هل يمكن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 11 مارس 2014
  • رقم الفتوى: 18098

السؤال

هل يمكن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة؟

يجوز عقلًا وشرعًا رؤيته عز وجل في الآخرة باتفاق أهل السنة والجماعة، أما في الدنيا فلا نزاع في وقوعها منامًا وصحتها، أما يقظة فاختلف الصحابة ومن بعدهم في حصول ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عدمه، أما غيره صلى الله عليه وآله وسلم فلا تصح دعواه الرؤية في اليقظة، ومن زعمها كان من الضالين.

المحتويات:

الرؤية لغة

الرؤية لغة: النظر بالعين أو بالقلب. قال العلامة الزبيدي في "تاج العروس" (38/ 102 وما بعدها، باب الياء فصل الراء، ط. المجلس الوطني للثقافة والفنون بالكويت): [(الرؤية) بالضم: إدراك المرئي، وذلك أضرب بحسب قوى النفس: الأول: النظر بالعين التي هي الحاسة، وما يجري مجراها، ومن الأخير قوله تعالى: ﴿وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُه﴾ [التوبة: 105] فإنه مما أجري مجرى الرؤية بالحاسة، فإن الحاسة لا تصح على الله تعالى، وعلى ذلك قوله: ﴿يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27]، والثاني: بالوهم والتخيل؛ نحو: أرى أن زيدًا منطلق. والثالث: بالتفكر؛ نحو: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال: 48]. والرابع: بالقلب، أي: بالعقل، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: 11] وعلى ذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم: 13]. قال الجوهري: الرؤية بالعين يتعدى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم يتعدى إلى مفعولين، يقال: رأى زيدًا عالمًا. وقال الراغب: رأى إذا عدي إلى مفعولين اقتضى معنى العلم، وإذا عدي بـ"إلى" اقتضى معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار] اهـ.
قال أبو هلال العسكري في "الفروق" (ص: 263، ط. مؤسسة النشر الإسلامي-إيران): [والرؤية في اللغة على ثلاثة أوجه: أحدها: العلم، وهو قوله تعالى: ﴿وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: 7] أي: نعلمه يوم القيامة، وذلك أن كل آت قريب. والآخر: بمعنى الظن، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا﴾ [المعارج: 6] أي: يظنونه، ولا يكون ذلك بمعنى العلم؛ لأنه لا يجوز أن يكونوا عالمين بأنها بعيدة وهي قريبة في علم الله، واستعمال الرؤية في هذين الوجهين مجاز. والثالث: رؤية العين، وهي حقيقة] اهـ.

رؤية الله تعالى عند أهل السنة والجماعة

وقد اختلف المتكلمون في تحديد معنى الرؤية، والذي عليه أهل السنة والجماعة أنها: قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، لا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، فإن الرؤية نوع من الإدراك يخلقه الله تعالى متى شاء ولأي شيء شاء. راجع: "إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد" للإمام عبد السلام اللقاني (ص: 202، ط. دار الكتب العلمية).

الخلاف بين الفرق الإسلامية في مسألة رؤية الله تعالى

ومسألة رؤية الله تعالى من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتردية، وبين غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى؛ كالمعتزلة والشيعة والإباضية.
أما أهل السنة فقد أجمعوا على أن رؤية الله تعالى مما يدخل في الممكنات، وأن العقل لا يحيل رؤية العباد لربهم، وهي من المسائل التي لا يُعدّ الخلاف فيها مستوجبًا للكفر والردة، وإن كانت مخالفة أهل السنة والجماعة تستوجب الفسق والجنوح عن الحق.
والنافون للرؤية قالوا: إن الرؤية هي انطباع صورة المرئي في الحدقة، ومن شرط ذلك انحصار المرئي في جهة معينة من المكان حتى يمكن اتجاه الحدقة إليه، ومن المعلوم أن الله ليس جسمًا ولا تحده جهة من الجهات، وبذلك يكون مرادهم من الرؤية هو المعنى الحاصل بين المخلوقات الذي يلزم منه اشتراط وجود الجهة والمقابلة وغير ذلك من الأمور التي تستدعي التشبيه الذي ينزه عنه الله عز وجل.
أما الكرامية والمجسمة، فإنهم جوزوا رؤيته تعالى بالمواجهة؛ لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وهذا مخالف لما عليه اعتقاد المسلمين قاطبة.
ومذهب الأشاعرة أنه لا تلازم بين الرؤية والتشبيه، فيثبتون رؤية الله لكن ليست كرؤيتنا للأشياء في الدنيا، فإن الكيفية التي تحصل الرؤية بها اليوم ليست إلا كيفية من كيفيات كثيرة، كان الله عز وجل ولا يزال قادرًا على ربط حقيقة الرؤية بما شاء منها، وقد جرت العادة في رؤية بعضنا لبعض -أي: ما يقع بين الحوادث والممكنات- من حصول مقدمات يترتب عليها انطباع صورة المرئي في حدقة الرائي، وذلك بأن يكون المرئي في مقابلة الرائي مقابلة مكانية، وأن يكون البعد بين الرائي والمرئي مسافة معينة تقدر بحسب قدرة البصر قوة وضعفًا، ومن ثم فيحدث ارتسام صورة المرئي في سطح عين الرائي، أو خروج شعاع من عين الرائي يقع على المرئي، وما كل ذلك إلا على جهة الاتفاق العادي، لا على سبيل الاشتراط العقلي، فالله سبحانه وتعالى قادر على خلق صورة الشيء بدون هذه المقدمات، فليست هذه المقدمات شرطًا عقليًّا لا يجوز تخلفه، بل هي عبارة عن ترتيبات عادية تحصل بإرادة من الله تعالى، ولو شاء الله عز وجل ألا يجعلها كذلك لفعل.
يقول الشيخ محمد الحسيني الظواهري في "التحقيق التام في علم الكلام" (ص: 97، ط. مكتبة النهضة المصرية): [والمراد بالرؤية التي ندعي جوازها: الحالة التي يجدها الإنسان حين أن يرى الشيء بعد علمه به، فإنه يدرك تفرقة بين الحالتين، وتلك التفرقة ليس مرجعها ارتسام صورة المرئي في العين، أو اتصال شعاع خارج من العين إلى المرئي عند المواجهة، بل هي حالة أخرى مغايرة للعلم يمكن حصولها من غير ارتسام صورة وخروج شعاع يخلقها الله تعالى في الحي، ولا تشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما من الشرائط] اهـ.

