حكم حج مريض الزهايمر

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 05 سبتمبر 2021
  • رقم الفتوى: 5728

السؤال

 ما حكم الحج بالنسبة لمريض الزهايمر: هل تسقط عنه هذه الفريضة؟ أم أنه مطالبٌ بها؟

مريض الزهايمر إن كان مدركًا لغالب وقته فهو مُكَلّفٌ بأداء الفرائض ومنها الحج، وذلك مرتبط بالقدرة والاستطاعة، وقد يستخدم المصاب في هذه المرحلة بجانب العلاج بعض الوسائل المُعينة له على التذكر وإتمام العبادات؛ كالجهاز الإلكتروني.
وإن غلب المرض على عقله وكان غير مدرك لغالب وقته فهذه درجة من درجات زوال العقل والتي اتفق العلماء على أن المُصابَ بها تسقط عنه العبادات ومنها الحج، ولكن لو شفي من مرضه لزمه أداء الفرائض، فيجب عليه الحج إذا توافرت به باقي الشروط.
 

 الحج شعيرة إسلامية تشتمل على عبادات متعددة؛ منها البدنية: كالطواف والسعي والصلاة والصيام، ومنها المالية: كالنفقة والفدية والهدي، ومنها القولية: كالتلبية والذكر والدعاء، وقد أناط الله تعالى هذه العبادات بالاستطاعة؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» فقال رجل: "كل عام يا رسول الله؟" فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثم قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شيء فَدَعُوهُ» متفق عليه، واللفظ لمسلم.
والاستطاعة أمرٌ عامٌ، قد يتعلق بالمكلف في زاده وراحلته، وحله وترحاله، وقد يتعلق به من حيث التكليف، وهو سلامة الأسباب والآلات، ومن جملتها: الصحة التي تتضمن زوال الموانع البدنية والعقلية؛ من مرضٍ أو جنونٍ أو نسيانٍ أو نحو ذلك.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/121، ط. دار الكتب العلمية): [إنَّ الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج، والمراد منها استطاعة التكليف، وهي: سلامة الأسباب والآلات] اهـ.
وقال العلامة الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/490، ط. دار الفكر): [العبد والصبي والمجنون غير مستطيعين] اهـ.
وقال العلامة ابن الملقن الشافعي في "التوضيح" (11/21، ط. دار النوادر): [أخذ المهلب من حديث الباب ما نحا إليه مالك؛ فقال فيه: إن الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة.. فثبت أن الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكنت، وقال غيره: إنها في لسان العرب: القدرة، فإن جعلناها عمومًا في كل قادرٍ: جاز، سواء قدر ببدنه أو به وبماله أو بماله، إلا أن تقوم دلالة، وإن قلنا: إنَّ حقيقتها أن تكون صفة قائمة في المستطيع؛ كالقدرة والكلام والقيام والقعود فينبغي أن تكون الاستطاعة صفة فيه تخصه، وهذا لا يكون إلا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله] اهـ.
قال الإمام النووي في "المجموع" (7/20، ط. دار الفكر): [وأجمعت الأمة على أنه لا يجب الحج على المجنون]؛ وذلك لأن المجنون فاقدٌ للعقل الذي هو تمام الأهلية، وهو آلة الفهم ووسيلة الإدراك:
قال العلامة زين الدين بن قُطْلُوْبُغا في "خلاصة الأفكار" (ص: 179، ط. دار ابن حزم): [وتمام الأهلية الذي جعل منه مناط التكليف المعتبر فيها: العقلُ] اهـ.
فإذا طرأ على العقل مرضٌ أو عرَضٌ أفسد أثره وعطَّل فعله؛ بحيثُ سبّب له خللًا في أداء وظائفه الأساسية؛ كان لذلك أشد الأثر في سلب الأهلية وتغير الأحكام:
قال العلامة شمس الدين الفناري في "فصول البدائع" (1/323، ط. دار الكتب العلمية): [كالصغر: عارضٌ على أهلية وجوب الأداء؛ لأنها شأن العقل والبلوغ، بخلافهما، وكالجنون، والعَتَه، والنسيان، والإغماء؛ فإنها أمراض لخصوصياتها أثرٌ في سلب الأهلية أو تغيير كثير من الأحكام] اهـ.
