ما حكم الشرع في التبرع بالأعضاء البشرية ونقلها من إنسان إلى آخر؟ وما الحكم في نقل شيء من أعضاء الإنسان الميت إلى الإنسان الحي؟
ما عليه الفتوى أنَّ التبرعَ بعضو أو بجزء من إنسان حي لإنسان آخر مثله جائز بشرط أن يُصَرِّح بذلك طبيب ثقة يُقَرِّر أن هذا لا يترتب عليه ضرر بالشخص المُتَبَرِّع، ويترتب عليه حياة الشخص المُتَبَرَّع له أو إنقاذه من مرض صعب، ويجوز كذلك نقل عضو من أعضاء الميت إلى جسم إنسان حي إذا كان هذا النقل يؤدي إلى منفعة الإنسان المنقول إليه هذا العضو منفعة ضرورية لا يوجد بديل لها، وأن يحكم بذلك الطبيبُ المتخصصُ الثقة.
المحتويات
عندما نتدبر آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم نراها قد كرَّمت ذات الإنسان التي تشمل روحه وجسده تكريمًا عظيمًا وشرفته تشريفًا كبيرًا، ومن مظاهر هذا التكريم والتشريف:
أ- إن الله تعالى قد صوَّر الإنسان في أحسن تقويم وفي أجمل صورة، واعتبر سبحانه ذلك نعمة كبرى من نعمه التي يجب أن يُشْكَرَ عليها؛ فقال تعالى في مفتتح سورة من سور كتابه: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 1-4]؛ أي: لقد خلقنا الإنسان في أكمل صورة وأجمل هيئة، ومَنَحْناه بعد ذلك ما لم نمنحه لغيره من بيان فصيح، ومن عقل راجح، ومن علم واسع، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه في هذه الحياة، وإذا فهذا التقويم البالغ غاية الحسن في تكوين خلق الإنسان وتكميل صورته وتحسين هيئته، ومظهر من مظاهر العناية الإلهية ببدن الإنسان وروحه، وشبيه بهذه الآيات في بيان أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان في أجمل صورة قوله تعالى في سورة الانفطار: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6-8].
ب- كذلك من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان أنه اعتبر جسمه أمانة ائتمنه الله تعالى عليها، فهو الذي خلقه فسوَّاه فعَدَله فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيه بما يَسُوؤُهُ أو يُردِيهِ حتى ولو كان هذا التصرف صادرًا من صاحب هذا الجسم نفسه؛ ولذا حرمت الأديان السماوية والقوانين الوضعية إتلاف البدن وإزهاق الروح عن طريق الانتحار أو ما يؤدي إليه، ومن الآيات القرآنية التي نهت الإنسان عن قتله لنفسه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 29-30].
أما الأحاديث الشريفة التي نهت عن قتل الإنسان لنفسه فهي كثيرة: ومنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ -أي ألقى بنفسه- فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا -أي شرب سُمًّا- فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بها –أي: يضرب بها نفسه- فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».
جـ- كذلك من مظاهر تكريم شريعة الإسلام للإنسان أنها أمرته أن يهتمَّ بإصلاح جسده ظاهرًا وباطنًا، وأن يستعملَ كلَّ وسائل العلاج التي تؤدي إلى شفائه من الأمراض، ومن الأحاديث الصحيحة التي وردت في الدعوة إلى التداوي من الأمراض ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»، وفي رواية لمسلم: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»؛ أي: فإذا نزل الدواء على الداء شفي المريض من مرضه بإذن الله.
وسُئِل صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي: أنتداوى يا رسول الله؟ قال: «نَعَمْ، تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً -أي لم يخلق مرضًا- إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الْهَرَمُ»؛ أي: الشيخوخة.
ما الذي يؤخذ من هذه النصوص؟
يؤخذ من هذه النصوص المتنوعة أن شريعة الإسلام قد كرَّمت الإنسان تكريمًا عظيمًا، وأمرت بالمحافظة عليه من كل ما يُهِْكُهُ أو يَسُوؤُهُ، ونهت عن قتله أو إنزال الأذى به إلا بالحقّ، وبَيَّنَت بكل صراحة ووضوح أن الإنسان لا يجوز له أن يتصرف في جسده تصرفًا يؤدي إلى إهلاكه أو إتلافه أو ضرره؛ لأن كل إنسان وإن كان صاحب إرادة بالنسبة لجسده إلا أن هذه الإرادة مقيدة بالحدود التي شرعها الله تعالى وبالنطاق المستفاد من قوله عز وجل: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ومن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].
اتفق المحققون من الفقهاء على أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع عضوًا من أعضاء جسده أيًّا كان هذا العضو؛ وذلك لأسباب متعددة أهمها:
أولًا: إن جسد الإنسان وما يتكون منه من أعضاء ليس محلًا للبيع والشراء وليس سلعة من السلع التي يصحُّ فيها التبادل التجاري، وإنما جسدُ الإنسان بناءٌ بناه الله تعالى وكرمه وسما به عن البيع والشراء وحرم المتاجرة فيه تحريمًا قاطعًا؛ لأن بيع الآدمي أو بيع جزء منه باطلٌ شرعًا؛ لكرامته بنص القرآن الكريم الذي يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وقد اتفق الفقهاء على بطلان البيع أو الشراء بالنسبة لبدن الإنسان أو لأيّ عضو من أعضائه.
ثانيًا: إن الإنسان ما هو إلا أمينٌ على هذا الجسد ومأمورٌ بأن يتصرَّف في هذه الأمانة بما يُصْلِحُها لا بما يُفْسِدُها، فإذا تجاوز الإنسان هذه الحدود وتصرف في جسده بما يتعارض مع إصلاحه كان خائنًا للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وكان تصرفه محرمًا وباطلًا؛ لأنه تصرَّف فيما ائْتُمِن عليه تصرفًا سيئًا بدليل قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، ويدل على رقة الدين وسفه العقل وحمق التفكير.
ثالثًا: لا يقال: إن من القواعد الشرعية القاعدة التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات"، وبناءً على ذلك يجوز للإنسان أن يتصرف في جسده عند الضرورة؛ لأنا نقول في الرد على هذا القيل: إن التصرف عند الضرورة إنما يكون في حدود ما أحلَّه الله، وفضلًا عن ذلك فإنَّ هذه القاعدة مقيدة بقواعد أخرى تضبطها، ومن هذه القواعد: "الضرر لا يُزَالُ بالضرر"؛ أي: إنه لا يجوز إزالة الضرر بضرر يشبهه أو يزيد عليه؛ ولذلك قالوا: لا يجوز للجائع مثلًا أن يأخذ طعام جائع مثله عن طريق السرقة أو ما يشبهها، كما أنه لا تُفْرَضُ نفقة على الفقير لقريبه، ومما لا شكَّ فيه أنَّ بيعَ عضو من أعضاء الجسد أيًّا كان هذا العضو يمثل ضررًا شديدًا لبدن الإنسان، وهذا الضرر يزيد على ما يتعرض له الإنسان من فاقة أو عسر أو احتياج؛ لأن هذا الاحتياج هناك وسائل تدفعه منها: مباشرة الأسباب المشروعة للحصول على الرزق.
قد يسأل سائل فيقول: إذا كان بيع الإنسان لعضو من أعضائه باطلًا ومحرمًا شرعًا؛ لأن جسد الإنسان وأعضاءه ليست محلًا للمتاجرة فيها، فهل الأمر كذلك بالنسبة للتبرع أو للهبة بأن يتبرع الإنسان بعضو من أعضائه لشخص آخر محتاج إليه؟
والجواب على ذلك:
إن بعض العلماء لا يفرق بين الحالتين، وإنما يرى أن كليهما غير جائز سواء أكان عن طريق البيع أم عن طريق التبرع؛ لأن التبرع إنما يكون فيما يملكه الإنسان، والمالك الحقيقي لجسد الإنسان هو الله سبحانه وتعالى، أما الإنسان فهو أمين على جسده فقط ومطلوب منه أن يحافظ عليه ممَّا يُهْلِكُهُ أو يؤذيه استجابة لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].
ويرى جمهور الفقهاء أن التبرعَ بعضو أو بجزء من إنسان حيّ لإنسان آخر مثله جائز بشروط من أهمها:
أن يُصَرِّحَ الطبيبُ أو الأطباءُ الثقات بأن نقل هذا العضو من شخص إلى آخر لا يترتب عليه ضررٌ بليغ بالشخص المُتَبَرِّع، وإنما يترتب عليه حياة الشخص المُتَبَرَّع له أو إنقاذه من مرض عضال.
ونحن نميل إلى هذا الرأي؛ لأن التبرع قلما يصدرُ عن الإنسان إلا في أشد حالات الضرورة، وقلما يكون إلا لشخص عزيز على هذا الإنسان المُتَبَرِّع؛ ولأن المُتَبَرِّع ما فعل ذلك إلا بقصد تقديم منفعة عظيمة لغيره مبتغيًا بها وجه الله تعالى، ولا يقال: إن جسد الإنسان ليس ملكًا له وإنما هو ملك لله تعالى، وما دام الأمر كذلك فلا يصحّ للإنسان أن يتصرف فيما لا يملكه بالبيع ولا بالتبرع؛ لأنا نقول: إن الكون كله ملك لله تعالى وليس جسد الإنسان وحده، ومع ذلك فقد أباح الله سبحانه للناس أن يتصرفوا فيما يملكه عز وجل بالطريق التي ترضيه، ولا شك أن فضيلة الإيثار ودفع الأذى عن الغير على رأس الفضائل التي يحبها الله عز وجل، ويكافئ أصحابها بما يستحقونه من ثواب جزيل.
هذا، ويدخل تحت هذه القاعدة وهي حرمة بيع شيء من أجزاء الإنسان ما يتعلق بالدم فإنه لا يجوز بيعه؛ لأنه باطل شرعًا، أما التبرع به فهو جائز؛ لأنه كما يقول أهل الخبرة من آثار الذات وليس من أعضائها بدليل أنه يتغيَّر ويتجدد، ويستعيض الإنسان ما فقده منه.
ننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى وهي: هل يجوز نقل شيء من أعضاء الإنسان الميت إلى الإنسان الحي للانتفاع بهذا العضو المنقول؟
وللإجابة على ذلك نقول: إن شريعة الإسلام قد كرمت جسد الإنسان حيًا وميتًا ونهت عن ابتذاله وتشويهه أو الاعتداء عليه بأي لون من ألوان الاعتداء، ومن مظاهر هذا التكريم الأمر بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ولقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعد الانتهاء من الغزو لا يترك جسد إنسان ملقى على الأرض سواء أكان لمسلم أم لغير مسلم، وقد حدث في غزوة بدر أن أمرَ صلى الله عليه وآله وسلم بدفن المشركين كما أمرَ بدفن شهداء المسلمين، وقال في حديثه الشريف: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا»؛ رواه أحمد في "المسند"، أبو داود وابن ماجه في "السنن"، وعبد الرزاق في "المصنف"، أي: إن عقوبة من يتعدى على جسد الميت كعقوبة من يتعدى على جسد الحي، ولذا قال بعض العلماء بحرمة التبرع بشيء من أجزاء الجسد لا في حال الحياة ولا في حال الوفاة؛ لأن الإنسان لا يملك التصرف في جسده لا في حياته ولا بعد الوفاة، وكذلك ورثته أو غيرهم لا يملكون ذلك، وأن الذي يملك التصرف في جسد الإنسان وذاته هو خالقه عز وجل.
ويرى جمهور الفقهاء أنه يجوز نقل عضو من أعضاء الميت إلى جسم إنسان حي إذا كان هذا النقل يؤدي إلى منفعة الإنسان المنقول إليه هذا العضو منفعة ضرورية لا يوجد بديل لها، وأن يحكم بذلك الطبيبُ المتخصصُ الثقة؛ لأن الأطباء هم سادة الموقف في أمثال هذه الحالات، وهم المسؤولون مسؤولية تامة عن تصرفاتهم أمام الله تعالى أولًا وأمام من يملك محاسبتهم على أعمالهم من رجال الطب أو القانون أو غيرهم، وهذا الرأي هو الذي نرجحه ونؤيده.
وإنما قلنا بجواز ذلك بناءً على القاعدة الفقهية المشهورة وهي: "إن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، والضرر الأشد هنا يتمثل في بقاء الإنسان الحي عرضة للمرض الشديد وللهلاك المتوقع، والضرر الأخف هنا يتمثل في أخذ شيء من أجزاء الميت لعلاج الإنسان الحي.
من كل ما تقدم من نصوص وأحكام نستخلص ما يأتي:
1- إن شريعة الإسلام قد كرمت جسد الإنسان حيًا وميتًا، وحرمت الاعتداء عليه أو على أيّ عضو من أعضائه.
2- إن بيع الإنسان لجزء من أجزاء جسده باطلٌ ومحرم شرعًا.
3- إن تبرع الحي بجزء من أجزاء جسده جائز عند جمهور الفقهاء، ولا فرق في ذلك بين الأقارب أو غيرهم ما دام هذا التبرع يقول بنفعه الأطباءُ الثقاتُ.
4- إن أخذ جزء من جسد الميت لإنقاذ حياة شخص آخر أو شفائه من مرض عضال جائز عند جمهور الفقهاء.
هذا وبالله التوفيق.
والله سبحانه وتعالى أعلم.