سائل يسأل: بم نُجيب إذا سُئلنا: أين الله، وهل مكانه سبحانه وتعالى فوق العرش كما ورد في القرآن الكريم؟ حيث خرج علينا بعضُ من يقول بذلك القول مستندًا إلى حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء.
إذا قُصد من هذا السؤال طلب معرفة الجهة والمكان لذات الله تعالى بما تقتضي إجابته إثبات الجهة والمكان لله سبحانه فإنه لا يصحُّ؛ إذ لا يليق بالله أن يسأل عنه بـ "أين" بهذا المعنى؛ لأن الجهة والمكان من الأشياء النسبية الحادثة، وهذ مما لا يليق بالإله الخالق سبحانه وتعالى، وما ورد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على علو الله عزَّ وجلَّ على خلقه فالمراد منها علو المكانة والهيمنة والقهر والعظمة؛ لأنه تعالى مُنَزَّهٌ عن مشابهة المخلوقين، وكلُّ ما خطر ببالك فالله تعالى خلاف ذلك، وغاية ما يفُهم من حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: «أَيْنَ اللهُ؟» فأشارت بأصبعها إلى السماء هو إيمان الجارية لا مكان الله تعالى.
المحتويات
الأصل الثابت المقرر في عقيدة المسلمين أنَّ الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه في كتابه العزيز حيث قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وأنه لا ينبغي أن يتطرّق ذهن الإنسان المسلم إلى التفكير في ذات الله سبحانه وتعالى بما يقتضي الهيئة والصورة؛ فهذا خطر كبير يُفضِي إلى تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، وإنما عليه أن يتفكر في دلائل قدرته سبحانه وتعالى، وآيات عظمته، وبدائع صُنعه، فيزداد إيمانًا به سبحانه، وألَّا يتفكَّر في ذاته عزَّ وجلَّ؛ فقد أخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "العظمة" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ حَلَقٌ حَلَقٌ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «فِيمَ أَنْتُمْ؟»، قُلْنَا: نَتَفَكَّرُ فِي الشَّمْسِ كَيْفَ طَلَعَتْ؟ وَكَيْفَ غَرَبَتْ؟ قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ، كُونُوا هَكَذَا، تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْلُوقِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ».
نقل الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 172، ط. مؤسسة الرسالة-بيروت) قولَ إسحاق بن رَاهَوَيْهِ: [لا يجوز التفكر في الخالق، ويجوز للعباد أن يتفكروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم، ولا يزيدون على ذلك؛ لأنهم إن فعلوا تاهوا] اهـ.
وعليه؛ فإنْ قُصد بهذا السؤال طلب معرفة الجهة والمكان لذات الله تعالى بما تقتضي إجابته إثبات الجهة والمكان لله سبحانه فإنه لا يصحُّ؛ إذ لا يليق بالله أن يُسأَل عنه بـ "أين" بهذا المعنى؛ لأن الجهة والمكان من الأشياء النسبية الحادثة، بمعنى أننا حتى نصف شيئًا بجهة معينة يقتضي أن تكون هذه الجهة بالنسبة إلى شيء آخر، فإذا قلنا مثلًا: السماء في جهة الفوق، فستكون جهة الفوقية بالنسبة للبشر، وجهة السفل بالنسبة للسماء التي تعلوها وهكذا، وما دام أن الجهة نسبية وحادثة فهي لا تليق بالإله الخالق سبحانه وتعالى.
ومن ثوابت عقيدتنا أن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحدّه زمان؛ لأن المكان والزمان مخلوقان، وتعالى الله سبحانه أن يحيط به شيء من خلقه، بل هو خالق كلِّ شيء، وهو المحيط بكل شيء، وهذا الاعتقاد متفق عليه بين المسلمين لا يُنكره منهم مُنكِرٌ، وقد عبَّر عن ذلك أهل العلم بقولهم: "كان الله ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ لم يتغير عما كان".
وقد تواردت عبارات السلف الصالح التي تُقرر ذلك المعنى:
يقول الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه: "مَنْ زعم أن الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك؛ إذ لو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان على شيء لكان محمولًا، ولو كان من شيء لكان مُحْدَثًا" اهـ. يُنظر: "الرسالة القشيرية" (1/ 29، ط. دار المعارف بالقاهرة).
وقيل ليحيى بن معاذ الرازي: "أَخْبِرْنا عن الله عزَّ وجلَّ، فقال: إلهٌ واحدٌ، فقيل له: كيف هو؟ قال: ملكٌ قادرٌ، فقيل له: أين هو؟ فقال: بالمرصاد، فقال السائل: لم أسألك عن هذا؟ فقال: ما كان غير هذا كان صفة المخلوق، فأما صفته فما أخبرت عنه" اهـ. يُنظر: "الرسالة القشيرية" (1/ 28).
وسُئِل ذو النون المصري رضي الله عنه عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، فقال: "أثبت ذاته ونفى مكانه؛ فهو موجود بذاته والأشياء بحكمته كما شاء" اهـ. يُنظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للإمام السبكي (9/ 42، ط. دار هجر).
والمسألة هنا هي في فهم اللغة، والقرآن نزل بلغة العرب، والعربي عندما يسمع وصف الله تعالى بأنه (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فإنه يفهم منه أنه سبحانه وتعالى قَهَر كلَّ شيء، وأن كل المخلوقات تحت سلطانه وقدرته؛ لأنه إذا كان العرش مقهورًا تحت قدرته وهو أعظم المخلوقات فغيره من المخلوقات من باب أولى؛ يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (22/ 9-10، ط. دار إحياء التراث العربي-بيروت): [لما خاطبنا الله تعالى بلسان العرب وجب أنه لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب، وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والاستيلاء، وقد تعذّر حمله على الاستقرار، فوجب حمله على الاستيلاء، وإلا لزم تعطيل اللفظ، وهذا غير جائز، ولما قامت الدلالة العقلية على امتناع الاستقرار، ودل ظاهر لفظ "الاستواء" على معنى الاستقرار، فليس أمامنا إلا أربعة مسالك؛ إما أن نعمل بكلِّ واحدٍ من الدليلين، وإما أن نتركهما معًا، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل.
والأول: باطل، وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزَّهًا عن المكان وحاصلًا في المكان؛ وهو محال.
والثاني: أيضًا محال؛ لأنه يلزم رفع النقيضين معًا وهو باطل.
والثالث: باطل؛ لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل، فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معًا، فلم يبق إلا الرابع، وهو أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل، وهذا برهان قاطع في المقصود.
والقانون: أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت مَن لم يعرف شيئًا لم يخض فيه] اهـ بتصرف.
ورحم الله تعالى حجة الإسلام الإمام الغزالي حيث قال في "المستصفى" (ص: 18، ط. دار الكتب العلمية): [اعلم أن كل مَن طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعاني أولًا في عقله ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى] اهـ.
وعليه: يكون ما ورد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على علو الله عز وجل على خلقه مرادًا بها علو المكانة والشرف والهيمنة والقهر؛ لأنه تعالى منزَّهٌ عن مشابهة المخلوقين، وليست صفاته كصفاتهم، وليس في صفة الخالق سبحانه ما يتعلق بصفة المخلوق من النقص، بل له جل وعلا من الصفات كمالُها ومن الأسماء حُسْنَاها، وكل ما خطر ببالك فالله تعالى خلاف ذلك، والعجز عن درك الإدراكِ إدراكُ، والبحث في كنه ذات الرب إشراكُ، فسبحان مَن لم يجعل للخلق سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
أما حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: «أَيْنَ اللهُ؟» فأشارت بأصبعها إلى السماء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبها: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» رواه الإمام مسلم في " صحيحه"، فليس فيه إثبات المكان لله، ولا يُظَنُّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلب من أحد أن يثبت لله مكانًا، فغاية ما يستدل به من هذا الحديث هو إيمان الجارية لا مكان الله تعالى.
