يقول السائل: يدَّعِي بعض الناس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقض العهد في صلح الحديبية حينما اتفق مع قريش على أن يردّ عليهم كلَّ رجلٍ منهم جاء إليه ولو كان مسلمًا؛ فما الرد على هذه الدعوى؟
الثابت الذي لا مراء فيه أنَّ الرسولَ الخاتم عليه الصلاة والسلام والمسلمين معه لم يقع منهم أدنى نقض للعهد لا في صلح الحديبية ولا في غيره؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم القدوةُ الخالدةُ والإنسان الكامل الذي جمع الله فيه أطهرَ الصفات وأشرفَها وأحسن الأخلاق وأكرمها، وهذا ما يجب على المسلم اعتقاده، فلم ينقض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما تعاهد عليه مع قريش في صلح الحديبية، وإنما كان الغدر ونقض العهد من قريش، وكان هذا الغدر سببًا في فتح مكة، فلو كان الامتناعُ عن ردِّ النساء المؤمنات نقضًا للعهد من طرف المسلمين لشنعت بذلك قريش عليهم واتخذتها سبة لهم، ولأعلنت حقَّها في الحرب، ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يكن إلى أن نقضت قريش بنفسها العهد، فكان الفتح المبين.
وأما الامتناع عن ردِّ النساء المؤمنات إلى الكفار في فترة صلح الحديبية، فالراجح أنَّ النساء لم يدخلن أصلًا في نص المعاهدة؛ لاستلزام أن يكون ذلك غدرًا ونقضًا للعهد من جهة المسلمين في نظر قريش، لكن قريشًا لم تتهمهم بذلك، فلا يصح أن التصريح بالنساء كان مذكورًا في نص المعاهدة. وكذلك لا يترجح القول بأن نصَّ المعاهدة في النساء كان عامًّا فبيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أريد به الخاص وهو الرجال دون النساء؛ وذلك لأنه لو وقع لاستمر التنازع بين الطرفين، فقريش تتمسك بأنها أرادت العموم، والمسلمون يتمسكون بأنهم أرادوا المعنى الخاص، وإذا كانت قريش تشدَّدت واشترطت ردَّ الرجال ولو كانوا لن يناصروها ضد المسلمين، فمن باب أولى أن تتشدَّد في ردِّ النساء إذا وجدت سببًا وجيهًا للنزاع كادعاء إرادتها المعنى العام باللفظ العام الواقع في وثيقة المصالحة، ولاتخذت ذلك ذريعةً لاتهام المسلمين بنَقْض العهد، ولكن ذلك أيضًا لم يحدث، فدلّ على أن قريشًا علمت بأنها لا حقَّ لها في المطالبة برد النساء بناءً على العهد.
المحتويات
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القدوةُ النبويةُ الخالدةُ والنموذجُ الإنساني الأتمُّ الذي جمع الله فيه أطهرَ الصفات وأشرفَها وأحسن الأخلاق وأكرمها؛ والله تعالى يقول في حقّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن سعد بن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ عَائِشَةَ رَضِي الله عنْهَا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".
والمعنى: أنه ما من فضيلةٍ محمودةٍ مأمورٍ بها في القرآن الكريم -الذي حوى جملة الفضائل وما فرط فيها من شيء- إلا وكانت متجسدةً في شخص نبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما من رذيلةٍ مذمومةٍ منهيٍّ عنها إلا وكان النبي عليه الصلاة والسلام هو أبعدَ الناس عنها؛ ولهذا فقد التزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوفاء في جميع عهوده، بل وورد عنه الذمُّ ونَفْيُ الديانة عن مَن لا عهدَ له؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» رواه أحمد في "مسنده".
وعلى هذا فالواجب على المسلم وعلى كلِّ عاقلٍ أن يجزم في عقيدته بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أوفى الناس بالعهود، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام؛ إذ يجب الإيمان بتنزههم عن النقائص، والغدر أو الخيانة من أبشع النقائص والمذمَّات، وفي الحديث الطويل الذي دار بين أبي سفيان -قبل أن يسلم- وهرقل، حينما كان يسأله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتحقق من أمر نبوته، قال هرقل لأبي سفيان: "وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا يَغْدِرُونَ... وَسَأَلْتُكَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا، فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ" رواه البخاري في "صحيحه".
من صور التزامه صلى الله عليه وآله وسلم بالعهد: وفاؤه بالوثيقة التي عقدها مع قريش في صلح الحديبية، والتي جاء فيها أنَّ قريشًا قد اشترطت في المعاهدة إلزامَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد عليهم كلَّ رجلٍ منهم جاء إليه ولو كان مسلمًا، قال سهيل بن عمرو -وهو سفير قريش في عقد الصلح-: "وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا" رواه البخاري في "صحيحه".
وفي الحديث: «ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ -رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ- وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ".
ولم ينقض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما تعاهد عليه مع قريش في صلح الحديبية، وإنما كان الغدر ونقض العهد من قريش، وكان هذا الغدر سببًا في فتح مكة، فلو كان الامتناعُ عن ردِّ النساء المؤمنات نقضًا للعهد من طرف المسلمين لشنعت بذلك قريش عليهم واتخذتها سبة لهم، ولأعلنت حقَّها في الحرب، ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يكن إلى أن نقضت قريش بنفسها العهد، فكان الفتح المبين.
قال العلامة الفقيه ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (8/ 90، ط. مكتبة الرشد-الرياض): [«وَعَلَى أَنَّه لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ هُو عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا» ولم يذكر النساء، فصحَّ بهذا أن أخْذَه لابنة حمزة كان لهذه العلة، ألا تراه ردَّ أبا جندل إلى أبيه، وهو العاقد لهذه المقاضاة] اهـ.
وقال الإمام العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (13/ 277، ط. دار إحياء التراث العربي): [فإن قلت: خرجت بنت حمزة ومضت معه؟ قلت: النساء لم يدخلن في العهد، والشرط إنما وقع في الرجال فقط، وقد بيَّنه البخاري في كتاب (الشروط) بعد هذا، وفي بعض طرقه: فقال سهيل: "وعلى أن لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا"، ولم يذكر النساء، فصحَّ بهذا أن أخْذَه لابنة حمزة رضي الله تعالى عنهما كان لهذه العلة. ألا تراه ردَّ أبا جندل إلى أبيه، وهو العاقد لهذه المقاضاة؟] اهـ.
وقد اختلف العلماء في تكييف الامتناع عن ردِّ النساء المؤمنات إلى الكفار في فترة صلح الحديبية، فقيل: هو نسخٌ لجزء من المعاهدة، أي نقض لها. وقيل: هو تخصيصٌ لعموم موهوم، أو بيان للفظ مجمل وقع في نص المعاهدة. وقيل: بل لم يدخل النساء أصلًا في نص المعاهدة، وقد أذهل الله تعالى قريشًا عن ذكر النساء عند معاهدة الصلح.
قال العلامة الحافظ بن حجر في "فتح الباري" (9/ 419، ط. دار المعرفة-بيروت): [واختلف في ترك رد النساء إلى أهل مكة مع وقوع الصلح بينهم وبين المسلمين في الحديبية على أن من جاء منهم إلى المسلمين ردوه ومن جاء من المسلمين إليهم لم يردوه، هل نسخ حكم النساء من ذلك، فمنع المسلمون من ردهن، أو لم يدخلن في أصل الصلح، أو هو عام أريد به الخصوص، وبين ذلك عند نزول الآية، وقد تمسك من قال بالثاني بما وقع في بعض طرقه "على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته"، فمفهومه أن النساء لم يدخلن، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان: إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: رُدَّ علينا من هاجر من نسائنا فإنا شرطنا أن من أتاك منا أن ترده علينا، فقال: «كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ وَلَمْ يَكُن فِي النِّسَاء»، وهذا لو ثبت كان قاطعًا للنزاع، لكن يؤيد الأولَ والثالثَ ما تقدَّم في أول الشروط أنَّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط لما هاجرت جاء أهلها يسألون ردَّها فلم يردها لما نزلت: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾.. الآية] اهـ.
والراجح أنَّ النساء لم يدخلن أصلًا في نص المعاهدة؛ لاستلزام القول بالنسخ لإزالة ما ثبت أولًا بإقرار المسلمين، فيكون غدرًا ونقضًا للعهد من جهتهم في نظر قريش، لكن قريشًا لم تتهمهم بذلك، فلا يصح أن التصريح بالنساء كان مذكورًا في نص المعاهدة. وكذلك لا يترجح القول بأن نصَّ المعاهدة في النساء كان عامًّا فبيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أريد به الخاص وهو الرجال دون النساء؛ وذلك لأنه لو وقع لاستمر التنازع بين الطرفين، فقريش تتمسك بأنها أرادت العموم، والمسلمون يتمسكون بأنهم أرادوا المعنى الخاص، وإذا كانت قريش تشدَّدت واشترطت ردَّ الرجال ولو كانوا لن يناصروها ضد المسلمين، فمن باب أولى أن تتشدَّد في ردِّ النساء إذا وجدت سببًا وجيهًا للنزاع كادعاء إرادتها المعنى العام باللفظ العام الواقع في وثيقة المصالحة، ولاتخذت ذلك ذريعةً لاتهام المسلمين بنَقْض العهد، ولكن ذلك أيضًا لم يحدث، فدلّ على أن قريشًا علمت بأنها لا حقَّ لها في المطالبة برد النساء بناء على العهد.
قال الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (28/ 155، ط. الدار التونسية للنشر-تونس): [شأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمةً بالنساء المهاجرات؛ إذ جعل لهن مخرجًا] اهـ.
أما الألفاظ المتعددة الواردة في رواية حديث الصلح والتي جاءت مرة بالنص على أن الشرط يتعلق بالرجال، ومرة بأن الشرط يتعلق بما يشمل الرجال والنساء، فالجواب عن ذلك أن هذا الاختلاف ربما أتى من تصرُّف الرواة في ألفاظ الحديث؛ إذ يستحيل أن تكون كل هذه الألفاظ المتباينة ثابتةً في وثيقة المصالحة، ويترجح اللفظ الدال على أن الشرط تناول الرجال دون النساء لما تقدم، ولاستحالة أن يأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام بنقض العهد.
وقد ورد عن الضحاك أنه قال: كان بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبين المشركين عهد: أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الشرط مثل ذلك. انظر: "تفسير روح المعاني" للعلامة الألوسي (14/ 271، ط. دار الكتب العلمية-بيروت).
وعلى هذا: فإذا كان المشركون تصالحوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ردِّ النساء، فالمقصود حينئذٍ غير المسلمات، وهذا يؤكد أن المهاجرات المسلمات لم يذكرن في نص المعاهدة.
يقول الشيخ محمد علي السايس في "تفسير آيات الأحكام" (1/ 759، ط. المكتبة العصرية للطباعة): [ومن العلماء من يرى أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة، وأنه كان يشتمل على نصٍّ خاصٍّ بالنساء، صورتُه: أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج ردَّت على زوجها ما أنفق، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم من العهد مثل ذلك، وعلى هذا فالآية موافقة للعهد مقرِّرة له. وهذا هو الذي عليه المعوّل، وأما الأقوال قبله فإنها تنافي روح التشريع الإسلامي من جهة أنَّ الوفاء بالعهد واجب، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدَّ بتخصيص نصوصه أو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني، وأنت تعلم أن عهد الحديبية ما نسخ إلا بعد أن نقضته قريش ونكثوا أيمانهم] اهـ.
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه لا يصحُّ ادعاء أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو المسلمين نقضوا بعض بنود المعاهدة التي تمت بينه وبين قريش في صلح الحديبية، وإن هذه الدعوى باطلة لما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.