ما مدى صحة وجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم؟ وهل وجود هذه الألفاظ في القرآن الكريم يتنافى مع كونه قرآنًا عربيًّا؛ فنرجو منكم بيان الرأي السديد في ذلك؟
أنزل الله تعالى القرآن الكريم بلغة العرب، وما ورد فيه من ألفاظ أصلها غير عربيّ فإنَّ العرب قد استعملتها وصارت مألوفة لهم، وأجروا عليها قواعد لغتهم في الإعراب والاشتقاق وغيرها فصارت ألفاظًا عربية صالحةً لوقوعها في القرآن، ولا يقدح ذلك في كون القرآن الكريم كله عربيًّا.
المحتويات
القرآن الكريم هو كلام الله عزَّ وجل المُنزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقصد الإعجاز بقدر أقصر سورة منه، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته. ينظر: "دليل الفالحين" للإمام ابن علان (1/ 44، ط. دار المعرفة).
وقد أنزله الله تعالى على قلب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ فقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 192- 195]؛ وقال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الشورى: 7].
ومعنى كون القرآن الكريم عربيًّا؛ أنَّه جاء عربيًّا في ألفاظه ومعانيه وأساليبه، فقد نزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصَّة وأساليبها ومعانيها.
من المعلوم أنَّ العرب قد استعملت بعض الكلمات التي لم يتواطؤوا على وضعها، وكان أصلها غير عربي مثل: أباريق، وأرائك، وإستبرق؛ فهذه الكلمات مُعَرَّبة: أي: أصلها أعجمي لمعانٍ في غير لغتها على نحو استعمالها لكلامها، وقد انتقلت هذه الألفاظ المُعرَّبة إلى معهود لسان العرب من مخالطتهم لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش وبغيرهما؛ فعلقت العرب عددًا من هذه الألفاظ الأعجمية، غيَّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العُجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها؛ حتَّى جرت مجرى العربي الصريح، ووقع بها البيان، وصارت مألوفة لهم، وأجروا عليها قواعد لغتهم في الإعراب والاشتقاق والإفراد والتثنية والجمع وغيرها.
قال الإمام النسفي في "تفسيره المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل" (3/ 295، ط. دار الكلم الطيب): [معنى التعريب أن يُجعل اللفظ عربيًّا بالتصرف فيه، وتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب، فساغ أن يقع في القرآن العربي] اهـ.
وقال العلامة عبد القاهر الجرجاني في "درج الدرر" (1/ 66، ط. دار الفكر): [تتأثَّر اللغات بعضها ببعض، والعربية كغيرها أثَّرت في اللغات المجاورة لها، وتأثَّرت بها، وأهم ناحية يظهر فيها هذا التَّأثير هي تبادل المفردات بين اللغات؛ والألفاظ التي أخذتها العربية من غيرها هي ما يسمَّى بالمعرَّب] اهـ.
اختلف علماء الأمة حول وجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم إلى فريقين:
أمَّا الفريق الأول: وهم سيدنا علي بن أبي طالب، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وبعض التابعين، فقد ذهبوا إلى الإقرار بوجود ألفاظ قليلة غير عربية في القرآن الكريم، إلَّا أنَّهم يرون أنَّ هذه الألفاظ وقعت بالقدر اليسير الذي يأخذ حكم النادر؛ حيث لم يتجاوز عددها مائة وعشرين كلمة، من جملة ألفاظ القرآن الكريم، التي بلغت سبعًا وسبعين ألفًا وأربعمائة وتسعًا وثلاثين كلمة؛ ومن ثمَّ انتهوا إلى أنَّ ورود مثل هذا القدر اليسير من الألفاظ غير العربية في القرآن الكريم لا يجعله غير عربي.
قال العلامة ابن الجوزي في "فنون الأفنان" (ص: 341، ط. دار البشائر): [روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: "في هذا القرآن من كل لسان"، وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة رضي الله عنهم "إنَّ في القرآن من غير لسان العرب"، وعن سعيد بن جُبير رضي الله عنه أنَّه قال: "ما في الأرض لغة إلا أنزلها الله تعالى في القرآن"] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (15/ 369، ط. دار الكتب المصرية): [وروي عن سعيد بن جبير قال: "قالت قريش: لولا أنزل القرآن أعجميًّا وعربيًّا فيكون بعض آياته عجميًّا وبعض آياته عربيًّا فنزلت الآية؛ وأنزل في القرآن من كل لغة فمنه: ﴿السِّجِّيلُ﴾، وهي فارسية، وأصلها سنك كيل، أي طين وحجر، ومنه: ﴿الْفِرْدَوْسُ﴾ رومية، وكذلك: ﴿الْقِسْطَاسُ﴾] اهـ.
وأمَّا الفريق الثاني: وهم جمهرة من الفقهاء والمفسرين؛ كالإمام الشافعي، والطبري، والقاضي أبي بكر بن الطيب؛ واتَّفق معهم من أئمة اللغة العربية: أبو عبيدة، وابن فارس، فذهبوا إلى نفي وجود ألفاظ غير عربية في القرآن. ينظر: "تفسير القرطبي" (1/ 68، ط. دار الكتب المصرية).
وحجتهم في ذلك: أنَّ القرآن أنزله الله بلغة العرب، فلا يجوز قراءته وتلاوته إلَّا بها؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: 2]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: 44]، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس فيه غير العربي، وأنَّ القرآن عربيٌّ صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تُنسب إلى سائر اللغات، إنَّما اتَّفق فيها أن تواردت اللغات عليها، فتكلَّمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم.
قال الإمام الشافعي في "تفسيره" (2/ 1015-1016، ط. دار التدميرية): [أقام الله عزَّ وجلَّ حجته بأنَّ كتابه عربيٌّ في كل آية ذكرناها، ثم أكَّد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كلَّ لسانٍ غير لسان العرب في آيتين من كتابه: الأولى: فقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103]. الثانية: وقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: 44]. قال الإمام الشَّافِعِي: فقال منهم قائل: إنَّ في القرآن عربيًّا وأعجميًّا، والقرآن يدلُّ على أن ليس من كتاب الله شيءٌ إلَّا بلسان العرب] اهـ.
وقال الإمام الطبري في "جامع البيان" (1/ 18-19، ط. مؤسسة الرسالة): [غير جائز أن يُتوهَّم على ذي فطرة صحيحة، مقرٍّ بكتاب الله، ممَّن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله أن يعتقد أنَّ بعض القرآن فارسي لا عربي، وبعضه نبطي لا عربي، وبعضه روميّ لا عربيّ، وبعضه حبشيّ لا عربيّ، بعد ما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنَّه جعله قرآنًا عربيًّا] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 30، ط. دار الكتبي): [نُقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنَّه قال: من زعم أنَّ في القرآن لسانًا سوى العربية فقد أعظم على الله القول] اهـ.
التحقيق: أنَّ كلا الفريقين قد أصاب الحق استنادًا إلى القاعدة الذهبية التي تقرر أنَّ: كل ما تكلمت به العرب فهو عربي؛ فكون القرآن الكريم جاءت فيه ألفاظٌ من ألفاظ العجم، أو لم يجئ فيه شيء من ذلك، فلا يُحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلَّمت به، وجرى في خطابها، وفهمت معناه، فإنَّ العرب إذا تكلَّمت به صار من كلامها، لأنَّ العرب لا تَدَعُهُ على لفظه الذي كان عليه عند العجم، إلَّا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب، وهذا يقلّ وجوده، وعند ذلك يكون منسوبًا إلى العرب حقيقة.
ومن هنا كان الجمع بين القولين كما نقله بعض المفسرين بأنَّ هذه الألفاظ لمَّا تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة، وإن كانت غير عربية في الأصل، لكنَّهم لمَّا تكلَّموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن. ينظر: "السراج المنير" للعلامة الخطيب الشربيني (2/ 88، ط. مطبعة بولاق).
وقال الإمام ابن عطية في "تفسيره" (1/ 51، ط. دار الكتب العلمية): [فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنَّها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعرَّبتها، فهي عربية بهذا الوجه] اهـ.
بناءً على ما سبق: فما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ أصلها غير عربيّ فإنَّ العرب قد استعملتها وصارت مألوفة لهم، وأجروا عليها قواعد لغتهم في الإعراب والاشتقاق وغيرها فصارت ألفاظًا عربية صالحةً لوقوعها في القرآن، ولا يقدح ذلك في كون القرآن عربيًّا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.