ما حكم تغسيل المحارم بعضهم البعض في حال الوفاة عند عدم توفر رجل لتغسيل الرجال أو امرأة لتغسيل النساء؟
الأصل المقرر أن أولى الناس بغسل الميت من يوافقه في النوع؛ لأنَّه به أليق وأقرب، فالرجال هم الذين يُغَسّلون الرجال، والنساء هن اللاتي يُغسّلن النساء، فإذا فُقِدَ الموافق في النوع ووجد الزوج فلا مانع من أن يقوم الزوج بتغسيل زوجته، أو تقوم الزوجة بتغسيل زوجها، فإن لم يوجد إلا مَحْرَم: فإنه يغسل مَحْرَمه من فوق ثوب دون كشف للعورة أو مباشرة بيده؛ فيلف على يديه نحو قماشة غليظة.
المحتويات
اتفق الفقهاء على أنَّ غسل الميت فرض كفاية، وأقل الغسل: تعميم الجسد بالماء بعد إزالة النجاسة، فإذا قام به البعض سقط عن الكل؛ لحصول المقصود الشرعي.
قال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 128، ط. المنيرية): [وغسل الميت فرض كفاية بإجماع المسلمين] اهـ.
وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (3/ 6، ط. دار الكتب العلمية): [أما غسل الموتى، وتكفينهم، والصلاة عليهم، ودفنهم ففرض على كافة المسلمين، والكل به مخاطبون، فإذا قام به بعضهم سقط الفرض عن باقيهم، وإن لم يقم البعض خرج الكل؛ لأنَّ فروض الكفايات، وفروض الأعيان قد يشتركان في الابتداء، ويفترقان في الفعل، فما كان من فروض الكفايات لم يلزم الكل، ويسقط عنهم بفعل البعض، وما كان من فروض الأعيان يلزم الكل، فإذا فعله البعض سقط من فاعله دون غيره] اهـ. وانظر: "المبسوط" للإمام السرخسي (2/ 58، ط. دار المعرفة)، و"الكافي في فقه أهل المدينة" للإمام ابن عبد البر (1/ 270، ط. مكتبة الرياض الحديثة)، و"مغني المحتاج" (2/ 7، ط. دار الكتب العلمية)، و"كشاف القناع" للعلامة البهوتي (2/ 85، ط. دار الكتب العلمية).
والأصل فيه: ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا خَرَّ من بعيره، فوُقص فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا». خر الرجل؛ أي: سقط، ووقص؛ أي: دقت عنقه.
يُسنّ الإسراع في غسل الميت عند تحقق موته؛ لما رواه أبو داود في "سننه" أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده، فقال: «إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ»؛ قال الشيخ الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 7): [(ويبادر) بفتح الدال ندبًا (بغسله إذا تيقن موته)؛ بظهور شيء من أماراته؛ كاسترخاء قدم، وميل أنف، وانخساف صُدغ] اهـ.
الأصل أنَّ أولى الناس بغسل الميت موافقه في الصنف؛ لأنَّه به أليق وأقرب، فالرجال هم الذين يغسلون الرجال، والنساء هن اللاتي يغسلن النساء.
وقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أنه قد توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا، أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ؛ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا -أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ- فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِي». قالت: فلما فرغنا آذنّاه، فألقى إلينا حِقوَه، فقال: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ».
والحِقْو: هو معقد الإزار، والإشعار: أي جعله ثوبها الذي يلي جسدها؛ لينالها بركة ثوبه الشريف. انظر: "إرشاد الساري" للإمام القسطلاني (2/ 384، ط. الأميرية).
فإن فُقِد الموافق في الصنف ووجد الزوج؛ فقد اتفق العلماء على جواز أن تغسل الزوجة زوجها المتوفى؛ قال الإمام ابن المنذر في كتابه "الإشراف على مذاهب العلماء" (2/ 318، ط. مكتبة مكة الثقافية): [أجمع أهل العلم على أنَّ المرأة تغسل زوجها إذا مات] اهـ.
وقد روى البيهقي في "معرفة السنن والآثار" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَّا نِسَاؤُهُ".
