ما حكم إفطار الطاقم الطبي من الأطباء والممرضين المباشرين لعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد؛ وذلك دفعًا للضرر وخوفًا من الهلاك المترتب على مشقة العمل؟ما حكم إفطار الطاقم الطبي من الأطباء والممرضين المباشرين لعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد؛ وذلك دفعًا للضرر وخوفًا من الهلاك المترتب على مشقة العمل؟
يجوز للطاقم الطبي من الأطباء والممرضين المباشرين لعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد الفطر في رمضان، وذلك إنْ ترتَّب على عملهم أثناء الصوم مشقةٌ أو ضررٌ يلحق بالطبيب أو الممرض بسبب الصوم، أو خاف على نفسه الضعف الذي يُعيقه عن العمل ورعاية المرضى أو يمنع إتمامه على الوجه المطلوب، ثم يقضي ما عليه متى أَمْكَنَهُ القضاء.
من أهم المقاصد التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها ورعايتها: حفظ النفس؛ فقد أكّدت على الاعتناء بها، بل وعلى كلِّ وسيلةٍ ساميةٍ تؤدي إلى حفظها وتضمن بقاءها؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التنزيل" (2/ 124، ط. دار إحياء التراث العربي): [أي: وَمَنْ تَسبَّبَ لبقاءِ حياتِها بعفوٍ أو منعٍ عن القتلِ، أو استنقاذٍ مِنْ بعضِ أسبابِ الهلكةِ؛ فكأنَّما فَعَلَ ذلكَ بالناسِ جميعًا، والمقصودُ منهُ: تعظيمُ قَتل النفسِ وإحيائِها في القلوبِ؛ ترهيبًا عنِ التعرضِ لهَا، وترغيبًا في المحاماةِ عليْهَا] اهـ.
ولهذا كانت مهنة الطب من أَسْمَى المهن وأجلِّها؛ لأنَّها تقوم على رعاية الإنسان والعناية به، وقد يعتري أصحابَ هذه المهنة بعضُ المشاقِّ مما يجعلهم في حالة لا يستطيعون معها أداء بعض العبادات على وجهها الأتم كما هو مطلوب شرعًا، ومن تلك العبادات: فريضة الصوم في رمضان.
ومن المقرر شرعًا أنَّه إنْ ترتَّب على العمل بها –من حيث الأصل- أثناء الصوم مشقةٌ أو ضررٌ يلحق بالطبيب أو الممرض بسبب الصوم، أو خاف على نفسه الضعف الذي يُعيقه عن العمل أو يمنع إتمامه على الوجه المطلوب؛ فإنَّه يُرخص له حينئذ بالفطر، ثم يقضي ما عليه متى أَمْكَنَهُ القضاء، قياسًا لمهنته على غيرها من المهن إذا شَقَّ على أصحابها الصيام، بل يجب عليه أن يُفطر إذا خاف على نفسه الهلاك، وذلك بناءً على وجوب حفظ النفس؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ [البقرة: 195].
وقد رَفَعَت الشريعةُ عن الإنسان كُلَّ ما مِن شأنه الوقوع في الحرج، أو يكون فوق طاقته مما لا يتحمله؛ فقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
ولهذا رخَّص الشرع الحنيف لبعض أصناف الناس الفطر في رمضان؛ رفعًا للحرج، ودفعًا لمشقة الصوم عنهم، ومِن هذه الأصناف: أصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يقدرون على الصوم أثناء عملهم، أو لا يستطيعون إتمام عملهم على الوجه الأكمل حال صومهم؛ إذا احتاجوا لتلك الأعمال.
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 303، ط. دار الكتاب الإسلامي): [الأَمَةُ إذا ضَعُفت عن العملِ وخشيت الهلاكَ بالصومِ: جازَ لها الفطرُ، وكذا الذي ذهب به متوكل السلطان إلى العِمارةِ في الأيامِ الحارة، والعملُ الحثيثُ إذا خَشِي الهلاك أو نقصان العقلِ] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 261، ط. دار الفكر): [فإنْ خافَ على نفسهِ الهلاك أو أنْ يَلْحَقَهُ مشقةٌ عظيمةٌ فإنَّه: يجبُ عليِه الإفطارُ؛ لأنَّ حفظَ النُّفوسِ واجبٌ ما أمكنَ، وإليه أشارَ بقوله: (ووَجَبَ إنْ خافَ هلاكًا) أو (شَدِيدَ أذىً) أي: مشقةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ [البقرة: 195]. فمجرد الخوف كافٍ في وجوب الفطر، ولا يُشترط وجود الْمَخُوفِ منه وهو: الهلاك أو شديد الأذى] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 422، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ويباحُ الفطرُ من الصومِ الواجبِ لخوفِ الهلاكِ على نَفسهِ أو عُضوهِ أو منفعتهِ] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (4/ 437، ط. مؤسسة الرسالة): [وقال أبو بكر الآجري: مَنْ صَنْعَتُهُ شاقَّةٌ؛ فإنْ خافَ بالصوم تلفًا: أفطرَ وقضى إنْ ضَرَّهُ تَرْكُ الصَّنْعَة] اهـ.
والأخذ بهذه الرخصة آكد في حقِّ مَن يباشر حالاتِ المرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد مِن الأطباء والممرضين؛ لأنها مبنيَّة على احتياجهم للإفطار في التَّقوِّي لأنفسهم، والتَّقوِّي على مهمتهم وكفاءة عملهم، خاصةً في ظِلِ فترة انتشارِ هذا الوباءِ، ممَّا يستدعي تكثيف جهودهم في العمل، وذلك دفعًا للمشقة عنهم، وصيانةً لهم، ووقايةً لأنفسهم، وتقويةً لكفاءتهم في مهمتهم الجليلة في استنقاذ المصابين من هذا الوباء، بل مَن كان الصوم في حقه منهم مؤديًا به إلى التهلكة أو تضييع مصالح المرضى بعدم القدرة على مواصلة العمل والاستمرار في الكشف عليهم، ومتابعة علاجهم، والقيام بالرعاية الطبية لهم، وكان ذلك متعيِّنًا عليه -بعدم وجود مَن يَحِلُّ مَحَلَّهُ-: وَجَبَ عليه الإفطار؛ رعايةً لحق المرضى، واستنقاذًا لهم من الهلكة، ووقايةً لغيرهم من العدوى؛ ارتكابًا لأخف الضررين، ووقوعًا في أهون المفسدتين.
وممَّا سبق يُعلَم الجواب عمَّا ورد بالسؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.