رؤية الله تعالى في الآخرة

فرؤية الله تعالى في الآخرة معناها: انكشافه لعباده المؤمنين في الآخرة انكشافًا تامًا، ولا يلزم من رؤيته تعالى إثبات جهة -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمون أنه لا في جهة، يقول الدكتور محمد البوطي في "كبرى اليقينيات الكونية" (ص: 171، ط. دار الفكر المعاصر): [على الرغم من أن الله تعالى ليس جسمًا ولا هو متحيز في جهة من الجهات، فإن من الممكن أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وأن يروا ذاته رؤية حقيقية لا شبهة فيها، وستحصل هذه الرؤية إن شاء الله بدون الشرائط التي لا بد منها للرؤية] اهـ.

أدلة أهل السنة على إمكان رؤية الله في الآخرة بالكتاب والسنة والإجماع

وقد استدل أهل السنة على إمكان رؤية الله في الآخرة بالكتاب والسنة والإجماع:

الأدلة من القرآن

أما استدلالهم بالقرآن فبعدة آيات:
أولًا: قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۞ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23]. وجه الدلالة: أن النظر إما أن يكون عبارة عن الرؤية بالمعنى المراد عند أهل السنة، أو عن تقليب الحدقة نحو المرئي طلبًا لرؤيته. والأول هو المطلوب، والثاني تعذر حمله على ظاهره؛ لأن تقليب الحدقة إلى المرئي يستلزم أن يكون في الجهة والمكان، فيحمل النظر على الرؤية التي هي كالمسبب للنظر بالمعنى الثاني، وإطلاق السبب وإرادة المسبب من وجوه المجاز البليغة اهـ. راجع: "التحقيق التام في علم الكلام" (ص: 97).
ثانيًا: قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15].
وجه الدلالة: أنه تعالى أخبر عن الكفار على سبيل الوعيد في هذه الآية أنهم لا يرونه؛ عقوبة لهم، وذلك يدل على أن المؤمنين يومئذ غير محجوبين عن ربهم، وإلا لم يكن في الإخبار عن الكفار على سبيل الوعيد بهذا التعبير فائدة.
ثالثًا: قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]. فإن الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر لوجهه الكريم كما قال جمهور المفسرين. راجع: "تفسير الألوسي" (11/ 102، ط. دار إحياء التراث العربي).
ويدعم هذا التفسير ما روي عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» رواه مسلم في "صحيحه".
رابعًا: قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143]. والاستدلال من هذه الآية من وجهين:
الأول: أن موسى عليه السلام سأل ربه الرؤية، فلو استحالت الرؤية لكان سؤال موسى عليه السلام جهلًا أو عبثًا؛ لأنه نبي يعلم ما يجب في حق الله وما يستحيل وما يجوز، إذ لا يجوز على أحد من الأنبياء الجهل بشيء من أحكام الألوهية، ولكن لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام دل على أنها جائزة.
والثاني: أن رؤية الله تعالى معلقة على أمر ممكن، فإنه سبحانه وتعالى علق الرؤية باستقرار الجبل حال تجليه تعالى له، وهو أمر ممكن في نفسه ضرورة؛ لأن استقرار الجبل من حيث هو ممكن، وكل ما علق على الممكن لا يكون إلا ممكنًا، فيكون المعلق باستقراره أيضا ممكنًا، فالرؤية ممكنة.


