك: أن الوعد بالالتزام ينشأ على جهة التبرع وصنيع المعروف، بينما ينشأ خطاب الضمان على جهة المعاوضة ولا مجال فيه للإحسان ومراعاة الظروف.

بالإضافة إلى أنَّ الالتزام بمفهومه الفقهي والقانوني أثرٌ عن العقد أو تَبَعٌ له وليس عقدًا في نفسه، وأنَّ الكلام في الوعد به إنما هو في وجوب الوفاء به أو عدمه، بخلاف الالتزام الناشئ عن خطاب الضمان؛ حيث إن التزام البنك في هذا الشأن يكون التزامًا أصيلًا، ومنفصلًا عن العقد، وواجب النفاذ بمقتضى هذا الخطاب لا عقد الأساس المبرم بين العميل والمستفيد.

وهو ما جرى به قضاء محكمة النقض المصرية؛ حيث جاء في أحكامها ما نصه: النص في المادة (٣٥٥) من قانون التجارة رقم (١٧) لسنة (١٩٩٩م) على أنَّ: [خطاب الضمان: تعهدٌ مكتوبٍ يُصدَر من البنك بناءً على طلب شخص (يسمى الآمر)، بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين لشخص آخر (يسمى المستفيد)، إذا طلب منه ذلك خلال المدة المعينة في الخطاب ودون اعتداد بأية معارضة] اهـ، وفي المادة (٣٥٨) من ذات القانون على أنه: [لا يجوز للبنك أن يمتنع عن الوفاء للمستفيد لسبب يرجع إلى علاقة البنك بالآمر أو إلى علاقة الآمر بالمستفيد] اهـ؛ يدل على أن خطاب الضمان، مشروطًا أو غير مشروط، هو تعهد نهائي يُصدَر من البنك بناءً على طلب عميله الآمر بدفع مبلغ نقدى معين أو قابل للتعيين عند أول طلب من المستفيد للبنك خلال مدة محددة، مهما كانت معارضة العميل الآمر، وأن ضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدًا بين الأخير من جهة وبين العميل الآمر والبنك من جهة أخرى، كما لا يُعَدُّ تنفيذًا لعقد بين العميل الآمر والمستفيد، وإنما يلتزم البنك بأداء قيمة خطاب الضمان للمستفيد التزامًا مباشرًا وباتًّا؛ مصدره إرادة البنك المنفردة، بمجرد إصداره خطاب الضمان موقعًا عليه ووصوله إلى علم المستفيد منه، ولذلك فإن البنك في تنفيذه لخطاب الضمان لا يُعَدُّ نائبًا أو وكيلًا عن العميل الآمر أو كفيلًا له، وإنما هو أصيل في الالتزام به] اهـ. (الطعن رقم ١١٨٩٣ لسنة ٨٥ق، الدوائر التجارية، جلسة: 11/ 12/ 2018م).

الخلاصة

بناءً على ذلك: فإنَّ خطاب الضمان هو أحد العقود المستحدثة التي لا تخرج في مضمونها عن قواعد الشرع الشريف ولا تنافي مقاصده، بل هي تطبيقٌ لما جاء به وفق مستجدات العصر بما يلائم تطور العقود والمعاملات، ويُحقق مصلحة أطرافها، ويعمل على تسهيل حركة التجارة وتنمية عجلة الاستثمار والإنتاج، وهو جائز شرعًا، ولا علاقة له بالربا؛ لأنه من قبيل عقود المعاوضات؛ حيث يُصدِره البنكُ كخدمة تمويلية يقدمها لعملائه يستحق في مقابلها الأجر، لا كعقد تبرع وإرفاق بغير مقابل.

وفي واقعة السؤال: لا مانع شرعًا مِن التعامل بخطاب الضمان البنكي بنوعيه: المغطى، والمكشوف، ولا حرج في ذلك.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة