الرد على من يقوم بتكفير من ينطق بالشهادتين دون معرفة معنيهما

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 20 ديسمبر 2015
  • رقم الفتوى: 5998

السؤال

 ما مدى صحة قول من يزعم أن من ينطق الشهادة دون معرفة معناها فإنه يُعدُّ كافرًا؟ ويقول أيضًا إن معناها موالاة أهلها ومعاداة مخالفها وقتاله؟

 مَن نطق بالشهادتين من غير معرفة حقيقة معنيهما أو العمل بمقتضاهما مسلمٌ لا يجوز تكفيره؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الشهادتين فقط من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام، ويَعْتَبِرُهُ مسلمًا، ومن يرمي عامة المسلمين بالكفر فهو مخالفٌ لما عليه عمل الأمة جيلًا بعد جيل، ومتلبس ببدعة غليظة شنيعة، وكلامه منبئ عن جهل مركب شديد، مع ما فيه من افتراء على الشرع والدين.

 يزعم المتطرفون أنَّ (لا إله إلا الله) هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وأنها لا تتحقق بمجرد اللسان مع الجهل بمعناها وعدم العمل بمقتضاها، وإنما تتحقق بقولها، ومعرفة معناها، ومحبتها، ومحبة أهلها، وموالاتهم، وبغض من خالفها، ومعاداته، وقتاله. فقد اعتبرت الجماعات المتطرفة أن الجهل بمعنى كلمة التوحيد لا يصححها، ولكن هذا يُتَصَوَّر مثلًا فيمن قالها ولغته غير العربية ولا يدري معنى ما يقول، أما التوسل بذلك إلى الزعم بأن عوام المسلمين يرددونها مع الجهل بالمعنى المخصوص الذي يدعو إليه هؤلاء؛ المشتمل على تفاصيل دقيقة بعضها حق وبعضها باطل، فهُم -أي: عوام المسلمين- بذلك لم يُحَقِّقُوا معنى كلمة التوحيد، فليسوا بمسلمين، بل هم كُفَّار وإن صَلُّوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون، كما هي العبارة التي دائمًا ما تتردد في أدبيات التكفيريين.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الشهادتين فقط من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام، ويعتبره مسلمًا، ويعصم دمه بذلك؛ وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذٍ.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل من الناس الإسلام، ثم يعلمهم مسائل الإيمان والحلال والحرام بعد ذلك؛ وقد روى الشيخان أنَّ وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن القَوْمُ؟ -أو مَن الوَفْدُ؟-» قالوا: ربيعة. قال: «مَرْحَبًا بالقَوْمِ، أو بالوَفْدِ، غير خَزَايَا ولا نَدَامَى»، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، فمُرْنا بأمرٍ فَصْل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة؛ فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال: «أَتَدْرُونَ مَا الإيمانُ بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شَهَادَةُ أن لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ الله، وَإِقَام الصَّلاة، وإيتَاء الزَّكَاةِ، وصِيام رَمَضَان، وأنْ تُعْطُوا من المغنم الخُمْسَ»، ونهاهم عن أربع: عن الحَنْتَم والدُّبَّاء والنَّقِير والمُزَفَّت، وربما قال: «المقير» وقال: «احْفَظُوهُنَّ، وأخْبِرُوا بهن مَن وَرَاءكُم».
وروى الشيخان عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيتُ رجلًا من الكفار فقاتَلَني، فضَرَب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مِنِّي بشجرة فقال: أسلمتُ لله؛ أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقْتُلْهُ». فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يديَّ ثم قال ذلك بعد أن قطعها؛ أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَته قَبْلَ أَنْ يَقُول كَلِمَته التي قَال».
قال ابن حبان في "صحيحه" معقبًا على الحديث (1/ 382، ط. مؤسسة الرسالة): [يريد به أنك تقتل قودًا؛ لأنه كان قبل أن أسلم حلال الدم، وإذا قتلته بعد إسلامه صرت بحالة تقتل مثله قودًا به، لا أن قتل المسلم يوجب كفرًا يخرج من الملة] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "شرح الأربعين النووية" المسمى بـ"جامع العلوم والحكم" (1/ 228، ط. مؤسسة الرسالة): [من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا] اهـ.
أما ما جاء على ألسنة أولئك المنحرفين من أن كلمة التوحيد لا تتحقق من غير العمل بمقتضاها، فهو غير مسَلَّم؛ لأن العمل خارج عن مسمى الإيمان وليس جزءًا منه، ولا شرطًا لصحته؛ فالإيمان هو التصديق الجازم -الذي فيه إذعان وقبول- بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما علم من الدين بالضرورة إجمالًا في الإجمالي، وتفصيلًا في التفصيلي. أما العملُ فشرطُ كمالٍ على ما هو المختار عند أهل السنة، فمن أتى بالعمل فقد حَصَّل الكمال، ومَن تركه فهو مؤمن، لكنه فوت على نفسه الكمال، إذا لم يكن مع ذلك استحلال أو عناد للشارع، أو شكٌّ في مشروعيته. انظر: "حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد" (ص: 92-94، ط. دار السلام).
ومما جعله هؤلاء المتطرفون مما لا تتحقق كلمة التوحيد إلا به: بغض من خالفها، ومعاداته، وقتاله، وهذا الكلام الفاسد يجريه التكفيريون من داعش وأخواتها في من لم يقل بمثل أقوالهم الخارجية في التوحيد والإيمان؛ لأنه حينئذٍ يُعَدُّ مخالفًا لمقتضى كلمة التوحيد في زعمهم، ثم لو سلمنا أن هذا في الكافر الأصلي، فمن أين أن قتاله من شروط التوحيد، وترك قتاله مخلٌّ به؟! هذا الكلام منبئ عن جهل مركب شديد، وصاحبه متلبس ببدعة غليظة شنيعة، مع ما فيه من افتراء على الشرع والدين.
والمقصود الأعظم هو هداية الخلق ودعاؤهم إلى التوحيد والإسلام، وتحصيل ذلك لهم ولأعقابهم إلى يوم القيامة، فلا يعدله شيء، فإن أمكن ذلك بالعلم والمناظرة وإزالة الشبهة فهو أفضل، وهو الآن أوضح مما كان قبل ذلك، وقتل الكافر ليس مقصودًا بالذات؛ لأنه تفويت نفس يُتَرَجَّى أن تؤمن وأن تخرج من صلبها من يؤمن، وقد قرر الإمام تقي الدين السبكي في "فتاويه" هذا المعنى بوضوح. انظرها: (2/ 340-341، ط. دار المعارف).
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة