إذا كانت الزوجة مقصرة في بعض العبادات الشرعية كالحجاب والصلاة، فهل يحقّ لزوجها معاقبتها على ذلك بحرمانها من بعض النفقة الزوجية كنوع من التأديب، بدعوى أنَّ ترك العبادات من النشوز الموجب إسقاطَ النفقة؟
تقصير الزوجة في أداء حقوق الله تعالى كالصلاة والحجاب، من المعاصي التي تأثم عليها شرعًا، وذلك يقتضي من زوجها مداومةَ أمرها بهذه التكليفات الشرعية الواجبة عليها، والنصحَ لها، والصبرَ عليها، ولكنه لا يبيح له بحالٍ إسقاطَ نفقتها؛ فعصيانها بالتقصير فيما أوجبه الله عليها ليس مبررًا لعصيان الزوج بترك ما أوجبه الله عليه من النفقة عليها؛ إذ إن حَقَّهَا في النفقة لا يسقط إلا بنشوزها بتفويت حق الزوج الشرعي من جهتها بدون عذر لها في ذلك، والذي يقضي بذلك الجهات المختصة وليس الزوج.
المحتويات
أوجب الشرع الشريف على كل من الزوج والزوجة: حقوقًا لله تعالى، وحقوقًا متبادلة بينهما، وبمراعاة هذه الحقوق تقوى الرابطة الزوجية وتستقر الأسر؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228].
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 123، ط. دار الكتب): [أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: "إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها علي"] اهـ.
ومن حقوق الله تعالى عليهما: الامتثال لأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والنصح لله تعالى فيما بينهما؛ فعن تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلم في "الصحيح".
ولقد خص اللهُ تعالى الزوجَ بدرجةٍ جعله بها قائمًا على أمر زوجته ومسؤولًا عنها؛ فاستوجب ذلك مزيدَ حرصٍ منه على نجاتها وسعادتها في الآخرة، كما هو مسؤول عن حاجتها وسعادتها في الدنيا؛ قال تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228]، ويتحقق ذلك الحرص بنصحها وحَثِّهَا على الالتزام بحقوق الله تعالى عليها، كحرصه وحثه على الالتزام بحقوقه الزوجية عليها.
ومن حقوق الله تعالى على الزوجة: الامتثال لطاعته تعالى في كل أوامره والانتهاء عن نواهيه كما سبق، ويتضمن ذلك الامتثال لطاعة زوجها؛ إذ إن طاعته مما فرضه الله تعالى عليها، لا سيما إذا كان يدعوها لما به صلاح حالها ورضا ربها من التكاليف الشرعية.
ومن ذلك: الالتزام بما فرضه الله عليها من الحجاب الشرعي، الذي أناط الله تعالى بالزوج حَثَّهَا عليه وأَمْرَهَا به كسائر العبادات والفروض؛ أمْر حثٍّ ونُصح، لا أمْر قَهْرٍ وإكراه؛ لكونه في الأصل حقًّا لله تعالى؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]، والزوج بشأنه راعٍ ومسؤول عن الأمر به والصبر على ذلك كشأن سائر التكليفات من صلاة وغيرها؛ كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه.. -حتى قال- وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ» متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ومن حقوق الزوج على زوجته: دخولُها في طاعته، وسُكْنَاهَا في بيته، وألَّا تمنعه ما أثبته له الشرع من الحقوق الزوجية المقصودة بالعقد، وأن تصون نفسها عما قد يُدَنِّس شرفَها وشرفه، فإن تزوج الرجلُ امرأةً بعقد صحيح ولم تمنعه حقوقه الشرعية المقصودة بالنكاح وجب عليه إيفاؤها حقَّها من النفقة، ولا فرق في ذلك بين كونها غنيةً أو فقيرةً، مسلمةً أو كتابيةً.
قد اتفق الفقهاء على أن إسقاط نفقة الزوجة إنما هو مترتب على نشوزها، والمقصود بالنشوز هو: تفويت حق الزوج الشرعي من جهتها بدون عذر لها في ذلك.
قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (4/ 22، ط. دار الكتب العلمية): [ولا نفقة للناشزة؛ لفوات التسليم بمعنًى من جهتها وهو النشوز، والنشوز في النكاح: أن تمنع نفسها من الزوج بغير حق] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 559، ط. مكتبة الرياض): [ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها بشيء غير النشوز] اهـ.
وقال الإمام ابن المنذر الشافعي في "الإشراف على مذاهب العلماء" (5/ 154، ط. مكتبة مكة): [وقد اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات إذا كانوا جميعًا بالغين، إلا الناشز منهن الممتنعة؛ فنفقة الزوجة ثابتة في الكتاب، والسنة، والاتفاق] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (8/ 236، ط. مكتبة القاهرة): [(والناشز لا نفقة لها، فإن كان لها منه ولدٌ أعطاها نفقة ولدها) معنى النشوز: معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح.. فمتى امتنعت من فراشه، أو خرجت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها، أو من السفر معه؛ فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم؛ منهم الشعبي، وحماد، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأبو ثور، وقال الحكم: لها النفقة، وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا خالف هؤلاء إلا الحكم، ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها، فكذلك نفقتها.
ولنا: أن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها، بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه، وإذا منعها النفقة كان لها منعه التمكين، فإذا منعته التمكينَ كان له منعُها من النفقة كما قبل الدخول. وتخالف المهر؛ فإنه يجب بمجرد العقد، ولذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة] اهـ.
وهذا ما قرره العلامة قدري باشا في المادة (171) من "الأحوال الشخصية": أن نفقة الزوجة لا تسقط إلا بنشوزها.
وقال العلامة أحمد بك إبراهيم: [والأصل في ذلك: أن كل ما فوت الاحتباس لا من جهة الزوج: فإنه يسقط النفقة، وإلا فلا] اهـ نقلًا عن مقاله "نظام النفقات" المنشور في "مجلة المحاماة الشرعية"، السنة الأولى 1930م، العدد السابع.
وهذا هو المعمول به في القضاء المصري؛ إذ جاء في نص المادة (1) من قانون رقم 25 لسنة 1929م، المعدل بقانون رقم 100 لسنة 1985م: [ولا تجب النفقة للزوجة إذا ارتدت، أو امتنعت مختارة عن تسليم نفسها دون حق، أو اضطرت إلى ذلك بسبب ليس من قِبَلِ الزوج، أو خرجت دون إذن زوجها] اهـ.
فسقوط نفقة الزوجة على زوجها إنما يكون بتفويت حقه منها؛ لما في تفويتها حقَّه مع إلزامه بالنفقة عليها من الظلم له، وفتحٍ لباب الفساد وتفكُّك الأُسَر.
أما تفويت المرأة لحق الله تعالى؛ كتركها الصلاة أو الحجاب: فلا يوجب إسقاطَ نفقتها، ولا حرمانَها من حقوقها الشرعية، مع ما في فعلها من الإثم؛ إذ إن عصيانها بترك ما أوجبه الله عليها ليس مبررًا لعصيان زوجها بترك ما أوجبه الله عليه من النفقة عليها، وإنما يُوجب ذلك نُصحَها وعِظَتَها بإحسان.
فكما أن طاعة المرأة لله تعالى ليست من أسباب النفقة عليها، فكذلك عصياها لا يُعَدُّ سببًا لمنعها منها، ما دامت تفي بحقوق زوجها.
ومع اتفاق الفقهاء على أنه يجب على الزوج أمْرُ زوجته بحقوق الله تعالى كالصلاة والصوم وسائر العبادات، فقد نصوا على أنه لا يجوز له ضربها أو تعزيرها أو إسقاط نفقتها بتركها لها؛ لأن المنفعة في أدائها الفرائضَ تعود إليها لا إليه.
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (4/ 77-78، ط. دار الفكر): [(ويُعَزِّرُ الزوجُ زوجتَه) ولو صغيرة لما سيجيء (على تركِها الزينةَ) الشرعية مع قدرتها عليها (و) تركِها (غسل الجنابة، و) على (الخروج من المنزل) لو بغير حق (وترك الإجابة إلى الفراش) لو طاهرة من نحو حيض.. والضابطُ: كلُّ معصية لا حدَّ فيها فللزوج والمولى التعزير، وليس منه: ما لو طلبت نفقتها أو كسوتها وألحت؛ لأن لصاحب الحق مقالًا "بحر"، و(لا على ترك الصلاة)؛ لأن المنفعة لا تعود عليه، بل إليها] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (9/ 179-180، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وللزوج تعزير زوجته لحقه كالنشوز، لا لحق الله تعالى أي: الذي لا يبطل أو ينقص شيئًا من حقوقه كما هو ظاهر] اهـ.
فترك المرأة لحقوق الله تعالى يوجب على الزوج مداومة الأمر والنصح بهما، والصبر عليها في ذلك؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].
ولا يُعَدُّ تقصيرُها في حقوق الله تعالى من أسباب إسقاط حقها في النفقة الشرعية الواجبة عليه؛ إذ إن إسقاط نفقتها مع عدم تقصيرها في حق زوجها، مما يؤول إلى فساد الأسر وتفككها، وقد حث الشرع الزوج على الصبر؛ حفاظًا على استقرار الأسر واستمرارها.
هذا كله ما لم تكن معصية الزوجة مخلةً بشرف الزوج، أو داخلة في حد الفاحشة المبينة؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: 19].
بنـــاءً على ذلك: فإن تقصير الزوجة في أداء حقوق الله تعالى عليها كالصلاة والحجاب هو من المعاصي التي تأثم عليها شرعًا، وذلك يقتضي من زوجها مداومةَ أمرها بهذه التكليفات الشرعية الواجبة عليها، والنصحَ لها، والصبرَ عليها، ولكنه لا يبيح له بحالٍ إسقاطَ نفقتها؛ إذ إن حَقَّهَا في النفقة لا يسقط إلا بنشوزها بتفويت حق الزوج الشرعي من جهتها بدون عذر لها في ذلك، ويقضي بذلك الجهات المختصة لا بتقصيرها في حق الله تعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.