الأدلة من السنة

واستدلوا على جواز الرؤية بأحاديث:
أولًا: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله سلم فنظر إلى القمر ليلة، يعني البدر، فقال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ: «﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ [ق: 39]» متفق عليه.
ثانيًا: وعنه أيضًا قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» رواه البخاري في "صحيحه".
ووجه الدلالة من الحديثين واضح؛ قال العلامة ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص: 205، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها عنه أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعمارة بن رويبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وحديثه موقوف، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مسمى رضوان الله عليهم] اهـ.
قال الإمام مالك: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ولو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الكافرون بالحجاب، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15].
وقال الإمام الشافعي: لما حجب قومًا بالسخط، دل على أن قومًا يرونه بالرضا. وقال محمد بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. اهـ. راجع: "إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد"، عبد السلام اللقاني (ص: 206).


الأدلة من الإجماع

أما الإجماع: فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا مجمعين على وقوع الرؤية في الآخرة وأن الآيات والأحاديث الواردة فيها محمولة على ظواهرها من غير تأويل.
يقول الشيخ الحسيني الظواهري في "التحقيق التام في علم الكلام" (ص: 106): [وكأني بك بعد اطلاعك على هذا المبحث وتقرير الأدلة على الوجه الذي رأيته ترى أن ما قاله الأشعرية في رؤية الله وقامت أدلتهم عليه غير الرؤية التي استدل المعتزلة على عدم صحتها، فالنزاع يكاد أن يكون غير حقيقي] اهـ.
رؤية الله تعالى في الدنيا
أما رؤية الله تعالى في الدنيا: فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز عقلًا رؤية الله في الدنيا والآخرة، وسؤال موسى عليه السلام إياها دليل على جوازها؛ إذ لا يجهل نبي ما يجوز أو يمتنع على ربه كما سبق ذكره، أما من حيث ورود السمع بذلك في الدنيا فقد اختلف أهل السنة والجماعة في وقوع الرؤية لأحد من الناس في الدنيا: فمنهم من قال: لم يرد السمع إلا بما يدل على الرؤية في الآخرة فقط، بل الذي جاء به السمع هو امتناع رؤية أحد من الناس ربه قبل الموت؛ وذلك لما ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ» رواه مسلم.
وذهب الأكثرون إلى أنه قد دل السمع على جواز رؤية الله تعالى في دار الدنيا، ولم تثبت في الدنيا لغير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، والراجح عند أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى بعيني رأسه لا بقلبه. راجع: "شرح مسلم" للنووي (3/ 5، ط. دار إحياء التراث العربي).
ومن أهم أدلتهم على ذلك حديث الإسراء والمعراج، وقول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: 60].
وأما حديث: «تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ»، فإنه وإن أفاد أن الرؤية في الدنيا وإن جازت عقلًا فقد امتنعت سمعًا، ولكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم له أن يقول: إن المتكلم -أي: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- لا يدخل في عموم كلامه.

مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى في الدنيا

ومن القائلين بوقوع رؤية الله تعالى من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ومعه جمهور الصحابة، ومما روي عنه في ذلك: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟!". وروي عن سيدنا الحسن رضي الله عنه أنه كان يحلف: لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وكذلك روي عن أبي ذر وكعب رضي الله عنهما، وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما وأحمد بن حنبل؛ يقول الإمام النووي في "شرح مسلم" (3/ 5): [وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه] اهـ.
وقد نفت السيدة عائشة رضي الله عنها وقوع الرؤية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه في الدنيا، وجاء مثله عن أبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهما.
والسيدة عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات. وهذه المسألة من مسائل الخلاف التي يقول فيها الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (19/ 122، ط. مجمع الملك فهد بالرياض): [وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة. وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه. وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع. ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ] اهـ.
وما دامت هذه المسألة -رؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لربه في الدنيا- مختلفًا فيها بين الصحابة أنفسهم فليس ثمة ما يدعو في باب العقيدة إلى الجزم بقول من القولين، وإن كنا نرجح في ذلك مذهب الجمهور من الصحابة ثم من بعدهم من الأئمة والعلماء، وهو إمكان رؤية الله عز وجل في الدنيا، بل دل على وقوعها أيضًا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما من ادعى رؤية الله تعالى في الدنيا يقظة فهو ضال، وذهب بعض العلماء إلى تكفيره. كما أنه لا نزاع في وقوعها منامًا وصحتها، وقد روى الخلال في كتابه "المجالس العشرة الأمالي" (ص: 50، ط. دار الصحابة للتراث، طنطا) بسنده أن الإمام أحمد بن حنبل رآه تسعًا وتسعين مرة، فقال: [وعزته إن رأيته تمام المائة لأسألنه. فرآه فقال: سيدي ومولاي، ما أقرب ما يتقرب به المتقربون إليك؟ قال: تلاوة كلامي. قال: بفهم أو بغير فهم؟ فقال: يا أحمد، بفهم وبغير فهم] اهـ.

الخلاصة

وبناء على ما سبق: فإنه يجوز عقلًا وشرعًا رؤيته عز وجل في الآخرة باتفاق أهل السنة والجماعة، أما في الدنيا فلا نزاع في وقوعها منامًا وصحتها، أما يقظة فاختلف الصحابة ومن بعدهم في حصول ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عدمه، أما غيره صلى الله عليه وآله وسلم فلا تصح دعواه الرؤية في اليقظة، ومن زعمها كان من الضالين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة