يقول السائل: وجدت بحثًا ساق فيه الباحث نتائجَ تبيّن بعد البحث والتقصي معمليًّا وإكلينيكيًّا الحكمةَ في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرًّا؛ فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ»؛ حيث بيّن هذا البحث بالتفصيل العلمي مدى الضرر البالغ الذي يلحق الرضيع إذا أرضعته أمه وهي حامل، وطبقًا لذلك فيُنصَح الأمهات بتجنب حدوث الحمل أثناء الرضاعة باستعمال وسيلة مناسبة، وإذا حملن فعليهن إيقاف الرضاعة فورًا؛ فنرجو منكم بيانًا شافيًا لمدى صحة هذا الكلام؟
إن ما أظهره البحث المذكور من نتائجَ تبين بالبحوث المعملية والفحوص التجريبية خطر لبن المرأة الحامل على رضيعها هو متفق تمامًا مع النهي القاطع في الحديث الشريف الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث قال: «لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرًّا؛ فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ».
وكذلك موافق لما نقله العلماء وتوارثه الناس في تجاربهم وموروثاتهم الطبية من ضرر ذلك على الرضيع، وبذلك يكون هذا الحديث النبوي الشريف معجزةً باهرةً في عصر العلم تبين للعالمين جميعًا أن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، وأنه سبق بتعاليمه وإرشاداته الأمم والحضارات، وأنه معلم البشرية ومرشدها إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة.
المحتويات
أصل الغِيلة في اللغة: إيصالُ الشَّرِّ إلى المقصود من حيث لا يعلَمُ ولا يَشعُرُ، يقال: قَتَله غِيلَةً، أيْ: خُدعة، واغتاله؛ أيْ: أَوصل إليه الشرَّ من حيث لا يعلم فيستعدُّ. انظر: "الصحاح في اللغة"، و"لسان العرب" مادة: (غ ي ل).
وقال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (10/ 16، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال أهل اللغة: الغِيلَة هنا بكسر الغين، ويقال لها: الغَيْل بفتح الغين مع حذف الهاء، والغِيَال بكسر الغين، وقال جماعة من أهل اللغة: الغَيْلة بالفتح المرة الواحدة، وأما بالكسر فهي الاسم من الغَيْل] اهـ.
والغِيلة المتعلقة بالولد لها في اللغة معنيان:
الأول: إرضاع الحامل لولدها.
والثاني: جماع الزوج لزوجته المرضع.
قال العلامة الفيومي في "المصباح المنير" (2/ 459، ط. المكتبة العلمية-بيروت): [أغَالَ الرجلُ ولدَه إغَالَةً إذا جامع أُمَّه وهي تُرْضِعُه، والاسمُ: الغِيلَةُ بالكسر، وأغْيَلَه بتصحيح الياء: مثلُه، وأغَالَت المرأةُ ولدَها وأغْيَلَتْه: أرْضَعَتْه وهي حاملٌ، فهي مُغِيلٌ ومُغْيِلٌ، والولدُ مُغَالٌ وَمُغْيَلٌ، والغَيْلُ وِزَان فَلْسٍ: مثلُ الغِيلَةِ، يُقال: سَقَتْه غَيْلًا] اهـ.
وقال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" (30/ 134، ط. دار الهداية): [الغَيْلُ: اللبَنُ الذي تُرضِعُه المرأةُ وَلَدَها وهي تُؤتَى (أيْ: تُجامَع) أو هو: أن تُرضعَ وَلَدَها وهي حاملٌ، وإذا شَرِبَه الولَدُ ضَوِيَ واعْتلَّ عنه، يقال: أضَرَّتِ الغِيلَةُ بولدِ فلانٍ، إذا أُتِيَتْ أمُّه وهي ترضعه، وكذلك إذا حَمَلت أُمُّه وهي ترضعه] اهـ.
فأما الغِيلة بالمعنى الأول، وهو: "إرضاع الحامل" فضررها بيِّنٌ محسوسٌ متفقٌ عليه، وذلك معلومٌ لدى أطباء العرب والعجم قديمًا؛ بحيث لا يحتاج إلى نظر ولا فكر؛ كما سيأتي عن القاضي عياض، والإمام القرطبي، وغيرهما.
ونصَّ غيرُ واحد من العلماء المحققين على أن هذا المعنى هو المقصود بالنهي في حديث أسماء بنت السَّكَن رضي الله عنها، وقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (13/ 93، ط. مؤسسة القرطبة)، وأبو داود، وابن ماجه في "سننهما"، وأحمد في "مسنده"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"، وأبو زرعة الدمشقي في "فوائده"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"، والطحاوي في "بيان مشكل الآثار" و"شرح معاني الآثار"، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "المعجم الكبير" و"مسند الشاميين"، وتمام الرازي في "فوائده"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، والديلمي في "مسند الفردوس"، كلهم عن أسماء بنت يزيد بن السَّكَن رضي الله عنها، قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرًّا؛ فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ». وحسَّنه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (7/ 498، ط. دار الجيل).
وإنما فسَّر مَن فسَّر من العلماء "الغِيلة" الموصوفة بقتل السر في حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها المنهي عنها جزمًا بجماع المرضع؛ لأن الجماع قد يسبب الحمل الذي يفسد اللبن فيؤذي الرضيع، فيؤُول إلى تفسيرها بمعنى إرضاع الحامل.
قال العلامة الأخفش فيما نقله عنه الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 92، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية-المغرب): [الغِيلة والغَيْلُ: سواءٌ؛ وهو: أن تلد المرأةُ فيغشاها زوجها وهي ترضع فتحمل، فإذا حملت فسد اللبن على الصبي، ويفسد به جسده، وتضعف قوته؛ حتى ربما كان ذلك في عقله، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه: «أَنَّهُ لَيُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ سَرْجِهِ»؛ أي: يضعف فيسقط عن السرج] اهـ.
وقال الإمامان الخطابي في "معالم السنن" (4/ 225، ط. المطبعة العلمية)، والبغوي في "شرح السنة" (9/ 109، ط. المكتب الإسلامي): [وقوله: «يُدَعْثِرُه عَن فَرَسِهِ» معناه: يصرعه ويُسقِطه، وأصله في الكلام: الهدم، يقال في البناء: قد تدعثر إذا تهدم وسقط؛.. إن المرضع إذا جومعت فحملت فسد لبنها ونهك الولد إذا اغتذى بذلك اللبن، فيبقى ضاويًا، فإذا صار رجلًا فركب الخيل فركضها أدركه ضعف الغيل، فزال وسقط عن متونها، فكان ذلك كالقتل له، إلا أنه سِرٌّ؛ لا يُرَى ولا يُشعَر به] اهـ.
وقال القاضي عياض؛ كما في "إكمال إكمال المعلم" (4/ 67، ط. دار الكتب العلمية) للعلامة الأُبِّي: [واختُلِف في حقيقتها عرفًا، فقيل: هي وطء المرضع؛ يقال منه: أَغَال الرجلُ وأغْيَل..؛ إذا فعل ذلك، وقال ابن السِّكِّيت: هي إرضاع الحامل، وبالأول فسرها مالك، وهو قول الأصمعي وغيره من اللغويين، فوجه كراهته خوف مضرته؛ لأن الماء يكثر اللبن وقد يغيره، والأطباء يقولون في ذلك اللبن: إنه داء، والعرب تتقيه، ولأنه قد يكون عنه حملٌ، ولا يُفْطَنُ له أوّلًا؛ فيرجع إلى إرضاع الحامل المتفق على مضرته،.. واحتج من قال إنها وطء المرضع بأن إرضاع الحامل مُضِرٌّ، ودليله العيان، فلا يصح حمل الحديث عليه؛ لأن الغيلة التي فيه لا تضر، وهذه تضر] اهـ.
