يقول السائل: أتوسل في دعائي بالأولياء والصالحين؛ وأجد بعض الناس يقولون: إن الوسيلة نوعٌ من أنواع الشرك؛ فالرجاء بيان الرأي الشرعي الصحيح في هذه المسألة؟
التوسل في الدعاء بالأولياء والصالحين أمرٌ مستحبٌّ شرعًا؛ لأنه يدخل في تعظيم ما عظمه الله تعالى من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال، ولا علاقة لهذا بالشرك؛ فالشرك هو صرف شيء من العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى؛ والتوسل ليس كذلك؛ لأنه عبارة عن التقرب إلى الله تعالى بجملة ما شرعه سبحانه وتعالى من الأسباب.
المحتويات
هناك فارقٌ كبير وبونٌ شاسع ما بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة مأمور بها شرعًا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35]، وأثنى سبحانه على مَن يتوسلون إليه في دعائهم فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]، والوسيلة في اللغة: المنزلة، والوصلة، والقربة؛ فجماع معناها هو: التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرعه سبحانه، ويدخل في ذلك تعظيم كل ما عظمه الله تعالى من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فيسعى المسلم مثلًا للصلاة في المسجد الحرام والدعاء عند قبر المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والملتزم تعظيمًا لما عظمه الله من الأماكن، ويتحرى قيام ليلة القدر والدعاء في ساعة الإجابة يوم الجمعة وفي ثلث الليل الآخر تعظيمًا لما عظمه الله من الأزمنة، ويتقرب إلى الله بحب الأنبياء والأولياء والصالحين تعظيمًا لمَن عظمه الله من الأشخاص، ويتحرَّى الدعاء حال السفر وعند نزول الغيث وغير ذلك تعظيمًا لما عظّمه الله من الأحوال.. وهكذا، وكل ذلك داخل في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
أما الشرك فهو صرف شيء من العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى، حتى ولو كان ذلك بغرض التقرب إلى الله كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وإنما قلنا: "على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى" لإخراج كل ما خالف العبادة في مسماها وإن وافقها في ظاهر اسمها؛ فالدعاء قد يكون عبادة للمَدْعُوّ: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾ [النساء: 117]، وقد لا يكون: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا﴾ [النور: 63]، والسؤال قد يكون عبادة للمسؤول: ﴿وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32]، وقد لا يكون: ﴿لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 25]، والاستعاذة قد تكون عبادة للمستَعاذ به: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]، وقد لا تكون؛ كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه: أنه كان يضرب غلامه، فقال: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَاللهِ للهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فأعتَقَه، والاستعانة قد تكون عبادة للمستعان به: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، وقد لا تكون: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45]، والاستغاثة قد تكون عبادة للمستغاث به: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، وقد لا تكون: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ [القصص: 15]، والقنوت قد يكون عبادة للمقنوت له وقد لا يكون؛ كما جمع الله تعالى ذلك في قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: 31]، والطاعة قد تكون عبادة للمطاع وقد لا تكون؛ كما في الأمر بطاعة الله ورسوله وطاعة العبد لسيده وطاعة الزوجة لزوجها وطاعة الولد لأبيه، والحب قد يكون عبادة للمحبوب وقد لا يكون؛ كما جمع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك في قوله: «أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي» رواه الترمذي وصححه الحاكم.. وهكذا، أي أن الشرك إنما يكون في التعظيم الذي هو كتعظيم الله تعالى؛ كما قال عز وجل: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، وكما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًا للهِ﴾ [البقرة: 165].
وبذلك يتبين لنا فصل ما بين الوسيلة والشرك؛ "فالوسيلة" نعظم فيها ما عظمه الله؛ أي: أنها تعظيم بالله، والتعظيم بالله تعظيم لله تعالى؛ كما قال جل جلاله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، كما أن طاعة الرسول طاعة لله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، ومبايعته مبايعة لله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].
أما "الشرك" فهو تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله؛ ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانًا وتوحيدًا، وكان سجود المشركين للأصنام كفرًا وشركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لما كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيمًا لما عظمه الله كما أمر الله كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولما كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شركًا مذمومًا يستحق فاعله العقاب.
على هذا الأصل في الفرق بين الوسيلة والشرك بَنَى جماعة من أهل العلم قولهم بجواز الحلف بما هو معظم في الشرع؛ كالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والإسلام، والكعبة، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أحد قوليه؛ حيث أجاز الحلف بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معللًا ذلك بأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحد ركني الشهـادة التي لا تتم إلا به؛ وذلك لأنه لا وجه فيه للمضاهاة بالله تعالى، بل تعظيمه بتعظيم الله له، وحمل هؤلاء أحاديث النهي عن الحلف بغير الله على ما كان من ذلك متضمنًا للمضاهاة بالله، بينما يرى جمهور العلماء المنع من ذلك أخذًا بظاهر عموم النهي عن الحلف بغير الله.
وفي بيان مأخذ الأولين وترجيحه يقول الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: [اختلف أهلُ العِلم في معنَى النهي عن الحَلِف بغير الله؛ فقالت طائفة: هو خاصٌّ بالأيْمانِ التي كان أهلُ الجاهلية يحلفون به تعظيمًا لغير الله تعالى؛ كاللات، والعُزَّى، والآباء، فهذه يأثَم الحالف بها ولا كَفَّارَة فيها، وأمَّا ما كان يَؤُولُ إلى تَعْظِيم الله كقولِه: وحَقِّ النَّبِيِّ، والإِسْلام، والحَجِّ، والعُمْرَةِ، والهَدْيِ، والصَّدَقَةِ، والعِتْقِ، ونحوها مِمَّا يُراد به تعظيمُ الله والقُرْبَةُ إليه فليس داخلًا في النَّهْي، وممَّنْ قال بذلك أبو عُبَيْدٍ وطائفةٌ مِمَّنْ لَقِينَاه، واحْتَجُّوا بِمَا جاء عن الصَّحابة مِن إيجابهم على الحالف بالعِتْقِ والهَدْيِ والصَّدَقَةِ ما أَوْجَبُوهُ مَعَ كَوْنهم رَأَوْا النَّهْيَ المَذْكُور، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ لَيْسَ عَلَى عُمُومه؛ إِذْ لو كان عامًّا لَنَهَوْا عَنْ ذَلِكَ ولم يُوجِبُوا فيه شَيْئًا] اهـ نقلًا من "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (11/ 535، ط.ط. دار المعرفة). وممَّا ذُكِر يُعلَم الجواب عن السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.