ما حكم العمل بمهنة الرسم والتكسب منها؟ حيث يوجد شخص يعمل بمهنة الرسم من وقت بعيد لاكتساب لقمة العيش ويسأل عن حكم عمله رسامًا، والكسب من العمل بهذه المهنة؟
الرسم من الفنون الجميلة التي لها أثرٌ طيبٌ في راحة النفوس والترويح، وقد أصبح الرسمُ أداةً مُهمَّةً في كثيرٍ من جوانب الحياة المعاصرة؛ من الناحية التعليمية، والطبية والتقنية، وغيرها؛ ممَّا يُشَكِّلُ أهميةً في بناء الحضارات الحديثة وتشييدها، وهو جائز شرعًا ما دام قد خَلَا من الموضوعات العارية أو تلك التي تثير الشهوة المحرمة.
ولا مانع شرعًا مِن الاشتـغال بمهنة الرسم والتكسب منها؛ سواء أكان الرسم من وحي خياله أم مستوحًى من الطبيعة، وحتى لو كان المرسومُ ذا روح من إنسانٍ أو حيوان.
المحتويات
خلق الله تعالى الإنسان بغريزةٍ يميل بها إلى المستلذاتِ والطيِّباتِ التي يجد لها أثرًا في نفسه، به يهدأ ويرتاح، وبه يَنْشَط، وتسكن جَوَارِحُه، فينشرح بالمناظر الجميلة؛ كالخضرة المنسَّقة، والماء الصافي، والوجه الحسن، والروائح الزكيَّة، وإن الشرائع عمومًا لا تقضي على الغرائز بل تُنَظّمُها وتُهَذِّبُها، والتوسط في الإسلام أصلٌ عظيم أشار إليه القرآن الكريم في كثيرٍ من الجزئيات؛ منها قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31]، وبهذا كانت شريعة الإسلام مُوَجِّهة الإنسان في مقتضيات الغريزة إلى الحدّ الوسط، فلم تأتِ لانتزاع الغريزة في حب المناظر الطيبة، وإنما جاءت بتهذيبها وتعديلها إلى ما لا ضرر فيه ولا شرَّ؛ كما قال فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في "الفتاوى" (ص: 375-385، ط. الإدارة الثقافية بالأزهر).
والرسم (Drawing): هو انتقاش على سطحٍ مُعيَّنٍ، يُستخدم للتعبير عن المشاهدات والخواطر، وكذلك للمفاهيم والأفكار، والعواطف والتخيلات التي تُعطي شكلًا مرئيًّا للرموز والأشكال المُجَرَّدة، باستخدام أدواتٍ مُعيَّنة؛ كالحبر، أو الطباشير، أو الفحم، أو الألوان، ونحو ذلك؛ كما أفادت الموسوعة البريطانية (Encyclopaedia Britannica).
وقد أصبح الرسم أداةً مُهمَّةً في كثيرٍ من جوانب الحياة المعاصرة؛ من الناحية التعليمية، والطبية والتقنية، والصناعية والعسكرية والأمنية والإعلامية؛ ممَّا يُشَكِّلُ أهميةً في بناء الحضارات الحديثة وتشييدها.
قد وردَ في السُّنَّة وآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، اتِّخاذ الصور المنقوشة على الأسطح أو على الوسائد والفُرُشِ أو الرَّقْم في الثَّوب، أو على الخواتم الملبوسة للزينة، أو نحو ذلك.
فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه يعوده قال: فوجدنا عنده سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال: فدعا أبو طلحة إنسانًا فنزع نمطًا تحته، فقال له سهل بن حنيف: لِمَ تنزعهُ؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد علمت، قال سهلٌ رضي الله عنه: أولم يقل: «إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ»؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي. أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، ومن طريقه: الترمذي في "السنن"، وأحمد في "المسند"، والنسائي في "المجتبى"، و"الكبرى"، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، وابن حبان في "الصحيح"، وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني بعد هذا الحديث من روايته لـ"الموطأ" (ص: 320، ط. المكتبة العلمية): [ما كان فيه من تصاوير من بساطٍ يبسط، أو فراش يفرش، أو وسادة: فلا بأس بذلك.. وهو قول أبي حنيفة، والعامَّة من فقهائنا] اهـ.
والحديث أصلُهُ متفقٌ عليه عند الشيخين من طريق الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ»، قال بسرٌ: ثم اشتكى زيد، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟! فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ»؟!
وهذا أيضًا مذهب عالم مصر ومفتيها: الإمام الليث بن سعد؛ كما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 302، ط. أوقاف المغرب)، وهو قول الإمام الخطابي فيما نقله عن الإمام البغوي في "شرح السنة" (12/ 133، ط. الكتاب الإسلامي).
وقد بوَّب سيدُ الحفاظ أبو بكر بن أبي شيبة في "مُصنَّفِهِ" بابًا أسماه: (الرجل يتكئ على المرافق المصوَّرة)، وذكر جملةً من الآثار عن كثير من السلف الصالح رضي الله عنهم (5/ 207-208، ط. مكتبة الرشد): [فعن ابنة سعد: "أن أباها جاء من فارس بوسائد فيها تماثيل، فكُنَّا نبسطها"..
وعن هشام بن عروة، عن أبيه: "أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل: الطير والرجال"..
وعن ابن عون قال: "دخلت على القاسم بن محمد وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير السندس والعنقاء"] اهـ.
قال حجة الإسلام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (2/ 340، ط. دار المعرفة): [وأما الصور التي على النمارق والزرابي المفروشة: فليس منكرًا] اهـ.
كما ورد استعمال السلف الصالح للصور المنقوشة (المرسومة) على الخواتم، بل أخرج معمر بن راشد في "جامعه" (10/ 394، ط. المجلس العلمي بباكستان): عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أنه أخرج خاتمًا، فزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتختَّمُ به، فيه تمثالُ أسدٍ. وذكره العلامة الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" تحت: (جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته وخصال الفطرة).
وأخرج معمر بن راشد في "جامعه" أيضًا (10/ 394-395): عن الجعفي "أن نقش خاتم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إما شجرة، وإما شيء من ذبابين"، وعن قتادة، عن أنس، أو أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "كان نقشَ خاتمه كركيٌّ -نوعٌ من الطيور- له رأسان".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 190) بلفظ: "كان نقشَ خاتم أنس رضي الله عنه أسدٌ رابضٌ حوله دراس".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/ 348، ط. المكتب الإسلامي، بيروت): عن قتادة بن دعامة السَّدوسي قال: كان نقشَ خاتم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أسدٌ بين رجلين.
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" أيضًا، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 266، ط. عالم الكتب): عن إبراهيم بن عطاء، عن أبيه قال: كان خاتم عمران بن حُصين رضي الله عنهما نقشه تمثال رجلٍ متقلدٍ سيفًا، قال إبراهيم: فرأيته أنا في خاتم عندنا في طين، فقال أبي: "هذا خاتم عمران".
وأخرج الطحاوي في "شرح الآثار"، وأبو القاسم المرزُبان في "معجم الصحابة" (2/ 23، ط. مكتبة دار البيان-الكويت): عن عبد الله بن يزيد قال: كان نقشَ خاتم حذيفة رضي الله عنه كركيان.
وأخرج الطحاوي في "شرح الآثار" (4/ 263): عن أم نافع بنت أبي الجعد، مولى النعمان بن مقرن رضي الله عنه، عن أبيها قال: "كان نقش خاتم النعمان بن مقرن إبلًا قابضًا إحدى يديه باسطًا الأخرى".
والصور الواردة المنقوشة على الخواتم دالَّةٌ على جواز رسمها؛ لأن النقش الـمُصوَّر إذا جاز اتخاذه في المنقوش عليه: جاز ما في طريقه من فعله ابتداءً، والخواتم المنقوش عليها وإن كانت تستعمل في الزينة، إلَّا أنها تتخذُ أيضًا للتختُّم بها، شأنها في ذلك شأن النقش عليها بالكتابة، وهو عبارةٌ عن طبع المنقوش في شيءٍ خارجيٍّ مُسطَّح، فهي نفس فكرة الرسم؛ كما أشار إلى ذلك الإمامُ الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 264).
أمَّا ما ورد من النهي عن اتخاذ الستائر المشتملة على الصور المنقوشة: من حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما قالت: "سترت سهوة لي -تعني الداخل- بستر فيه تصاوير، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هتكه، فجعلتُ منه مسندتين، فرأيتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا على إحداهما" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن ماجه في "السنن": فلم يكن لأجل التصاوير التي كانت عليها، بل كان لمعانٍ أخرى؛ كستر الجدار الـمُتَّخذ من الحجارة أو الطين بهذه الستائر، وتعلق القلب من خلالها بالدنيا.
فأمَّا تغطية الجدار:
فقد دلَّ عليه جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها حينما جُعلت وسائد يُتكأُ عليه، وهو ما صرَّحت به رواية أحمد في "المسند" بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَتَسْتُرِينَ الْجُدُرَ يَا عَائِشَةُ؟!»، ورواية مسلم في "الصحيح": «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ»، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "فقطعنا منه وسادتين وحَشَوْتُهُمَا لِيفًا، فلمْ يَعِبْ ذلكَ عَلَيَّ".
قال العلامة البدر العيني في "عمدة القاري" (22/ 73، ط. دار إحياء التراث العربي): [فهذا يدل على أنه استعمل ما عملت منها؛ وهما المرفقتان] اهـ.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين جذب النمط وأزاله: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ» يقتضي كراهة التنزيه لا التحريم؛ هذا هو الصحيح.. إذ ليس في هذا الحديث ما يقتضي تحريمه؛ لأنَّ حقيقة اللفظ: أن الله تعالى لم يأمرنا بذلك، وهذا يقتضي أنه ليس بواجبٍ ولا مندوبٍ، ولا يقتضي التحريم؛ كما في "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي (14/ 87، ط. دار إحياء التراث العربي).
وأمَّا تعلق القلب بالدنيا:
فقد دلَّ عليه رواية أحمد في "المسند": «يَا عَائِشَةُ، حَوِّلِيهِ؛ فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا»، فكأنَّ رؤيته هي أسبابٌ يتنعم بها الأغنياء مما تذهب بحلاوة قلوب الفقراء؛ وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131]؛ كما في "مرقاة المفاتيح" للعلامة القاري (9/ 76).
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/ 427، ط. الغرباء الأثرية): [وهذا إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله امتثالًا لما أمره الله به: ألَّا يَمُدَّ عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا، فكان يتباعد عنها بكل وجه.. وخصوصًا في حال عباداته ومناجاته لله، ووقوفه بين يديه واشتغاله بذكره، فإن ذلك كان هو قرة عينه] اهـ.
ومع ذلك: فإن هذين المعنيين اللذَين من أجلهما كانت الكراهة، غير حاصلين في اللوحات المرسومة (المنقوشة) الآن، حتَّى وإن عُلِّقَت على الْجُدُرِ ونحوها؛ لأن الأعراف قد تغيَّرت؛ فأصبحت الجدران تُكسَى بالستائر وتُطلَى بالألوان، وتُزخرَف بالكتابات ونحو ذلك؛ سواء أكانت في المساجد أم في البيوت، ولم تَعُد هي المُعَلِّقَة للقلوب والشاغلة لها عن الصلوات، بل إنَّ ما عليه الفتوى أنَّ زخرفة أماكن العبادة ونقشها؛ كالمساجد ونحوها، هو من تعظيمها وإعلاء شأنها؛ امتثالًا للأمر الشرعي برفعها وعمارتها وتشييدها كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: 18]، وهو أمرٌ جَرَى عليه عمل المسلمين منذ القرون الأولى، وتفنَّنُوا فيه، وذلك يتأكد في العصر الحاضر الذى صار النقش والتزيين فيه رمزًا للتقديس والتعظيم، والذي شيد الناس فيه بيوتهم ومنتدياتهم بكل غالٍ ونفيسٍ.
وأصبحت تُشيَّدُ المتاحف وتقامُ المعارض والمنتديات الخاصة وتُعقَدُ المسابقات لعرض اللوحات الفنية المرسومة (المنقوشة)، وصارت لها قيمة عالية في مختلف الأعراف والبلدان، بل أصبح الرسم قيمةً حضاريةً، وبُغيَةً مجتمعية، يتخصَّصُ فيه أشخاصٌ محدودون، واهتمت بذلك الدول المتحضِّرة، حتى أنشأت الكليات والمعاهد المتخصصة لهذا الغرض.
وعليه: فإذا انتفى الأمران اللذان تعلق بهما النهي؛ بأن أَمِنَ المصلي من الانشغال بهذه الرسوم في صلاته، ولم يتعلق قلبه بالدنيا بسببها: زالت علةُ النهي؛ لما تقرر في قواعد الفقه وأصوله أنَّ "الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا".
بناءً على ذلك: فالرسم من الفنون الجميلة التي لها أثرٌ طيبٌ في راحة النفوس والترويح، وهو جائز شرعًا ما دام قد خَلَا من الموضوعات العارية أو تلك التي تثير الشهوة المحرمة.
وفي واقعة السؤال: لا مانع شرعًا مِن اشتـغال السائل بمهنة الرسم والتكسب منها؛ سواء أكان الرسم من المخيِّلة أم مستوحًى من الطبيعة، وحتى لو كان المرسومُ ذا روح من إنسانٍ أو حيوان، شريطة ألَّا يشتمل شيءٌ من ذلك على ما نهى عنه الشرع؛ كَتِلْكَ الرسوم التي تثير الشهوات أو تُلهِب الغرائز المحرمة، أو يكون موضوع الرسم عورةً من العورات التي يأمر الدين والأخلاق والفطرة المستقيمة بسترها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.