ما هي الضوابط التي وضعها الفقهاء لكتابة الآيات القرآنية على جدران المساجد وقبابها؟
يجب عند كتابة الآيات القرآنية على جدران المساجد وغيرها الالتزامُ بهذه الضوابط أن تكون الكتابة محكَمة مُتْقَنَةً غير معرَّضة للسقوط والامتهان وتعهد الكتابة بالصيانة والتنظيف والترميم، وينبغي أن يُراعَى فيها تناسق الشكل والمضمون، وتناسب الجمال مع الجلال؛ كما هو مشاهَدٌ في الكتابات البديعة في مساجد المسلمين عبر التاريخ، شرقًا وغربًا، والتي صار كثير منها معالم بارزة يرى الناس من خلالها روائع الفن المعماري الإسلامي.
المحتويات
كتابة الآيات القرآنية على جدران المساجد من الأمور المشروعة في الإسلام، وهو أمرٌ جرى عليه عمل المسلمين منذ القرون الأولى، وتفنَّنوا فيه، وعدّوه تعظيمًا لشعائر الله تعالى، وامتثالًا للأوامر الإلهية بعمارة المساجد ورفعها وتشييدها، وذلك يتأكد في العصر الحاضر الذي صار النقش والتزيين فيه رمزًا للتقديس والتعظيم، وشيّد الناس فيه بيوتهم ومنتدياتهم بكل غالٍ ونفيس.
وقد جعل الفقهاء لهذه الكتابة ضوابط؛ منها المتفق عليه الذي يجب الالتزام به: كأن تكون الكتابة محكَمة مُتْقَنَةً غير معرَّضة للسقوط والامتهان، ومنها المُختَلَف فيه: كأن لا تكون في القبلة، أو بالذهب، أو من مال الوقف، أو مبالغًا فيها.
ومَن كَرِهَها أو حرَّمها فإنما ذلك لتَخَلُّف ضابط مِن هذه الضوابط فيها.
عند الحنفية:
جاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 109، ط. دار الفكر): [وليس بمُستَحْسَنٍ كتابةُ القرآن على المحاريب والجدران؛ لِمَا يُخاف من سقوط الكتابة وأن تُوطَأ] اهـ.
وفيها أيضًا (5/ 323): [ولو كُتِبَ القرآنُ على الحيطان والجدران: بعضهم قالوا: يُرْجَى أن يجوز، وبعضهم كرهوا ذلك مخافةَ السقوط تحت أقدام الناس. كذا في "فتاوى قاضي خان"] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (2/ 246-247، ط. دار الفكر) عن "الفتح": [أنه تُكْرَه كتابةُ القرآن وأسماء الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يُفْرَشُ؛ وما ذاك إلا لاحترامه وخشية وطئه ونحوه مما فيه إهانة] اهـ.
فالكراهة عند الحنفية معللة بشيئين:
أولهما: كون الكتابة ملهية للمصلي، فإن كانت غير ملهية انتفت الكراهة.
وثانيهما: كون الكتابة مَظِنَّةَ السقوط؛ لِمَا للآيات القرآنية من الحرمة التي يجب معها صونها عن كل مظاهر الامتهان، وهو يقتضي أن كتابتها بإحكام وإتقان، بحيث لا تكون مَظِنّةَ السقوط أو الامتهان لا كراهةَ فيه فضلًا عن التحريم.
عند المالكية:
قال الإمام البرزلي المالكي في "فتاويه" (1/ 356، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكراهة الكَتْب والتزويق لقبلته، وفي سماع ابن القاسم: كره الناس تزويق القبلة حين جُعل بالذهب؛ لأنه يشغل المصلين، ابن رشد: لابن نافع وابن وهب جواز تزويق المساجد بما خفَّ والكَتْب في قبلتها..، وظاهر الرواية عندنا أنه مكروه تزويق المساجد بالذهب؛ لأنها تشغل المصلي، فلو كانت حيث لا تشغله: فظاهر أنها جائزة، وقد رأيت ذلك في جامع القيروان، ومرَّت عليه قرون ولم يُسمَعْ فيه مَن ينكر، وكذا هو في جامع الزيتونة، غير أن بعضه بين يدي الإمام، فقال لي شيخنا الإمام: إن الولاة هم الذين وضعوه، وجُدِّدَ في وقت إمامته به، وسكت عنه لكونه -والله أعلم- مكروهًا] اهـ.
قال العلامة الخرشي -بعد أن نقل كلام الإمام البرزلي في "شرحه على مختصر خليل" (1/ 101، ط. دار الفكر)-: [والظاهر أن هذا هو المُعوَّل عليه] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 65، ط. دار إحياء الكتب العربية): [واعلم أن تزويق الحيطان والسقف والخشب والساتر بالذهب والفضة جائز في البيوت، وفي المساجد مكروه إذا كان بحيث يشغل المصلي، وإلا فلا] اهـ.