والوارد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في اختبار إيمان الناس سؤالهم عن الإقرار بالشهادتين لا سؤالهم عن مكان الله عز وجل؛ ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ الله عَنْهُ إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنِّي رَسُولُ الله، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ».
وإنما قَبِلَ صلى الله عليه وآله وسلم من الجارية هذا الجواب من باب مجاراة الناس ومخاطبتهم على قدر عقولهم وعلمهم؛ يقول ابن الحاج المالكي في "المدخل" (3/ 153-154، ط. دار التراث) ما مُحَصَّلُه: [قَنَعَ عليه الصلاة والسلام بجواب الجارية وأقر بإيمانها لما سألها: «أَيْنَ اللهُ؟» فقالت: في السماء؛ باعتبار أن ذلك إقرار بأن الله واحد موجود، وذلك ينفي ما كانوا يعتقدون من أن الأصنام هي الآلهة في الأرض، فإله السماء وإله الأرض هو الله الواحد الأحد الموجود، لا أنه سبحانه وتعالى حَلَّ في السماء تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ إذ إن السماء مخلوقة له، ولا يحلّ الصانع في صنعته] اهـ بتصرف.
فالعوام معذورون في اللفظ الموهم اعتدادًا بأصل اعتقادهم بالله سبحانه وتعالى وإن أوهم بعض إيهام في وصفه تعالى، ويؤيِّدُ ذلك ما تقرَّر من أن المراد بالعلو هنا مثل سائر النصوص الموهمة هو المعنوي لا الحسي؛ لأنَّ السماء قبلة الدعاء، وجهة العلو هي أشرف الجهات، لا أن الله جل وعلا محصور فيها، حاشاه سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، لذلك قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح صحيح مسلم" وهو يتحدث عن مسلك التأويل (5/ 24، ط. دار إحياء التراث العربي): [كان المراد امتحانها، هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة؟ وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرًا في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم؟ فلما قالت: في السماء، علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان. قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها، بل متأولة عند جميعهم] اهـ.
وما سبق في إيضاح رواية الإمام مسلم كان على سبيل الفهم والدراية، أما في خصوص الرواية؛ فقد وردت رواية أخرى لفظها مختلفٌ في "موطأ الإمام مالك" برواية يحيى بن يحيى الليثي، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِجَارِيَةٍ لَهُ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَإِنْ كُنْتَ تَرَاهَا مُؤْمِنَةً أُعْتِقُهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «أَتُوقِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَعْتِقْهَا».
فهذه الرواية ليس فيها ذكرٌ للمكان والجهة في حق الخالق سبحانه وتعالى، لكن وعلى كلِّ حالٍ: فلو قال مسلمٌ: الله في السماء فإنه يُحمل قولُه على معنى أن الله له صفة العلو المطلق في المكانة على خلقه؛ لأن الله تعالى منزه عن الحلول في الأماكن، فهو سبحانه بكل شيء محيط، ولا يحيط به شيء، والقول بأن الله تعالى في السماء معناه: علوه على خلقه لا أنه حال فيها حاشاه سبحانه وتعالى، أما من يعتقد أن الله تعالى في السماء بمعنى أنها تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا أمر لا يجوز اعتقاده، ويجب تعليمه حينئذ الصواب من الخطأ في ذلك وكشف الشبهة العالقة بذهنه.
قال القاضي ابن العربي المالكي في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (ص: 965-967، ط. دار الغرب الإسلامي): [فلم يأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعتقها حتى اعتبر حالها بالإيمان.. وكذلك قال في حديث السوداء: «أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؟ أَتُوقِنِينَ بِالْبَعْثِ؟» قالت: "نعم ذلك كله"؛ ليبين عليه السلام شرط الإيمان وحقيقة الإيمان.
فإن قيل: فهل يثبت الإيمان عندكم بهذه الصفات التي اعتبرَها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أم بغيرها؟
قلنا: يثبت الإيمان بما أثبته النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي: شهادة الحق (لا إله إلَّا الله، محمَّد رسول الله)؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما اختبر حال هؤلاء القوم المسؤولين في الإيمان بما علم من حال زمانهم وأغراضهم.. وأما هذه الجارية فعلم من حالها أنها كانت متعلقة بمعبودٍ في الأرض، فأراد أن يقطع علاقة قلبها بكل إلهٍ في الأرض، فإن قيل: فقد قال لها أينَ الله؟ وأنتم لا تقولون بالأيْنَيَة والمكان.
قلنا: أما المكان فلا نقول به، وأما السؤال عن الله بأينَ فنقول بها؛ لأنها سؤال عن المكان وعن المكانة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أطلقَ اللفظ وقصد به الواجب لله، وهو شرف المكانة الذي يسأل عنها بأين، ولم يجز أن يريد المكان؛ لأنه محالٌ عليه، وأما قوله للجارية الثانية: "أَتُوقِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟" فعلِمَ أيضًا من حالِها ما دعاهُ إلى أن يسألها هل تعتقد الدار الآخرة، وتوقن أنها المقصودة وأن هذه الدار الدنيا قنطرة إليها؟ فإن مَنْ علمَ ذلك وبنى عليه صح اعتقاده وسلَمَ عمله] اهـ.
وهذه الإطلاقات الواردة في الشرع الشريف قال فيها السلف الصالح: "أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف"، وقالوا: "تفسيرها قراءتُها". يُنظر: "تفسير السراج المنير" للعلامة الخطيب الشربيني (4/ 42، ط. بولاق بالقاهرة)، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: [آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله] اهـ. يُنظر: "لمعة الاعتقاد" للإمام موفق الدين بن قدامة الحنبلي (ص: 7، ط. وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد-السعودية).
وقد أجمع المسلمون على نفي مشابهة الخالق للمخلوق فيها؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]؛ فليس استواؤه سبحانه على العرش استقرارًا وتمكنًا ومماسة؛ لأن هذا من شأن المخلوقين، إنما هو قهر وسلطان وجبروت وعز، وليس نزوله سبحانه حركة ونقلة، بل هو تجلٍّ وقبول واستجابة وقرب؛ ولذلك قال بعض السلف: ينزل أمره، وبعد نفي المشابهة التي أجمع المسلمون على أنها غير مرادة، فإما أن يفوِّضَ الإنسان معنى ما ورد إلى الله تعالى، ويكِلَ معرفته إلى الله، وإما أن يحملها على معانٍ صحيحة تحتملها اللغة، فالأول يميل إليه كلام السلف، والثاني يميل إليه كلام الخلف.
أما القول بأن الله على العرش بمعنى الاستقرار المكاني والمماسة وأنه يجلس على العرش جلوس الملوك على كراسيِّها وعروشها، وأنه لا يملؤه كله بل يبقى من العرش أربعة أصابع، وأن الله في مكان مخلوق أو أنه يشغل حيزًا، أو أنه ينزل إلى السماء نزول انتقال وحركة فيقطع بذلك مسافة معينة، ويكون تحت العرش بعد أن كان فوقه؛ فهذه كلها عقائد المُشَبِّهة، وهي عقائد فاسدة لا يقول بها مسلم، ولا دخل للإسلام بها من قريب أو بعيد.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّه إذا قُصد من هذا السؤال طلب معرفة الجهة والمكان لذات الله تعالى بما تقتضي إجابته إثبات الجهة والمكان لله سبحانه فإنه لا يصحُّ؛ إذ لا يليق بالله أن يُسأَل عنه بـ "أين" بهذا المعنى؛ لأن الجهة والمكان من الأشياء النسبية الحادثة، وهذ ممَّا لا يليق بالإله الخالق سبحانه وتعالى، وما ورد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على علو الله عزَّ وجلَّ على خلقه فالمراد منها علو المكانة والهيمنة والقهر والعظمة؛ لأنه تعالى مُنزَّه عن مشابهة المخلوقين، وكلُّ ما خطر ببالك فالله تعالى خلاف ذلك، وغاية ما يفُهم من حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: «أَيْنَ اللهُ؟» فأشارت بأصبعها إلى السماء هو إيمان الجارية لا مكان الله تعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.