وعوارض الأهلية: يدور معناها حول صلاحية الإنسان للوجوب والتكليف؛ فهي عبارة عن خصال أو آفات لها تأثير في الأحكام بالتغيير أو الإعدام، وهي تنقسم إلى: أهلية وجوب، وأهلية أداء.
أما أهلية الوجوب: فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معًا أو له فقط، ويعبَّر عنها "بأهلية الشخص للإلزام والالتزام".
وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية الإنسان لكون ما يصدر عنه معتبرًا شرعًا، فهي صفة تجعل المرء أهلًا للإيجاب والقبول والإنشاء وغيرها من الأعمال التي اشترط الشرعُ العقلَ لاعتبارها، ويتوقف على تلك الأهلية اعتبار التصرفات سواء كانت قولية أو فعلية، وهذه الأهلية قد يطرأ عليها ما يؤثِّر بالنقص أو الزوال؛ كالجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء، والجهل، والسكر، والخطأ، والإكراه، ونحو ذلك.
وهذه العوارض هي حالة من حالات ذهاب المحل، فإذا طرأ للعقل عارض أَثَّر على إدراكه بالنقصان أو الزوال: انعدم محل الحكم، لذلك رفع الشرع عن مريض العقل التكليفَ وأسقط عنه الخطاب.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» رواه أبو داود والنسائي والدارقطني في "سننهم"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم في "المستدرك"، وصححه.
قال أبو داود: رواه ابنُ جُريجٍ عن القاسم بن يزيد، عن عليٍّ رضي الله عنه، زادَ فيه: «والخَرِفِ».
وفي روايةٍ: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ» أخرجه أبو داود في "السنن"، والطيالسي وأحمد وأبو يعلى والشاشي في "مسانيدهم"، من حديث عليِّ بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية: «وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ» أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق أبي ظبيان.
وفي رواية: «وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ» أخرجه ابن الجارود في "المنتقى"، وابن ماجه والبيهقي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية: «وَعَنِ المُصَابِ حَتَّى يُكشَف عَنهُ»، أخرجه أحمد في "مسنده" من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وصحح إسنادَه ابن الجزري في "مناقب الأسد الغالب".
قال الإمام تقي الدين السبكي في "إبراز الحكم" (ص: 98، ط. دار البشائر): [وهذه الألفاظ كلها متقاربة أو متوافقة، والمجنون والمعتوه واحد هنا، وإن كان اللغويون أطلقوا أن المعتوه: الناقص العقل، والمراد بنقص العقل: نقصانه عن أهلية الخطاب، وذلك هو الجنون] اهـ.
وهذه الأوصاف لا يتعلق الخطاب التكليفي بصاحبها بالإجماع؛ قال العلامة المغربي في "البدر التمام شرح بلوغ المرام" (8/79، ط. هجر): [والحديث فيه دلالة على أن الثلاثة لا يتعلق بهم الخطاب التكليفي، وهذا مجمعٌ عليه] اهـ.
وقد نص العلماء على أن قدر العقل المقتضي للتكليف: هو ما يستطيعُ معه صاحبه أن يُميِّز بين الحَسَنِ والقبيح، وبين المنافع والمضار، والكمال والنقصان، فمن كان هذا وصفه: حُكم عليه بأنه عاقل مُكَلَّف، فإن انتفى عنه هذا المقتضي انتفت صفة التكليف في حقه؛ فلا يُحكمُ على صاحبه بأنه مكلَّف.
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (2/422، ط. دار إحياء التراث العربي): [العقل: هو العلم بصفات الأشياء؛ من حُسنها وقُبحها، وكمالها ونقصانها، فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع: صار علمك بما في الشيء من النفع داعيًا لك إلى الفعل، وعلمك بما فيه من الضرر داعيًا لك إلى الترك، فصار ذلك العلم مانعًا من الفعل مرة ومن الترك أخرى، فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (2/63، ط. دار الكتبي): [قال القاضي أبو يعلى: ومقدار العقل المقتضي للتكليف أن يكون مميزًا بين المضار والمنافع، ويصح منه أن يستدل ويستشهد على ما لم يعلم باضطرار، فمن كان هذا وصفه كان عاقلًا، وإلا فلا] اهـ.