قال العلامة المحدِّث زكريا الكاندهلوي بعد أن أورد هذا النقل في كتابه "أوجز المسالك إلى موطأ مالك" (11/ 542، ط. دار القلم بدمشق): [وهذا يشير إلى وجه الجمع بطريق آخر (يعني بين الحديث السابق في النهي والأحاديث الآتية في ترك النهي ونفي الضرر)، وهو الأوجه عندي: أن الغِيلة في حديث جدامة: الوطء في حالة الرضاع، وفي حديث أسماء: إرضاع الحاملة، والمعروف عند العلماء وأهل الفن: أن الثاني يُضِرُّ كثيرًا] اهـ.
وقال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه "المُفْهِم لتلخيص ما أشكل مِن كتاب مسلم" (4/ 174-175، ط. دار ابن كثير): [والحاصل: أن كل واحد منهما يقال عليه: غِيلة في اللغة؛ وذلك أن هذا اللفظ كيفما دار إنما يرجع إلى الضرر والهلاك، ومنه تقول العرب: غالني أمر كذا: أي أضر بي، وغالته الغول: أي أهلكته، وكل واحد من الحالتين المذكورتين مضرة بالولد، ولذلك يصح أن تحمل الغيلة في الحديث على كل واحد منهما.
فأما ضرر المعنى الأول: فقالوا: إن الماء -يعني المني- يغيل اللبن؛ أي: يفسده، ويسأل عن تعليله أهل الطب.
وأما الثاني: فضرره بَيِّنٌ محسوس؛ فإن لبن الحامل داء وعلة في جوف الصبي، يظهر أثره عليه، ومراده صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث: المعنى الأول دون الثاني؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى نظر في كونه يضر الولد؛ حتى احتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن ينظر إلى أحوال غير العرب الذين يصنعون ذلك، فلما رأى أنه لا يضر أولادهم لم ينْهَ عنه.
وأما الثاني: فضرره معلوم للعرب وغيرهم، بحيث لا يحتاج إلى نظر ولا فكر.
إنما همَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن الغيلة؛ لمَّا أكثرت العرب من اتقاء ذلك والتحدث بضرره، حتى قالوا: إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه.
وقد روي ذلك مرفوعًا من حديث أسماء ابنة يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرًّا؛ فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ» ذكره ابن أبي شيبة. ثم لمَّا حصل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يَضُرُّ أولاد العجم؛ سَوَّى بينهم وبين العرب في هذا المعنى، فسَوَّغَه] اهـ.
وقال الحافظ ابن الجوزي في "شرح المشكل من حديث الصحيحين" (4/ 489، ط. دار الوطن): [وهذا لأنَّ المرضع إذا جُومِعت فسد لبنها، فارتضع طفلُها لبنًا فاسدًا، فإن حملت كان أكثرَ في الضرر؛ لأنَّ الدم الجيد يتصرَّف إلى غذاء الجنين ويبقى الرديء للمُرْضَع، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـمَّا رأى أن ترك ذلك ربما آذى الرجل بصبره مدَّة الرضاع أجازه بهذا الحديث، وعلل بذكر فارس والروم] اهـ.
أما ما ورد في بعض الأحاديثِ من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هَمَّ بالنهي عن الغِيلَة من غير أن ينهى عنها فعلًا، وفي بعضها من التصريح بالنهي ونسخِه، وفي بعضها من حكاية للنهي على جهة الكراهة مع نفي التحريم القطعي، فهي محمولةٌ على المعنى الثاني، وهو جماع الزوج لزوجته المرضع؛ كما جاء النص عليه، والتصريح به في بعضها؛ حيث كانت العرب تظنُّ أن في ذلك ضررًا على لبن الرضيع.
