سائل يقول: أعمل مقاولًا معماريًّا في كل ما يخص البناء والتشطيب، ومن ذلك: بناء المقابر وتجهيزها. فهل يجوز لي العمل في بناء وحفر وترميم مقابر غير المسلمين؟
يجوز العمل في بناء المقابر وحفرها وترميمها؛ سواء أكان ذلك للمسلمين أم لغير المسلمين، ولا حرج عليك في ذلك شرعًا؛ لأن هذا العمل داخل في عقد الإجارة المشروعة بالقرآن والسنة والإجماع، وقد تواردت نصوص الفقهاء على جواز ذلك، بل ينال المسلم الثواب على هذا العمل إذا نوى به الإعانة على الامتثال لأمر الرحمن بدفنِ بني الإنسان، كما أن هذا يُعدُّ من جملة السعي في العمل، وطلب الرزق، وتحصيله الذي حثت عليه الشريعة الإسلامية.
المحتويات
من الأمور التي حثت عليها الشريعة الإسلامية: السعي على العمل، وطلب الرزق، وتحصيله؛ قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ -أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الْجَبَلِ- فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ» أخرجه البخاري في "صحيحه".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ» أخرجه ابن الأعرابي والطبراني وابن المقري في "المعجم"، والشهاب القضاعي في "المسند"، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"شعب الإيمان" واللفظ له.
الصورة المسؤول عنها: هي عبارة عن عقد يتم بين طرفين: أحدهما بالعمل والجهد، وهو بناء المقابر وتجهيزها، والآخر ببذل المال له مقابل هذا العمل المحدد والمتفق عليه بينهما، ويُعرَف هذ العقد في الفقه الإسلامي بعقد الإجارة.
والإجارة في أصلها مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
- فمِن الكتاب: عموم قول الله تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ [القصص: 26-27]، فقد ذكر الله عز وجل أنَّ نبيًّا مِن أنبيائه عليهم السلام آجَرَ نفسه حِجَجًا مُسَمَّاة، مَلَّكَهُ بها بُضْعَ امرأةٍ، فدل على جواز الإجارة؛ كما قال الإمام الشافعي في "الأم" (4/ 26، ط. دار المعرفة).
- ومِن السنة: ما أخرجه البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ». والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
- وقد أجمعت الأمة على مشروعية الإجارة؛ كما في "المغني" للإمام ابن قدامة (5/ 321، ط. مكتبة القاهرة)، و"الإقناع في مسائل الإجماع" للعلامة ابن القطان (2/ 159، ط. الفاروق الحديثة).
جاءت الأحاديث النبوية المطهرة بجواز استئجار المسلم لغير المسلم، واستئجار غير المسلم للمسلم وإعانته في عمله مقابل أجر.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ" أخرجه البخاري في "صحيحه".
وعن كَعْبِ بن عُجْرَةَ رضي الله عنه أنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَرَأَيْتُهُ مُتَغَيِّرًا، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا لِيَ أَرَاكَ مُتَغَيِّرًا؟ قَالَ: «مَا دَخَلَ جَوْفِي مَا يَدْخُلُ جَوْفَ ذَاتِ كَبِدٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ»، قَالَ: فَذَهَبْتُ فَإِذَا يَهُودِيٌّ يَسْقِي إِبِلًا لَهُ، فَسَقَيْتُ لَهُ، عَلَى كُلِّ دَلْوٍ تَمْرَةٌ، فَجَمَعْتُ تَمْرًا، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكَ يَا كَعْبُ؟» فَأَخْبَرْتُهُ. أخرجه الطبراني في "الأوسط".
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، عَلَى أَنْ يَنْزِعَ لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، حَتَّى جَمَعَ مِلْءَ كَفِّهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ: "كُلِي وَأَطْعِمِي صِبْيَانَكِ" أخرجه المعفي بن عمران واللفظ له، وأحمد وأبو يعلى في "المسند"، والترمذي -وحسنه- وابن ماجه والبيهقي في "السنن".