المختار للفتوى من مذاهب العلماء: هو جواز أن يُغسل الرجل امرأته المتوفاة؛ لما رواه ابن ماجه في "سننه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه. فقال: «بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَا رَأْسَاهُ»، ثم قال: «مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ»، ولأنَّ حقوق النكاح لا تنقطع بالموت؛ بدليل التوارث. وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية. انظر: "التاج والإكليل" للشيخ الموّاق (3/ 7، ط. دار الكتب العلمية)، "المجموع" للإمام النووي (5/ 132)، "شرح منتهى الإرادات" للعلامة البهوتي (1/ 346، ط. عالم الكتب)، "حاشية رد المحتار" للعلامة ابن عابدين (2/ 198، ط. دار الكتب العلمية).
قال العلامة ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/ 241-242، ط. دار الحديث): [وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها، واختلفوا في جواز غسله إياها؛ فالجمهور على جواز ذلك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز غسل الرجل زوجته. وسبب اختلافهم: هو تشبيه الموت بالطلاق؛ فمَن شبهه بالطلاق قال: لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت، ومَن لم يشبهه بالطلاق -وهم الجمهور- قال: إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت، وإنما دعا أبا حنيفة أن يُشَبَّه الموت بالطلاق؛ لأنّه رأى أنّه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى، كالحال فيها إذا طلقت، وهذا فيه بعد، فإنّ علة منع الجمع مرتفعة بين الحيّ والميّت، لذلك حلّت، إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقولة، وإنّ منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى، فيقوى حينئذٍ مذهب أبي حنيفة] اهـ.
أما غير الزوج من المحارم المخالفين في الصنف: فقد اتفق العلماء على حرمة أن يَمس أحدهم عورة الميت أو ينظرها، واختلفوا هل له أن يباشر غسله دون نظر أو مماسة للعورة:
فذهب الحنفية إلى أنّه لو مات الميّت رجلًا كان أو امرأة ولم يوجد إلا مَحْرَم، فإن المَحْرَم ييممه.
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (2/ 71-72): [ولو ماتت امرأة بين الرجال وفيهم زوجها لم يكن له أن يغسلها.. وإذا لم تغسل يمَّمها، فإن كان مَن يُيمّمها محرمًا لها يمَّمها بغير خرقة، وإن كان أجنبيًّا يُيمّمها بخرقة يلفها على كفه، ويعرض وجهه عن ذراعيها دون وجهها؛ لأن في حالة حياتها ما كان للأجنبي أن ينظر إلى ذراعيها، فكذلك بعد الموت] اهـ.
وذهب المالكية إلى أنَّ الرجل لا تغسله مَحْرَمُه إلا عند عدم الزوج، والموافق في الصنف من الأولياء أو الأجانب، فحينئذٍ تغسله، قيل: من فوق ثوب يغطي جميع الجسد، وقيل: يكفي ستر عورته بالنسبة لها، وأما المرأة فإن عُدِمَ الزوج فالأقرب إليها من أهلها النساء، فإن لم يوجد من أقاربها النساء أحد فالمرأة الأجنبية، ثم المحرم من أهلها الرجال يغسلها من فوق ثوب، وصفته: أن يعلق الثوب من السقف بينها وبين الغاسل؛ ليمنع النظر، ويلف خرقة على يديه غليظة، ولا يباشرها بيده. انظر: "شرح الخرشي على خليل" (2/ 116-117).
وقال سيدي الدردير في "أقرب المسالك" (1/ 546، ط. دار المعارف): [(فإن لم يكن للمرأة زوجٌ أو سيدٌ) يُغَسِّلَها، أو كان وأسقط حقه (فأقرب امرأة) لها تغسلها، (فالأقرب) لها؛ فتقدم البنت، فالأم، فأخت شقيقة فلأب، فبنت أخ كذلك، فجدة، فعمة شقيقة، فلأب، فبنت عم كذلك. (ثم) بعد مَن ذكرت (أجنبية)، (ثم) إن لم توجد أجنبية غسلها (محرم) على الترتيب السابق، (ويَستر) وجوبًا (جميع بدنها، ولا يباشر جسدها بالدلك، بل بخرقة كثيفة) يلفها الغاسل على يده ويدلك بها. (ثم) إذا لم يوجد محرم (يممت) الميتة (لكوعيها)، لا لمرفقيها] اهـ.
وذهب الشافعية إلى أنه لو كان المُتوفَّى رجلًا وعُدِمَت العصبات وذوو الأرحام والرجال الأجانب والزوجة فحينئذ يغسله النساء المحارم، وأما المرأة فلو عُدِمَ النساء الأقارب ثم الأجنبيات ثم الزوج غسلها المحارم. والترتيب عندهم مستحب. انظر: "شرح المحلي على المنهاج" (1/ 325-326، ط. عيسى الحلبي)، "أسنى المطالب" (1/ 302، ط. دار الكتاب الإسلامي)، "حاشية البيجوري" (1/ 255-256، ط. الحلبي).
ومذهب الإمام أحمد أنَّه لو ماتت امرأة بين رجال، أو رجل بين نساء مع وجود مَحْرَم فيهم أو فيهن، فيُيمّمُ المحرم الميتَ، فإن عُدِمَ التراب الصالح للتيمم، فيجب غسل ذلك الميت في حائل؛ بصب الماء عليه من فوق ثيابه دون أن تمس بشرته. انظر: "مطالب أولي النهى" للعلامة الرحيباني (1/ 850-851، ط. المكتب الإسلامي).
وقال العلَّامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 90): [(وليس له)؛ أي: الرجل (غسل ابنة سبع) سنين (فأكثر، ولو) كان (محرمًا) لها؛ كأبيها، وابنها، وأخيها؛ لأنها محل للشهوة. ويحرم النظر إلى عورتها المغلظة؛ أشبهت البالغة.. (وإن مات رجل بين نسوة لا رجل معهن) ممَّن لا يُبَاح لهن غسله؛ بأن لم يكن زوجاته ولا إماءه: يُمّم بحائل، (أو عكسه)؛ بأن ماتت امرأة بين رجال (ممَّن لا يباح لهم) أي: الرجال (غسله)، أي: الميت؛ بأن لم يكن فيهم زوجها ولا سيدها: يُمّمت] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/ 240-241]: [وأما مَن يجوز أن يغسل الميت، فإنهم اتفقوا على أنَّ الرجال يغسلون الرجال، والنساء يغسلن النساء.
واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال، أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال:
فقال قوم: يُغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب.
وقال قوم: يُيمِّم كل واحد منهما صاحبه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء.
وقال قوم: لا يُغسّل واحدٌ منهما صاحبه ولا يُيمّمه، وبه قال الليث بن سعد، بل يدفن من غير غسل.
وسببُ اختلافهم: هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو الأمر على النهي؛ وذلك أن الغسل مأمور به، ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه؛ فمَن غلّب النهي تغليبًا مطلقًا -أعني: لم يقس الميت على الحي في كون طهارة التراب له بدلًا من طهارة الماء عند تعذرها- قال: لا يُغسّل واحد منهما صاحبه ولا يُيمّمه، ومَن غلّب الأمر على النهي قال: يُغسّل كل واحد منهما صاحبه -أعني: غلّب الأمر على النهي تغليبًا مطلقًا-، ومن ذهب إلى التيمم؛ فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض، وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكلا الصنفين، ولذلك رأى مالك أن يُيمّم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط؛ لكون ذلك منها ليسا بعورة، وأن تيمّم المرأة الرجل إلى المرفقين؛ لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند مَن قال به هي تعارض الأمر والنهي، فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم، وهو تشبيه فيه بُعد، ولكن عليه الجمهور.
فأما مالك فاختلف في قوله في هذه المسألة؛ فمرة قال: يُيمّم كل واحد منهما صاحبه قولًا مطلقًا، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم، ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال:
أشهرها: أنه يُغسّل كل واحد منهما على الثياب.
والثاني: أنه لا يُغسّل أحدهما صاحبه ولكن يُيمّمه، مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم.
والثالث: الفرق بين الرجال والنساء -أعني: تغسل المرأة الرجل، ولا يغسل الرجل المرأة-.
فسبب المنع: أن كل واحد منهما لا يحلّ له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء.
وسبب الإباحة: أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي.
وسبب الفرق: أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال؛ بدليل أنّ النساء حُجِبن عن نظر الرجال إليهن، ولم يحجب الرجال عن النساء] اهـ.
بناءً على ما سبق: فالأصل أنّ أولى الناس بغسل الميت موافقه في الصنف؛ فالرّجال هم الذين يغسلون الرّجال، والنساء هن اللاتي يُغسّلن النساء، فإن عدم الموافق في الصنف والزوج، ولم يوجد إلا مَحْرَم: فإنه يغسل مَحْرمه من فوق ثوب دون كشف للعورة أو مباشرة بيده؛ فيلفّ على يديه نحو قماشة غليظة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.