ما موقف الشريعة الإسلامية من الدولة المدنية؟
مجتمع الدولة المدنية الذي لا فرقة فيه ولا شتات، ويقوم على إقرار مبدأ التعايش بين أفراد الشعب بمختلف دياناتهم وطوائفهم، وينظمه دستورٌ يعطي كل ذي حقٍ حقه، ويلزم كل واحد بما يجب عليه: هو هذا المجتمع الذي أسسه الإسلام، وأرسى قواعده، ودعا البشرية إلى الالتزام به؛ كما بيَّنت ذلك "صحيفة المدينة" التي وضع بنودها رسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
دعا الإسلام إلى التعايش الديني مع جميع الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم، وانتماءاتهم وطوائفهم وأديانهم؛ حيثُ كانت الغاية الأساس من التنوع البشري والتعدد الإنساني هو التعارُف لا التناكر، والتكامل لا التصارع؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المجتمع المدني بناءً جديدًا، وأعاد صياغته بطريقة تقضي على الشتات والفُرقة وتُسرع في الجمع والوحدة؛ فكان إقرارُ مبدأ التعايش بين مختلف القبائل والفصائل والديانات والطوائف في الدولة الإسلامية الأُولى هو أحد أهم أهداف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقب هجرته إلى المدينة؛ ليضمَن تنظيم العلاقات بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين غيرهم من أصحاب الديانات والانتماءات الأخرى من جهة أخرى، في إطارٍ من التسامح الديني والحرية العقائدية في ممارسة الشعائر والطقوس الدينية؛ حيث تميز أهل المدينة وقتَها بالتنوع العرقي والقبلي والديني؛ فكان فيهم المسلمون، واليهود، والعرب المشركون، والمنافقون، وكان غالب المسلمين يتألفون من المهاجرين والأنصار، وكانت الأنصار من قبيلتين متنافستين: الأوس والخزرج.
ولتحقيق ذلك وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم "الدستور الإسلامي"، وأسَّس من خلاله مفهوم "المواطنة" الذي يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى أي انتماء ديني أو عرقي أو مذهبي أو أي اعتبار آخر، وأقام به منظومة التعايش والتسامح بين الانتماءات القبلية والعرقية والدينية، وسُمِّي "بصحيفة المدينة"، أقرَّ فيها الناس على أديانهم، وأنشأ بين المواطنين عقدًا اجتماعيًّا قوامه: التناصر، والتكافل، والمساواة، وحرية الاعتقاد، والتعايش السلمي، وغير ذلك.
وقد اشتمل هذا الدستور على بنود أهمها:
ــ مسئولية الجميع في الدفاع عن الدولة وحدودها ضد الأعداء؛ حيث تقول عن أطراف الوثيقة: "عليهم النصر والعون والنصح والتناصح والبر من دون الإثم".
ـــ الأمن الاجتماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة؛ حيث قال: "أنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى"، كما حفظ حق الجار في الأمن والحفاظ عليه كالمحافظة على النفس؛ حيث قال: "وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم".
ــ إقرار مبدأ المسئولية الفردية، وتبدأ هذه المسئولية من الإعلان عن النظام، وأخذ الموافقة عليه، وهو ما أكدته الوثيقة بقولها: "أنه لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم".
وبناءً على ذلك: فالمجتمع المدني الذي لا فرقة ولا شتات فيه، ويقوم على إقرار مبدأ التعايش بين مختلف الفصائل والديانات والطوائف، وينظمه دستورٌ يعطي كل ذي حقٍ حقه، ويلزم كل واحد بما يجب عليه هو هذا المجتمع الذي أسسه الإسلام، وأرسى قواعده ودعا البشرية إلى الالتزام به.
والله سبحانه وتعالى أعلم.