ما الحكم الشرعي في لُبس المرأة للنقاب؟
ارتداء المرأة للنِّقاب هو من قبيل العادات وليس من قبيل التَّشَريع، وهذا ما عليه الفتوى في الديار المصرية.
المحتويات
ارتداء النِّقاب الذي يستر الوجه: هو من قبيل العادات عند جمهور الفقهاء، وبمذهبهم نفتي، وليس من قبيل التَّشَرُّع، هذا هو المقرر في مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد بن حنبل وعليه أصحابه، وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور، ومِن قَبْلِ أولئك: عُمَر، وابن عباس رضي الله عنهم، ومن التابعين: عطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وغيرهم كثير من مجتهدي السلف؛ بناءً على أن عورة المرأة المسلمة الحرة جميعُ بدنها إلا الوجه والكفين؛ استنادًا إلى حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عند أبي داود وغيره: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: «يَا أَسْمَاء،ُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
عند السادة الحنفية: قال العلامة القدوري في "مختصر القدوري" (ص: 26، ط. دار الكتب العلمية): [وبدن المرأة الحرة كله عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها] اهـ.
وقال العلامة العيني في "البناية شرح الهداية" (2/ 126، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "المفيد": في القدمين اختلاف المشايخ. وقال الثوري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى والمزني: القدمان ليستا من العورة] اهـ.
وقال العلامة ابن نُجَيْم في "البحر الرائق" (1/ 284، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(قوله: وبدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها)؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وجهها وكفيها"] اهـ.
- وعند السادة المالكية: قال الإمام الدرير في "الشرح الكبير" من كتب المالكية (1/ 214، ط. دار الفكر): [(وَ) هِيَ مِنْ حُرَّةٍ (مَعَ) رَجُلٍ (أَجْنَبِيٍّ) مُسْلِمٍ (غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ) مِنْ جَمِيعِ جَسَدِهَا] اهـ.
بل نص السادة المالكية أيضًا على أن انتقاب المرأة مكروهٌ إذا لم تجر عادة أهل بلدها بذلك، وذكروا أنه من الغلو في الدين:
قال الشيخ الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 218) عند قول الإمام الدردير: [(و) كره (انتقاب امرأة) أي تغطية وجهها بالنقاب وهو ما يصل للعيون في الصلاة لأنه من الغلو والرجل أولى ما لم يكن من قوم عادتهم ذلك؛ (ككف)، أي: ضمّ وتشمير (كُمٍّ وَشَعْرٍ لِصَلَاةٍ) راجع لما بعد الكاف؛ فالنقاب مكروه مطلقًا]؛ قال: [(قوله: وانتقاب امرأة) أي: سواءٌ كانت في صلاة أو في غيرها كان الانتقاب فيها لأجلها أو لا، (قوله: لأنه من الغلو) أي: الزيادة في الدين إذ لم ترد به السنة السمحة، (قوله: والرجل أولى) أي: من المرأة بالكراهة، (قوله: ما لم يكن من قوم عادتهم ذلك) أي: الانتقاب؛ فإن كان من قوم عادتهم ذلك كأهل نفوسة بالمغرب فإن النقاب من دأبهم ومن عادتهم لا يتركونه أصلًا، فلا يكره لهم الانتقاب إذا كان في غير صلاة، وأما فيها فيكره وإن اُعْتِيدَ كما في المج، (قوله: فالنقاب مكروه مطلقًا) أي: كان في الصلاة أو خارجها سواء كان فيها لأجلها أو لغيرها ما لم يكن لعادة] اهـ.
- وعند السادة الشافعية: قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 176، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي) ولو خارجها (جميع بدنها إلا الوجه، والكفين)] اهـ.
- وعند السادة الحنابلة: قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 431، ط. مكتبة القاهرة): [رُخِّصَ لها في كشف وجهها وكفَّيْها؛ لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة] اهـ.
قد استدل الجمهور على ذلك بأدلة كثيرة من القرآن والسنة: فمن القرآن: قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31] أي موضعها، فالكحل زينة الوجه، والخاتم زينة الكف، كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير الزينة الجائز إظهارها: وجهها، وكفاها، والخاتم. قال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: "ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وغيرهم نحوُ ذلك".
ومن السُّنة: ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا (وجاء في بعض الروايات: وكَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاء) وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ. ولو كان الوجه عورة يلزم ستره لَمَا أقرها عليه الصلاة والسلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطًّى ما عرف ابن عباس رضي الله عنهما أحسناء هي أم شوهاء.
وروى البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ»، ولو كان الوجه والكف عورة ما حَرُم سترهما.
وروى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساءَ بالصدقة لِتَوَقِّي النار، فقالت امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ -أي من خيارهن- سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ: لِمَ يا رسول الله..؟ إلخ، وفيه إشارة إلى أن المرأة كانت كاشفة عن وجهها، وأن راوي الحديث رأى ذلك منها، ولحديث السيدة عائشة رضي الله عنها الذي سبق ذكره وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ. رواه أبو داود وغيره. وغير ذلك من الأحاديث.
وأيضًا فإن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الأكُفِّ للأخذ والعطاء.
ومن رأى من العلماء وجوب النقاب استدل ببعض النصوص المحتملة، وقد أجاب عنها الجمهور بأن ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وإذا تعارضت الأدلة فالأصل براءة الذمة من التكليف.
الراجح ما عليه الجمهور من جواز كشف المرأة وجهها وكفيها، وهو الذي عليه العمل والفتوى في الديار المصرية، أما المجتمعات الأخرى التي يتناسب معها مذهب الحنابلة، فلا بأس بأن تلتزم النساء فيها بهذا المذهب لموافقته لعاداتها وعدم ارتباطه بتدين المرأة، إذا جرى العرف عندهم بأن تغطي المرأة وجهها؛ فإن قضية الثياب مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بعادات الناس وأعرافهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.