وكون مريض العقل مغلوبًا على عقله لا يستلزم زوال عقله بالكلية؛ بل إن عقله حاصلٌ، غير أنه عرضَ له ما أفسده وعطَّل أثره؛ ولذلك كان من شروط التكليف فهم الخِطاب:
قال الإمام نجم الدين الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/180، ط. مؤسسة الرسالة): [من شروط المكلف: العقل، وفهم الخطاب، أي: يكون عاقلًا يفهم الخطاب، ولا بد منهما جميعًا؛ إذ لا يلزم من العقل فهم الخطاب، لجواز أن يكون عاقلًا لا يفهم الخطاب؛ كالصبي، والناسي، والسكران، والمغمى عليه، فإنهم في حكم العقلاء مطلقًا، أو من بعض الوجوه، وهما لا يفهمان] اهــ.
والخِصال الواردة في الأحاديث وإن تعددت صُوَرُها إلَّا أنها ترجع إلى ثلاثة أوصاف لا يتعلق بأصحابها الخطاب التكليفي؛ قال الإمام السبكي في "إبراز الحكم" (ص: 97-98): [والمعنى واحد، وهم ثلاثة في كل رواية.. ولا يفوت الحصر بذلك إذا نظرنا إلى المعنى؛ فهم في الصورة خمسة؛ الصبي، والنائم، والمغمى عليه، والمجنون، والخَرِف، وفي المعنى ثلاثة] اهـ.
ويدخل في معنى هذه الخصال غيرها؛ كدخول المُغمى عليه في معنى النائم، والخرف والعته في الجنون؛ بل قِيس على المجنون كلُّ من زال عقله بسبب يُعذَرُ فيه، سواء قل زمنه أو طال:
قال العلامة ابن الرفعة في "كفاية النبيه في شرح التنبيه" (2/299، ط. دار الكتب العلمية): [من زال عقله بجنونٍ أو مرضٍ لا تجب عليه (أي: الصلاة) أيضًا، أما الجنون: فللخبر، وأما من زال عقله بمرضٍ؛ كالمغمى عليه، والـمُبَرْسَم -وهو التهاب في الحجاب بين الكبد والقلب-، ونحوهما: فلأنه في معناه؛ فألحق به] اهـ.
وقال الإمام السبكي في "إبراز الحكم" (ص: 98): [وأما سقوط التكليف عن الخَرِف الذي زال عقله: فلا شك فيه، وإن كان الحديث الوارد فيه منقطعًا؛ لأنَّ القاسم لم يدرك عليًّا، لكنه في معنى المجنون، كما أن المغمى عليه في معنى النائم] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/314، ط. دار الكتب العلمية): [فورد النص في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواء قلَّ زمن ذلك أو طال] اهـ.
كما قال الإمام مظهر الدين المظهري في "المفاتيح في شرح المصابيح" (4/103، ط. دار النوادر): [و(المغلوب على عقله) عامٌّ بين السكران، والمجنون، والنائم، والمريض الذي زال عقلُهُ بالمرض، والمُغْمَى عليه] اهـ.
ومرض الزهايمر (Alzhemier) وصف يجمع تحته مراتب متفاوتة؛ فهو في الأصل: عبارة عن ضمور في خلايا المخ يؤدي إلى انخفاضٍ في الذاكرة والقدرات العقلية، ينتج عنه انخفاضٌ مستمرٌّ في التفكير والمهارات السلوكية والاجتماعية.
وهذا المرض هو أشْيَعُ أسباب الخَرَف؛ حيث يساهم في حدوث 60% إلى 70% من حالات الخَرف؛ إذ الخرفُ يحدث بسبب مجموعة مختلفة من الأمراض والإصابات التي تلحق بالدماغ؛ كالزهايمر، والسكتة الدماغية، والخَرَف الوعائي، والخَرَف الجبهي أو الصدغي، والخَرَف المصحوب بأجسام ليوي (Lewy)، ويتم التمييز بينها عن طريف فحص وظائف الدماغ؛ كاختبارات الوظائف الإدراكية، والأشعة، ونحو ذلك، ومن الممكن أن يُصاب الإنسان بمزيج منها في آنٍ واحد؛ كما أفادته منظمة الصحة العالمية (WHO) على موقعها الرسمي، وأفادت أيضًا أن مرض الزهايمر يمر بثلاث مراحل؛ تظهر فيها الأعراض بشكل تدريجي:
المرحلة الأولى: تقل فيها حيوية المريض، وتضعف ذاكرته، فتظهر فيها بعض أعراض النسيان، ويقلَّ عنده إدراك الوقت، وتحدثُ له حالة من التوهان واللامُبالاة لما يحدث حوله.
