ما حكم الدفن فيما يسمى بالفساقي (المقابر المعروفة في مصر، والتي تسمى بالعيون)؟
الدفن في الفساقي (وهي المقابر المعروفة في مصر والتي تُسمَّى بالعيون) بحيث تكون محكمة الإغلاق دفنٌ شرعيٌّ صحيحٌ جرى عليه عمل الناس، وأَقَرَّهُ المُحَقِّقُون مِن العلماء، ولا حرج فيه شرعًا، مع مراعاة عدم فتح القبر على الميت لإدخال ميتٍ آخر قبل بِلَاه -أي: فَناء جسده-، إلَّا إذا لم يكن للميت الآخر مدفنٌ آخر غيره.
الفساقي: جمع فَسْقِيَّة، وهي حجرةٌ صغيرةٌ مبنيةٌ تحت الأرض تَسَعُ الميت ودافنيه، وقد تكون فوق الأرض أيضًا، وإنما يُلجَأ إليها في الأراضي المجاورة للأنهار والتي تكثر فيها المياه الجوفية؛ لرطوبة الأرض ورخاوتها، وهي منتشرةٌ في الديار المصرية وغيرها منذ زمنٍ بعيد.
فإذا كانت الفساقي فوق الأرض مِن غير حَفرٍ فلا يجزئ في الدفن أن يوضع الميت فيها، إلَّا إذا كانت الأرض رخوةً لا تحتمل الحفر، فإنها تجزئ حينئذٍ ولا يكلَّف الناسُ بالدفن في غيرها.
قال العلامة الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (3/ 4، ط. دار الفكر): [وعُلِمَ مِن قوله: (حفرة) عدمُ الاكتفاء بوضعه على وجه الأرض والبناء عليه بما يمنع ذينك (أي الرائحة والسبع)، نعم، لو تعذر الحفرُ لم يُشتَرَط؛ كما لو مات بسفينة والساحل بعيد، أو به مانع، فيجب غسله وتكفينه والصلاة عليه، ثم يجعل بين لوحين لئلا ينتفخ] اهـ. قال العلامة علي الشَّبْرامَلِّسي في "حاشيته" عليه: [(قوله: كما لو مات بسفينة) أي أو كانت الأرض خوارة أو ينبع منها ما يفسد الميت وأكفانه كالفساقي المعروفة ببولاق ولا يُكَلَّفُون الدفنَ بغيرها] اهـ. ونقله الشيخ الجمل في حاشيته "فتوحات الوهاب" (2/ 195. ط. دار الفكر) مُقِرًّا له.
أما إن كانت الفساقي تحت الأرض -كما هو الشائع- فالعلماء متفقون على أن الدفن فيها مجزئٌ في حالة الحاجة والاضطرار، وأما في حالة الاختيار فقد نُقِل عنهم الخلافُ في جواز الدفن فيها، والتحقيق أنها إن كانت مُحكَمةَ الإغلاق تمنع الرائحة والسبع فإنَّ الدفن فيها مجزئٌ أيضًا، وأنها داخلة في مسمَّى القبر الشرعي الذي يُكلَّف بالدفن فيه، وهذا هو المفتَى به، وهو ما عليه العمل في الديار المصرية منذ زمنٍ بعيد.
وهذه الفساقي لم تكن في أول الأمر مُحكَمةَ الإغلاق؛ فكانت تظهر منها رائحة الموتى، على ما فيها مِن فتح القبر على الميت قبل بِلاهُ لإدخال ميتٍ آخر عليه، واختلاط الرجال بالنساء في المدفن، وأنها ليست على هيئة الدفن المعهود شرعًا؛ وهذا ما دعا جماعةً مِن العلماء كَابْنِ الصلاح والتقي السبكي والأذرعي مِن الشافعية والكمال بن الهمام مِن الحنفية إلى الفتوى بعدم جواز الدفن فيها، وأنها غير مجزئةٍ شرعًا.
ومِن العلماء مَن جعل الدفن فيها نوعًا مِن التساهل الذي جَرَت به العادة في إشارة إلى أن عموم البلوى به يقتضي رفع الحرج عنه للحاجة، كما يقول العلامة الشيخ محمد عليش المالكي في "منح الجليل على مختصر العلامة خليل" (1/ 501. ط. دار الفكر): [وإن دُفِن بلا لحدٍ ولا شَقٍّ -كتُرَب مصر- أُسنِد بالتراب مِن خلفه وأمامه؛ لِئَلَّا ينقلب على وجهه أو على ظهره، وهذا ليس دفنًا شرعيًّا وإن جَرَت به العادة في مصر ونحوها تساهلًا] اهـ.
غير أن المعتمد عند الشافعية -كما نص عليه العلامة ابن قاسم والشمس الرملي والبجيرمي والجمل وغيرهم- أن هذه الفساقي إن مَنَعَت الرائحةَ والسَّبُعَ فإنه يصدق عليها اسم القبر ويجوز الدفن فيها شرعًا، وهو الذي اعتمده العلامة الطحطاوي مِن الحنفية أيضًا في قرافة مصر.
والجواب عن حُجَج المانعين كما يأتي:
1- أن ضابط الدفن الشرعي: كونُ القبر حفرةً تَمنع الرائحة والسَّبُع، وهذا متحقِّقٌ في الفساقي المحكَمة الإغلاق، وليس كونها على خلاف الدفن المعهود مبررًا لِمَنع الدفن فيها ما دامت قد تحقق فيها ضابط الدفن الشرعي وحكمته.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 324، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وأقل الواجب) في المدفن (حفرة تصون جسمه عن السباع) غالبًا (ورائحته) قال الرافعي: والغرض مِن ذكرهما إن كانا متلازمين بيان فائدة الدفن وإلَّا فبيان وجوب رعايتهما، فلا يكفي أحدهما، وظاهر أنهما ليسا بمتلازمين؛ كالفساقي التي لا تكتم الرائحة مع منعها الوحش فلا يكفي الدفن فيها، وقد قال السبكي: في الاكتفاء بالفساقي نَظَرٌ؛ لأنها ليست مُعَدَّةً لكتم الرائحة؛ ولأنها ليست على هيئة الدفن المعهود شرعًا، قال: وقد أطلقوا تحريم إدخال ميتٍ على ميتٍ لما فيه مِن هتك حُرمة الأول وظهور رائحته، فيجب إنكار ذلك] اهـ.
وفي "حاشية العلامة الشهاب الرملي" عليه: [(قوله: وأقل الواجب حفرة إلخ) قال الأذرعي: يؤخذ مِن قوله حفرة أنه لا يكفي ما يصنع بالشام وغيره من عقد أزج واسع أو مقتصد شبه بيت؛ لأنه لا يمنع سبعًا ولا نباشًا مع مخالفة الحديث وإجماع السلف، وحقيقته بيت تحت الأرض، فهو كوضعه في غار ونحوه وسد بابه وليس هذا بدفنٍ قطعًا. اهـ. (وقوله: قال الأذرعي إلخ) أشار شيخنا (يعني العلامة الشمس الرملي) إلى تضعيفه] اهـ.
وقال العلامة الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (3/ 3-4) بعد أن نقل كلام الإمام السبكي السابق: [ومعلوم أن ضابط الدفن الشرعي ما مَرَّ، فإن منع ذلك كفى، وإلَّا فلا سواء أكان فسقيةً أم غيرها] اهـ.
وقال الشيخ البجيرمي الشافعي في "حاشيته" على "الإقناع" المسمَّاة "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (2/ 279. ط. دار الفكر): [والضابط للدفن الشرعي: ما يمنع الرائحة والسبع، سواء كان فسقية أو غيرها، خلافًا لِمَن منع الدفن في الفسقية. اهـ. شرح م ر] اهـ.
ولا ينافيه ما نقله عن العلامة البرماوي بعد ذلك (2/ 308) في قوله: [وما اعتيد مِن الدفن في الفساقي المعروفة فحرام؛ لِمَا فيه مِن إدخال ميتٍ على ميتٍ آخر] اهـ؛ إذ كلامه في الجمع بين الأموات وإدخال بعضهم على بعضٍ مِن غير ضرورةٍ، لا في مجرد الدفن في الفساقي.
وقال الشيخ الجمل في حاشيته "فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب" (2/ 195): [(قوله: إن كانا متلازمين -أي منع الرائحة والسَّبُع- إلخ) قال شيخنا: وظاهر أنهما ليسا متلازمين كالفساقي التي لا تكتم الرائحة مع منعها السبع فلا يكفي الدفن فيها، فإن منعت ذلك اكتُفِيَ به؛ لوجود ضابط الدفن. اهـ.] اهـ.
2- أن الفسقية حفرةٌ تحت الأرض، وبناؤها لا يزيل اسم الحفرة عنها، مع اتفاقهم على جواز البناء إذا دعت الحاجة إليه.
قال العلامة ابن قاسم العبادي الشافعي في "حاشيته" على "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 167): [(قوله في المتن: حفرة تمنع إلخ) الحفرة المذكورة صادقة مع بنائها، فحيث منعت ما ذُكِر كَفَتْ؛ فالفساقي إن كانت بناءً في حفر كفت إن منعت ما ذكر، وإلَّا فلا، خلافًا لإطلاق ما يأتي] اهـ.
ونقل كلامَه الشيخُ الشرواني في "حاشيته على التحفة" أيضًا وأقره.
ونقل الشيخ الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (2/ 60) عن الشيخ أبي بكر محمد بن الفضل البخاري: [وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يقول: لا بأس بالآجُرِّ في ديارنا لرخاوة الأراضي، وكان أيضًا يجوِّز دفوف الخشب واتخاذ التابوت للميت حتى قال: لو اتخذوا تابوتًا من حديد لم أرَ به بأسًا في هذه الديار] اهـ.
وقال الإمام ابن الحاج المالكي في "المدخل" (3/ 264، ط. دار التراث): [والدفن في التابوت جائزٌ لا سيما في الأرض الرخوة] اهـ.
3- أن تعدد الموتى وكذلك اختلاط الرجال بالنساء في مدفنٍ واحدٍ جائزٌ للضرورة، مع مراعاة وضع حاجزٍ بين الأموات، وأنه لا يجوز أن يُفتَح القبر على الميت قبل بِلاه لدفن ميتٍ آخر إلَّا إذا لم يكن لذلك الميت مدفنٌ آخر.
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (2/ 209): [وفي "فتح القدير": ويكره الدفن في الأماكن التي تسمى فساقي. اهـ. وهي مِن وجوه؛ الأول: عدم اللحد، الثاني: دفن الجماعة في قبر واحد لغير ضرورة، الثالث: اختلاط الرجال بالنساء مِن غير حاجزٍ كما هو الواقع في كثيرٍ منها، الرابع: تجصيصها والبناء عليها] اهـ.
وقد أجاب الشيخ الطحطاوي الحنفي (ت1231هـ) عن هذه الوجوه في "حاشيته" على "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" ص:(336) بقوله: [إلَّا أن في نحو قرافة مصر لا يتأتى اللَّحد، ودفنُ الجماعة لتحقق الضرورة، وأما البناء فقد تقدم الاختلاف فيه، وأما الاختلاط فللضرورة، فإذا فُعِل الحاجزُ بين الأموات فلا كراهة، وصَرَّح المُصَنِّفُ بعدُ بجواز دفن المتعددين في قبرٍ واحدٍ للضرورة] اهـ.
4- أن سعة الفساقي المبنية تحت الأرض لا تخرجها عن كونها قبورًا شرعية؛ لأن مِن السُّنة توسيع القبر، حتى صرح بعض الفقهاء كالحنابلة بأنه لا حَدَّ لِسَعَة القبر.
قال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 135-136): [(وسُنَّ أن يُعَمَّق) قبرٌ (ويُوَسَّع قبرٌ بلا حدٍّ)؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في قتلى أُحُدٍ: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» قال الترمذي: حسنٌ صحيح؛ لأن التعميق أبعد لظهور الرائحة وأمنع للوحوش، والتوسيع: الزيادة في الطول والعرض، والتعميق بالعين المهملة: الزيادة في النزول (ويكفي ما) أي تعميق (يمنع السباع والرائحة) لأنه يحصل به المقصود، وسواء الرجل والمرأة] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإن الدفن في الفساقي محكمة الإغلاق -وهي الغُرَف الصغيرة تحت الأرض المنتشرة في الديار المصرية- دفنٌ شرعيٌّ صحيحٌ جرى عليه عمل الناس، وأَقَرَّهُ المُحَقِّقُون مِن العلماء، مع مراعاة عدم فتح القبر على الميت لإدخال ميتٍ آخر قبل بِلَاه، إلَّا إذا لم يكن للميت الآخر مدفنٌ آخر غيره.
والله سبحانه وتعالى أعلم.