- فمن الأحاديث التي فيها همٌّ بالنهي عنها من غير نهي، فعلى ما رواه الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام أحمد في "مسنده"، والإمام مسلم في "صحيحه"، عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن جُدَامَةَ بنت وهب الأسدية رضي الله عنها أنها أخبرتها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ؛ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ، فَلا يَضُرُّ أَوْلادَهُمْ»، قال مالك: والغِيلَةُ: أن يَمَسَّ الرجلُ امرأتَه وهي تُرْضِعُ.
- ومن الأحاديث التي جاء التصريح فيها بالنهي ونسخه: ما رواه الأئمة البزار في "مسنده"، والطبراني في "الكبير"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الاغتيال، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ ضَرَّ أَحَدًا لضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ»، قال ابنُ بُكَيْرٍ: والاغتِيَالُ: أن يَطَأَ الرجلُ امرأته وهي تُرْضِعُ، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
وروى الطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الغَيْلِ، ثم قال: «هَلْ أَضَرَّ فارسَ والرُّومَ؟ وذاك أن يَأْتِيَ الرجلُ امرأتَه وهي تُرْضِعُ».
وروى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى في "مسانيدهم"، وأبو داود والنسائي في "سُنَنِهما"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، "والحاكم في "المستدرك" وصححه، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره عشرَ خِلالٍ: الصُّفْرَةَ -يعني: الخَلُوق-، وتَغْييرَ الشَّيْبِ، وجَرَّ الإِزار، والتختُّمَ بالذهب، والتَّبَرُّجَ بالزِّينة لغير محلِّها، والضربَ بالكِعاب، والرُّقَى بغير المُعَوِّذَات، وعَقْدَ التَّمائم، وعَزْلَ الماء عن محلِّه، وفسادَ الصبي غيرَ مُحَرِّمهِ".
قال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 412، ط. دار الكتب العلمية): [قوله في هذا الخبر "أنه نهى عن إفساد الصبي غيرَ مُحَرِّمه"، يعني: أنه همَّ بأن ينهى عن الغِيلة ولم ينْهَ عنها؛ لأنه بلغه أن فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادهم] اهـ.
وقال الإمامان الخطابي في "معالم السنن" (4/ 213) والبغوي في "شرح السنة" (9/ 105): [وفسادُ الصبي: هو أن يطأ المرأة المرضع، فإذا حملت فسد لبنها، وكان في ذلك فساد الصبي، وقوله: (غيرَ مُحَرِّمِه) معناه: أنه قد كره ذلك، ولم يبلغ في الكراهة حد التحريم] اهـ.
فهذه الأحاديث كلها تقتضي أن الغِيلة ليست حرامًا؛ لعدم ثبوت ضررها على جهة اليقين، والمقصود بها هنا: هو جماع الزوج لزوجته المرضع؛ كما جاء مرفوعًا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد كانت العرب تظنُّ أن الجماع في نفسه يضرُّ بالرضيع، فكانوا يعزلون لأجل ذلك، قال ابن حبيب فيما نقله الإمام الباجي في "المنتقى" (1/ 407): [العرب تتقي وطء المرضع أن يعود من ذلك ضرر على الولد صريح في جسم أو علة] اهـ.
فبيَّن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم لزوم الضرر من ذلك؛ مستشهدًا بفعل فارس والروم، وليس المقصود بالغِيلة المنفيِّ ضررُها في هذا الحديث إرضاعَ الحامل.
قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم فيما نقله الشيخ زكريا الكاندهلوي في "أوجز المسالك" (11/ 539): [الظاهر أن الجماع حال الرضاع غير مُضِرٍّ؛ لأنه يُقَوِّي المرأةَ، وإنما يَضُرُّه الحملُ؛ لأنه يُنْقِصُ اللبنَ ويُجَفِّفُه، ولو نُهِيَ عن الجماع لكان لِخَوْفِ الحمل] اهـ.
ويشهد لذلك حديثُ "العزل" الذي استشهد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدم ضرره بأن فارس والروم لا تعزل ولا يضر ذلك أولادهم، فتكون الغِيلة غير المنهي عنها تحريمًا هي جماع المرضع؛ فعن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: "أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّي أَعْزِلُ عن امرأتي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لِمَ تَفْعَلُ ذلك؟» فقال الرجل: أُشْفِقُ على ولدها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ كان ذلك ضارًّا ضَرَّ فارسَ والرُّومَ» رواه الإمام أحمد في "مسنده" ومسلم في "صحيحه".
وتفسير الغيلة في هذه الأحاديث التي تواردت على نفي التحريم القطعي بأنها: (جماع المرضع)، هو ما عليه جماهير العلماء سلفًا وخلَفًا؛ كالإمام مالك في "الموطأ"، ويحيى بن بُكَيْر فيما رواه عنه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 169)، و"المعجم الأوسط" (5/ 219)، والدارمي في "السُّنَن" (2/ 197)، وأبي حاتم الرازي فيما رواه عنه ابنه عبد الرحمن في "العِلَل" (1/ 401)، وأبي عوانة في تبويبه على "مستخرجه على صحيح مسلم" (3/ 100)، ورواه أيضًا عن شيخه أبي يحيى عبد الله بن أحمد بن أبي مسرة المكي (3/ 101)، وابن حبان في "صحيحه" (9/ 501)، والديلمي في "مسند الفردوس" (3/ 436)، والبغوي في "شرح السنة" (9/ 105)، والقاضي عياض في "مشارق الأنوار" (2/ 142)، والإمام النووي في تبويبه على "صحيح مسلم"، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 164)، والحافظ السيوطي في "الديباج" (4/ 51).
وهذا هو قول أهل اللغة: كالأصمعي، وأبي عبيدة، واليزيدي، كما نقله الإمام النووي في "شرح مسلم"، وهو قول أبي عبيد في "غريب الحديث"، وابن دُرَيْد في "الجمهرة"، والصاحب بن عباد في "المحيط"، وابن سيده في "المخصص"، وابن السِّكِّيت في "إصلاح المنطق"، والأزهري في "تهذيب اللغة"، والحميدي في "تفسير غريب ما في الصحيحين"، والزمخشري في "الفائق"، وغيرهم.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" (6/ 259): [وعلى تفسير ذلك أكثرُ الناس من أهل اللغة وغيرهم] اهـ.
التحقيق في الجمع بين الأحاديث الواردة في "الغِيلة": أن الغِيلة التي ورد فيها النهي الجازم هي "رضاع الحامل"، وأما التي فيها الجواز أو الكراهة من غير تحريم فهي "جماع المرضع".
وممَّا يشهد لذلك: أن "الغِيلة" المنهي عنها جزمًا والموصوفة بأنها "قتلٌ في السر" قد خوطب بها النساء في بعض الروايات؛ كما جاء في رواية ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (6/ 129، ط. دار الراية)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 183، ط. مكتبة العلوم والحكم) لحديث أسماء بنت يزيد بن السَّكَن رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَيُّهَا النِّسَاءُ، وَيْلَكُنَّ! لا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ؛ فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ»، والحكم في "جماع المرضع" إنما يُخاطَب به الرجال، فإذا كان الخطاب للنساء تعيَّن أن تُحمَل "الغِيلة" على "رضاع الحامل"؛ لأنهن اللائي يُرضِعْنَ، فيُتَصَوَّر مخاطبتُهن بترك الرضاعة، وليس من شأنهن أن يُخاطَبن بترك الجماع، أما الرواية الأخرى التي فيها الخطاب بما يشمل الذكور والإناث فمحمولة على إخبار الرجال زوجاتهم بذلك.
أما الغِيلةُ المنفيُّ ضررُها: فقد جاء تفسيرها في حديث العزل السابق إيرادُه بما يستوجب أن يكون المخاطَب بها هم الرجال وحدهم، وهذا يستلزم أن يكون المقصود بها هو "جماع المرضع".
ومِن العلماء؛ كالعلامة السندي، فيما نقله صاحب "عون المعبود" (10/ 366، ط. المكتبة السلفية) مَن جعل الغِيلة في أحاديث النهي عنها، وأحاديث نفي ضررها بمعنًى واحد، وجعل أحاديث النهي ناسخة لأحاديث النفي، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الغيلة بعد حديث ترك النهي عنها؛ حيث حقق أنها تضر.
والنهي عن الغِيلة التي هي "إرضاع الحامل" قد جاء على جهة الجزم؛ حيث وصفَه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قتلٌ في السر، وأقسم على ضرره وإن طال الزمن؛ كما في رواية ابن ماجه: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْغَيْلَ لَيُدْرِكُ الْفَارِسَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ حَتَّى يَصْرَعَهُ»، وخاطب مَن فعل ذلك بالويل كما جاء في رواية ابن أبي عاصم: «أَيُّهَا النِّسَاءُ، وَيْلَكُنَّ! لا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ»، وهذه كلها قرائن ترجح أن المراد من النهي التحريم.
ويؤيِّدُ ذلك ثبوت الضرر من لبن الحامل على رضيعها قديمًا وحديثًا عند العرب وغيرهم؛ حتى كانت العرب تتمدح بالتنزه عنه، وقرر ضررَه الأطباءُ قديمًا، وثبت ذلك بالتجربة المستمرة، وقد تقرر في قواعد الشريعة التي لا نزاع فيها أن "الضرر يزال"؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرَرَ ولا ضرار».
فمن النقل عن العرب وغيرهم في ذلك:
قال أبو العباس المبرد في "الكامل" (1/ 114، ط. دار الفكر العربي): [والغيلة: أن ترضع المرأة وهي حامل، أو ترضع وهي تغشى، ويزعم أهل الطب من العرب والعجم أن ذلك اللبن داءٌ] اهـ.
وقال أبو عثمان الجاحظ في "الحيوان" (1/ 286، ط. دار الجيل): [فروَوا جميعًا أنَّ أمَّ تأبَّط شرًّا قالت: والله ما وَلَدْتُه يَتْنًا، ولا سقَيته غَيْلًا، ولا أبتُّه على مَأْقة، فأمَّا اليَتْنُ: فخروج رِجل المولود قبلَ رأسِه، وذلك علامة سُوءٍ ودليلٌ على الفساد، وأَما سَقي الغَيْل: فارتضاع لبن الحبلى وذلك فسادٌ شديد] اهـ.
وقال الأخفش فيما نقله عنه الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 92): [إذا حملت المرأة فسد اللبن على الصبي ويفسد به جسده وتضعف قوته؛ حتى ربما كان ذلك في عقله، قال الشاعر:
فوارسُ لم يُغَالوا في رَضاعٍ ... فتنبو في أكُفِّهم السيوفُ] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (10/ 16، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال العلماء: والأطباء يقولون: إن ذلك اللبن داءٌ، والعرب تكرهه وتتقيه] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 308، ط. دار المعرفة): [وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا سوى الصورة المتقدمة، وهي: خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع؛ لأنه مما جُرِّبَ فضَرَّ غالبًا] اهـ.
وقال القاضي عياض؛ كما سبق النقل عنه من "إكمال إكمال المعلم" (4/ 67) للعلامة الأُبِّي: [قد يكون عنه حملٌ ولا يُفْطَنُ له أوَّلًا؛ فيرجع إلى إرضاع الحامل المتفق على مضرته، واحتج مَن قال إنها "وطء المرضع" بأن إرضاع الحامل مُضِرٌّ، ودليله العيان، فلا يصح حمل الحديث عليه؛ لأن الغيلة التي فيه لا تضر، وهذه تضر] اهـ.