فكراهية الكتابة عند المالكية منوطة بكونها مُلْهِيَةً للمُصَلِّين عن صلاتهم، فإن كانت بحيث لا تشغلهم ولا تلهيهم فالمعوَّل عليه عندهم أنها جائزة حتى لو كانت في القبلة أو مِن الذهب.
عند الشافعية:
قال الإمام التقي السبكي في "الفتاوى" (1/ 276-277، ط. دار المعارف): [وأما تذهيبُ الكعبة: فإن الوليد بن عبد الملك بعث إلى خالد بن عبد الله والي مكة ستة وثلاثين ألف دينار وجعلها على بابها والميزاب والأساطين والأركان، وذكر في "الرعاية" عن أحمد: أن المسجد يصان عن الزخرفة، وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين في الكعبة، ذكر ذلك صاحب "الطراز" من المالكية.. فإن قلتَ: قد قال المتولي من الشافعية: لو وقف على تجصيص المسجد وتلوينه ونقشه هل يجوز؟ على وجهين: أحدهما: يجوز؛ لأن فيه تعظيم المسجد وإعزازَ الدين. والثاني: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر تزيين المساجد في أشراط الساعة، وألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قلتُ: أما كونه من أشراط الساعة فلا يدل على التحريم، وأما كونه ألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالذي ورد: «لَتُزَخْرِفُنَّهَا ثُمَّ لَا تَعْمُرُونَها إلَّا قَلِيلًا»؛ فالمذموم: عدم العمارة بالعبادة، أو الجمعُ بينه وبين الزخرفة، أو الزخرفة الملهية عن الصلاة؛ فهي المكروهة، أما التجصيص: ففيه تحسين للمساجد، وقد فعله الصحابة: عثمان رضي الله عنه فمن بعده، ولا شك أن بناء المساجد من أفضل القُرَب، وتحسينها من باب اختيار الأعمال الصالحة؛ فهو صفة القُرْبة، وقد رآه المسلمون حسنًا، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"؛ فكل ذلك حسنٌ، ولا يكره منه إلا ما يشغل خواطر المصلين؛ فلا شك أن يُكرَه كراهةَ تنزيهٍ لا تحريم] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "إعلام الساجد" (ص: 336، ط. وزارة الأوقاف المصرية): [قال البغوي في "شرح السنة": لا يجوز تنقيش المسجد بما لا إحكام فيه. وقال في "الفتاوى": فإن كان فيه إحكام فلا بأس؛ فإن عثمان رضي الله عنه بنى المسجد بالقَصَّة والحجارة المنقوشة. قال البغوي: ومن زوَّق مسجدًا -أي: تبرعًا- لا يُعَدُّ من المناكير التي يبالغ فيها كسائر المنكرات؛ لأنه يفعله تعظيمًا لشعائر الإسلام، وقد سامح فيه بعض العلماء، وأباحه بعضهم] اهـ.
وقال أيضًا (ص: 337): [ويُكرَه أن يَكتب في قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئًا منه، قاله مالك، وجوَّزه بعض العلماء، وقال: لا بأس به؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: 18]، ولِمَا مِن فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُنْكَر ذلك] اهـ.
فالأمر واسع عند الشافعية ما دام الغرضُ تعظيمَ شعائر الإسلام، والنهي مُعلَّلٌ بافتقاد الإحكام في الكتابة بحيث تكون عُرْضَةً للاستهانة بها، أو بشغل خاطر المصلي، فإن انتفى ذلك فلا كراهة ولا تحريم.
عند الحنابلة:
يقول العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 366، ط. دار الكتب العلمية): [(ويُكْرَه) أن يُزَخرَف المسجدُ (بنقش وصبغ وكتابة وغير ذلك ممَّا يلهي المصلي عن صلاته غالبًا)] اهـ.
وهذا يقتضي أيضًا أن ذلك إذا كان بحيث لا يُلهي المصلي فلا كراهة.
ومن العلماء مَن لا يرى كراهةً في كتابة الآيات القرآنية على قبلة المسجد أصلًا، كما روي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله، وعليه جرى العمل كما فعله عمر بن عبد العزيز رحمه الله في المسجد النبوي الشريف، وأن ذلك ليس من شأنه أن يشغل المصلي أصلًا؛ لأن في الصلاة شغلًا عما عداها؛ كما روي عن أبي زرعة في قوله: "سبحان الله! رجل يدخل على الله تعالى ويدري ما بين يديه؟!"، والأصل في نظر المصلي أن يكون إلى موضع سجوده كما هو مذهب الجمهور.
عليه: فيجب عند كتابة الآيات القرآنية على المساجد وغيرها الالتزامُ بما اتُّفِق عليه من هذه الضوابط، وتعهد الكتابة بالصيانة والتنظيف والترميم، وينبغي أن يُراعَى فيها تناسق الشكل والمضمون، وتناسب الجمال مع الجلال؛ كما هو مشاهَدٌ في الكتابات البديعة في مساجد المسلمين عبر التاريخ، شرقًا وغربًا، والتي صار كثير منها معالم بارزة يرى الناس من خلالها روائع الفن المعماري الإسلامي.
والله سبحانه وتعالى أعلم