تواردت نصوص الفقهاء على جواز إجارة المسلم نفسَه لغير المسلم في الجملة خاصة إذا كان المسلم من ذوي الصناعة والحرفة.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 452، ط. دار المعرفة): [قال ابن المنير: استقرت المذاهب على أن الصُّنَّاعَ في حَوَانِيتِهِم يجوز لهم العمل لأهل الذمة، ولا يُعَدُّ ذلك من الذلة] اهـ.
وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (4/ 189، ط. دار الكتب العلمية): [ولو استأجر ذميٌّ مسلمًا ليخدمه: ذكر في "الأصل" أنه يجوز.. لأنه عقد معاوضة فيجوز كالبيع] اهـ.
وقال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (8/ 23، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو استأجر المسلمَ ليبني له بيعة أو كنيسة جاز، ويطيب له الأجر] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (6/ 391، ط. دار الفكر): [قال في "الخانية": ولو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها: لا بأس به؛ لأنه لا معصية في عين العمل] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (5/ 154، ط. دار الغرب الإسلامي): [أجرة المسلم نفسه من النصراني أو اليهودي على أربعة أقسام: جائزة، ومكروهة، ومحظورة، وحرام؛ فالجائزة: أن يعمل له عملًا في بيت نفسه أو حانوته؛ كالصانع يعمل للناس، فلا بأس أن يعمل من غير أن يستبدّ بعمله] اهـ.
وقال العلَّامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (6/ 122، ط. دار الفكر): [إعارة الذميّ منفعة المسلم حيث كانت غير محرمة؛ كأن يخيط له مثلًا، فينبغي فيه الجواز؛ كما في الإجارة] اهـ.
قال الشيخ العدوي المالكي في "حاشيته عليه" (6/ 122): [(قوله: فينبغي فيه الجواز) أي: والموضوع أنه في محله كَحَانُوتِهِ، ولا يستبدّ بعمله] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (7/ 423، ط. دار الكتب العلمية): [وإذا استأجر اليهوديُّ عبدًا مسلمًا أو حرًّا مسلمًا؛ فإن كان على عملٍ مضمونٍ في ذمته: جاز، وقد كان عليٌّ كرم الله وجهه يستقي الماء لامرأة يهودية كُلَّ دَلْوٍ بتمرة] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (2/ 244، ط. دار الكتب العلمية): [واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلمًا إجارةً معينة؛ فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه عقد يتضمن حبس المسلم، فصار كبيع العبد المسلم منه، ومنهم من قال: يصح قولًا واحدًا؛ لأن عَلِيًّا كرم الله وجهه كان يستقي الماء لامرأة يهودية كُلَّ دَلْوٍ بتمرة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 410): [إنْ آجَرَ نفسه منه في عمل معين في الذمة؛ كخياطة ثوب وقصارته: جاز بغير خلاف نَعْلَمُهُ؛ لأن عَلِيًّا رضي الله عنه آجَرَ نفسه مِن يهودي يستقي له كُلَّ دَلْوٍ بتمرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فلم ينكره، وكذلك الأنصاري، ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلالَ المسلم ولا استخدامه؛ أشبه مبايعته.. ونقل عنه أحمد بن سعيد: لا بأس أن يؤجر نفسه من الذميّ، وهذا مُطلَقٌ في نوعَي الإجارة، وذكر بعض أصحابنا أنَّ ظاهر كلام أحمد منع ذلك، وأشار إلى ما رواه الأثرم، واحتج بأنَّه عقد يتضمن حبس المسلم، أشبه البيع، والصحيح ما ذكرنا] اهـ.
بل قد نصَّ فقهاء الحنابلة على مشروعية إجارة المسلم نفسه مِن أجْل حفر القبور الخاصة بغير المسلمين، ونقلوا ذلك أيضًا عن الإمام محمد بن الحكم وهو من كبار أئمة السلف الصالحين ومن شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 21، ط. دار عالم الكتب): [وقد نقل عن محمد بن الحكم، وسأله -أي: الإمام أحمد- عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرًا بكراء؟ قال: لا بأس به] اهـ.
وقال الإمام الخلَّال في "أحكام أهل الملل والردة" (ص: 118، ط. دار الكتب العلمية): [أَخْبَرَنِي محمد بن عليٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا بكر بن محمد، عن أبيه، عن أبي عبد الله، وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرًا بِكِرًى؟ قَالَ: لا بأس به] اهـ.
وقال الإمام الحجاوي في "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" (2/ 291، ط. دار المعرفة): [وتجوز إجارة المسلم للذمي إذا كانت الإجارة في الذمة وكذا خدمة.. ولا بأس أن يحفر للذمي قبرًا بالأجرة] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (3/ 560، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا بأس أن يحفر للذميّ قبرًا بالأجرة) كبناء بيتٍ له بالأجرة] اهـ.
وقال الإمام الرحيباني في "مطالب أولي النهى" (3/ 585، ط. المكتب الإسلامي): [(وَلَا بَأْسَ لِمُسْلِمٍ بِحَفْرِ قَبْرٍ لِذِمِّيٍّ) وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ] اهـ.
وقوله: "وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ" لا ينفي الجواز، وإنما يفيدُ أنَّ ترك هذا العمل أَوْلَى مِن فعله عند وجود التهمة أو الشبهة، وهذا غير حاصل في زماننا.
يضاف إلى ما سبق: أنَّه إذا كان قد جاء فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولُهُ: «طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ»، ومعلومٌ عِظَمُ ثواب الفريضة؛ فإذا تعلَّقت الإجارة -وهي من كسب الحلال- بحفر المقابر وبنائها وترميمها، كان ثوابُ العمل أعظمَ قدرًا وأكثرَ نفعًا؛ لتعلّقها بواجبٍ شرعيٍّ هو دفن الميت من بني آدم ومواراة جسده؛ مسلمًا كان أو غير مسلم؛ ففي الحديث الشريف: «إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللهِ» ذكره الزمخشري في "الكشاف"، بل إذا تعيَّن هذا العمل على مسلمٍ صار واجبًا في حقه؛ لما تقرَّر في قواعد الشرع أنَّ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام تاج الدين السبكي (2/ 88، ط. دار الكتب العلمية).
لا يقال: إنَّ في هذا العمل مخالفةً للثوابت في عقيدة المسلمين، أو خروجًا على أحكام الشرع ومعتقدات الدين؛ لأنَّ القبر ليس من خصائص الأديان، بل هو للدفن ومواراة جسد الإنسان، ولا علاقة لذلك بالمعتقد أو الإيمان؛ إذ قال تعالى في معرض الامتنان: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: 21]، فتبيَّن مِن ذلك أنَّه مشترك إنساني، لا أصل عقائدي، وأنَّ بناء القبر في ذاته ليس معصية، بل هو سُنَّة الله في الخلق ماضية، فالدفن حقٌّ للآدمي بعد وفاته، وصيانةٌ لحرمته، وحفظٌ لأمانته؛ حتَّى تُمنَع رائحتُه، وتُصانَ جُثَّتُه، وتُحفَظَ كرامتُه؛ كما قال جَلَّ شأنُه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وهذا ممَّا اتفقت عليه الفِطَر والطبائع، وأجمعت عليه الأممُ وجاءت به كلُّ الشرائع؛ حيث قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ [المائدة: 31]؛ فكان إرسال الغراب إعلامًا بوجوب الدفن؛ كما نصَّ عليه الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 301، ط. دار الكتب المصرية).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25-26]؛ قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (19/ 161): [أي: ضامَّة؛ تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لك العمل في بناء وحفر وترميم المقابر؛ سواء أكان ذلك للمسلمين أم غير المسلمين، ولا حرج عليك في ذلك شرعًا، بل تنال الثواب على هذا العمل إذا نويت به الإعانة على الامتثال لأمر الرحمن بدفنِ بني الإنسان، وتجهيزِ ما يلزم لذلك مِن حفرِ قبرٍ وتهيئةِ مكان.
والله سبحانه وتعالى أعلم.