وقال القاضي عياض أيضًا في "مشارق الأنوار" (2/ 142، ط. المكتبة العتيقة): [وعلة ذلك -أيْ: النهي عن الغِيلة-: لما يُخشَى مِن حملها فترضعه كذلك؛ فهو الذي يضر به في لحمه وقوته] اهـ.
وقال العلامة ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 271، ط. المكتبة العلمية): [والمراد: النَّهْيُ عن الغِيلةِ؛ وهو أن يجَامِع الرَّجل امرأتَه وهي مرْضِعٌ، وربما حَملت، واسم ذلك اللَّبن: الغَيْلُ بالفتح، فإذا حملت فسد لَبنها؛ يريد أنَّ من سُوءِ أثَره في بَدَن الطِّفل، وإفْسَاد مزاجه، وإرخَاء قُوَاهُ، أن ذلك لا يزَالُ ماثِلًا فيه إلى أن يشتَدَّ، ويَبْلغ مبلَغ الرِّجالِ، فإذا أرَاد مُنَازَلة قِرْنٍ في الحرب وَهَن عنه وانْكَسَر، وسَبَبُ وَهْنِه وانكِسارِه: الغَيْلُ] اهـ.
وقال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه "المُفْهِم لتلخيص ما أشكل مِن كتاب مسلم" (4/ 174): [وأما الثاني -يعني: رضاع الحامل-: فضرره بَيِّنٌ محسوس؛ فإن لبن الحامل داء وعلة في جوف الصبي؛ يظهر أثره عليه، وضرره معلوم للعرب وغيرهم، بحيث لا يحتاج إلى نظر ولا فكر] اهـ.
وقال العلامة ابن القيم في "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص: 239، ط. مكتبة دار البيان): [هذا النهي كالمشورة عليهم، والإرشاد لهم إلى ترك ما يضعف الولد ويقتله، قالوا: والدليل عليه: أن المرأة المرضع إذا باشرَها الرجل حرَّك منها دم الطمث وأهاجه للخروج؛ فلا يبقى اللبن على اعتداله، وطيب رائحته، وربما حبلت الموطوءة، فكان ذلك من شر الأمور وأضرها على الرضيع المغتذي بلبنها؛ وذلك أن جيد الدم حينئذ ينصرف في تغذية الجنين الذي في الرحم، فينفذ في غذائه؛ فإن الجنين لما كان ما يناله ويجتذبه مما لا يحتاج إليه ملائمًا له، لأنه متصل بأمه اتصالَ الغرسِ بالأرض، وهو غير مفارق لها ليلًا ولا نهارًا، وكذلك ينقص دم الحامل ويصير رديئًا؛ فيصير اللبن المجتمع في ثديها يسيرًا رديئًا، فمتى حملت المرضع فمن تمام تدبير الطفل أن يمنع منها؛ فإنه متى شرب من ذلك اللبن الرديء قتله أو أثر في ضعفه تأثيرًا يجده في كبره فيدعثره عن فرسه] اهـ.
وقال العلامة الشيخ المحدِّث زكريا الكاندهلوي في كتابه "أوجز المسالك إلى موطأ مالك" (11/ 542): [المعروف عند العلماء وأهل الفن: أن الثاني -يعني: رضاع الحامل- يضرُّ كثيرًا] اهـ.
بناءً على ذلك: فما استظهره البحث المذكور من نتائجَ تبين بالبحوث المعملية والفحوص التجريبية خطر لبن المرأة الحامل على رضيعها هو متفق تمامًا مع النهي الجازم في الحديث الشريف، وموافق لما نقله العلماء وتوارثه العرب والعجم في تجاربهم وموروثاتهم الطبية من ضرر ذلك على الرضيع، وبذلك يكون هذا الحديث النبوي الشريف معجزةً باهرةً في عصر العلم تبين للعالمين جميعًا أن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، وأنه سبق بتعاليمه وإرشاداته الأمم والحضارات، وأنه معلم البشرية ومرشدها إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.