والمرحلة الوسطى: يكثر فيها نسيان الأحداث والأسماء الحديثة، والتِيه في الأماكن المألوفة حتى في البيت، وتغيّر السلوك، وتراجع القدرة على الفهم مما يؤدي إلى صعوبة التواصل مع الغير، وطرح الأسئلة المتكرّرة، والتوقف في أواسط الكلام، وعدم إتمام العبارات، وفي هذه المرحلة يحتاج المريض إلى درجة كبيرة من المساعدة والاعتناء به.
والمرحلة المتقدمة: ويتم فيها اعتماد المُصاب بشكل كلي على الغير، ويصاحبه انعدامٌ في النشاط، واضطرابٌ شديد في إدراك الزمان والمكان، وصعوبة بالغة في التعرّف على الأقرباء والأصدقاء، والحاجة المُلحَة إلى المساعدة في الاعتناء بالذات، مع صعوبة المشي، وتغيّر السلوك الذي قد يتفاقم ليصبح عدوانيًّا.
وأفادت الُمنَظَّمَة أيضًا أن هذا المرض وإن كان يُصيب المُسنِّينَ بالدرجة الأولى، ويُفقدهم استقلاليتهم، إلَّا أنه لا يُعَدُّ جزءًا طبَعيًّا من الشيخوخة وطول العمر.
وبالرغم من أنَّ المراحلَ الثلاثة تشترك في معنى النسيان والتِيه ونقص الإدراك، إلَّا أنَّ هذه المراحل تتفاوت فيما بينها من حيثُ درجة المرض ومراتب الإدراك والقدرة على التحكم في الذات.
فالمرحلةُ الأولى: قد يستطيع معها المريض إنجاز كثير من مهامه وواجباته ومتطلباته، ومنها العبادات البدنية؛ كالصلاة والصيام ونحوهما، فإذا استطاع المريض القيام بأداء العبادة: وجب عليه أداؤها؛ بناءً على القاعدة الشرعية: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وهي "من أشهر القواعد المستنبطة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»"؛ كما يقول التاج السبكي في "الأشباه والنظائر" (1/155، ط. دار الكتب العلمية)، وقد يستخدم المصاب بجانب العلاج والأدوية بعض الوسائل المُعينة له على التذكر وإتمام العبادات.
أما المرحلتان الثانية والثالثة: فيغلب فيها المرض على عقلِ المُصاب؛ فيضطرب إدراكُهُ ويختلُّ فِعْلَهُ، وهي بذلك تُعَدُّ درجة من درجات زوال العقل؛ كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه -فيما نقله عنه صاحب "البيان" (2/12، ط. دار المنهاج)-: [أقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا؛ فيعزب عنه الشيء وإن قلَّ، ثم يثوب إليه عقله] اهـ.
فيدخل المريض في الحالتين في معنى الأوصاف الواردة في الأحاديث، والمقتضية رفع التكليف عن صاحبها، وقد نص العلماء على أن كل حالة تنافي العلم بتوجيه الخِطاب تنافي تحقيق التكليف؛ لأن من شرط تعلق الخطاب إمكانَ فهمه:
قال إمام الحرمين الجويني في "التلخيص في أصول الفقه" (1/135، ط. دار البشائر): [ما صار إليه المحققون: خروج النائم، والمجنون، والمغلوب على عقله، والسكران الخارج عن حد التمييز عن قضية التكليف، والجملة في ذلك: أن كل حالة تنافي العلم بتوجيه الأمر تنافي تحقيق التكليف] اهـ.
ويدخل ضمن رفع التكليف عن مريض الزهايمر في الحالتين؛ الثانية والثالثة: الحج؛ فقد نصَّ العلماء على أن مريض العقل لا تلزمه العبادات إلَّا إذا أفاق، وحكمه في ذلك حكم الصبي الذي لم يبلغ، تقع منه العبادة تطوعًا، بل هو أشدُّ حالًا من الصبي ومنها فريضة الحج، وقد حكى العلماء الإجماع على أن فاقد العقل ليس عليه حجٌّ:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/120، ط. دار الكتب العلمية): [وأما شرائط فرضيته فنوعان: نوعٌ يعم الرجال والنساء، ونوع يخص النساء، أما الذي يعمُّ الرجال والنساء فمنها: البلوغ، ومنها العقل: فلا حج على الصبي والمجنون؛ لأنه لا خطاب عليهما، فلا يلزمهما الحجُّ حتى لو حجَّا، ثم بلغ الصبي وأفاق المجنون: فعليهما حجة الإسلام، وما فعله الصبي قبل البلوغ يكون تطوعًا] اهـ. وقال في (2/160): [فلا يجوز أداء الحج من المجنون والصبي الذي لا يعقل، كما لا يجب عليهما] اهـ، وقال في (2/125): [(بخلاف العبد، والصبي، والمجنون: فإن العبد والصبي ليسا من أهل فرض الحج، والمجنون ليس من أهل العبادة أصلًا، والله أعلم] اهـ.
وقال العلامة برهان الدين بن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/481، ط. دار الكتب العلمية): [إن كان يعقل الأداء بنفسه –أي الصبي- يقضي المناسك كلها يفعل مثل ما يفعله البالغ.. ولو تركه لا يعاقب عليه.. فهو الجواب في المجنون؛ لأن المجنون أشد حالًا من الصبي] اهـ.
وقال الإمام ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" (ص: 86): [أما شروط وجوبه: فهي البلوغ، والعقل، اتفاقًا] اهـ.
وقال العلامة الحطاب الرعيني المالكي في "مواهب الجليل" (2/475، ط. دار الفكر): [حكى ابن عرفة عن الباجي أن العقل شرط في صحته أيضًا.. ووقع في كلام بعض شارحي الموطأِ من المتأخرين أن الحج لا يصح من المجنون؛ نفلًا ولا فرضًا] اهـ.
وقال الشيخ الشيرازي الشافعي في "المهذَّب" (1/359، ط. دار الكتب): [وأما المجنون: فلا يصح منه؛ لأنه ليس من أهل العبادات، فلم يصح حجه، ولا يجب عليه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفيق»] اهـ. قال الإمام النووي في شرحه عليه (7/20): [وأجمعت الأمة على أنه لا يجب الحج على المجنون] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "منهاج السنة النبوية" (6/49، ط. جامعة محمد بن سعود): [اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية؛ كالصلاة والصيام والحج] اهـ.
ويقاس على المجنون والمُغمى عليه -كما ذكرنا- كل من زال عقله بسببٍ يعذر فيه، قلَّ زمنه أو طال؛ قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/314، ط. دار الكتب العلمية): [ورد النص في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواء قل زمن ذلك أو طال] اهـ.
وبناء على ذلك: فإنَّ مريض الزهايمر يمر بمراحل ثلاث تظهر فيها الأعراض بشكل تدريجي؛ وهي وإن اشتركت في معنى النسيان والتِّيه ونقص الإدراك إلَّا أنها تتفاوت في درجة المرض، ومراتب الإدراك، والقدرة على التحكم في الذات.
والمرحلة الأولى منها: يتعلق بها الحكم التكليفي في أداء الحج، غير أن الحكم فيها منوطٌ بالقدرة والاستطاعة، لما تقرر أن "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وقد يستخدم المصاب بجانب العلاج بعض الوسائل المُعينة له على التذكر وإتمام العبادات.
أما الحالتان الثانية والثالثة: فتدخلان تحت الأمراض العقلية التي تغلب العقل فتفسد أثره، والتي اتفق العلماء على أن المُصابَ بها لا يلزمه أداء العبادات إلَّا إذا أفاق، ومنها فريضة الحج، فإذا برئ تعلق به التكليف ولزمه الخطاب، فتجب عليه الفريضة، والنص وإن ورد في المجنون إلَّا أنه يدخل في معناه كلُّ مَن زال عقلُهُ بسببٍ يعذر فيه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة