ما حكم قول: مدد يا فلان؛ كقول: مدد يا رسول الله، أو مدد يا حسين؟ وهل هناك إثم على مَن يقول ذلك؟
طلب المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين أحياء ومنتقلين من الأمور المشروعة التي جرى عليها عمل المسلمين، وذلك محمول على كونهم سببًا-كالاستعانة بالطبيب على الشفاء من مرض- لا على جهة التأثير والخلق؛ فالأصل حمل أقوال المسلمين وأفعالهم على السلامة؛ حيث إن هناك فارقًا بين اعتقاد كون الشيء سببًا وبين اعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فإنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، والأسباب لا تثمر المسبَّبات بنفسها وإنما بخلق الله لها.
ولا إثم على من يقول ذلك، فقد ورد من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ما يدل على جواز طلب العون والمدد من المخلوقين على جهة السببية والاكتساب، وهذا ما عليه الصحابة والتابعين سلفًا وخلفًا، وما عليه علماء الأزهر الشريف ومشايخه بصفاء فهمه ووسطيته واعتدال منهجه عبر القرون.
المحتويات
الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمَل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد؛ فإن إسلامه قرينة قوية توجب حملَ أفعاله المحتملة على ما يوافق عقيدته، ولا يجوز حملها على خلاف ذلك، وتلك قاعدة عامة يجب تطبيقُها في كل الأفعال الصادرة من المسلمين.
قد دَلَّت الأدلة الشرعية من الكتاب والسُنَّة النبوية وإجماع علماء الأمة على أن كثيرًا من الأفعال التي نسبَتْها الشريعة إلى الله تعالى يصح إسنادُها إلى المخلوقين على جهة التسبب والاكتساب، ومن هذه الأفعال (الإمداد)؛ وهو منح المدد وإعطاؤه.
كما أن هناك فارقًا بين اعتقاد كون الشيء سببًا وبين اعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فإن أهل السنة يعتقدون أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه، وأن الأسباب لا تثمر المسبَّباب بنفسها وإنما بخلق الله لها، وقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على جواز طلب العون والمدد من المخلوقين على جهة السببية والاكتساب، أما الطلب على جهة الخالقية والتأثير فهو عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تبارك وتعالى.
فالاستمداد (وهو طلب المدد) قد يكون عبادة للمُستَمَدِّ منه كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، وقد لا يكون عبادةً للمُستَمَدِّ منه؛ كما في "صحيح" البخاري من حديث سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ..»، وقد بوَّب له الإمامُ البخاري في "صحيحه" بقوله: (باب العون بالمدد).
وكما ورد الإمداد مسندًا إلى الله تعالى، فقد ورد مسنَدًا للمخلوقين؛ كما في القراءةِ المتواترةِ الصحيحة للإمام نافع المدني: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يُمِدُّونَهُمْ﴾ [الأعراف: 202]؛ قال الحافظ بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 309، ط. دار إحياء التراث العربي): [أي: هذا باب في بيان عون الجيش بالمدد، وهو في اللغة: ما يُمَدُّ به الشيء، أي: يُزاد ويكثر، ومنه أَمَدَّ الجيشَ بمددٍ؛ إذا أرسل إليه زيادة، ويُجمَع على أمداد. وقال ابن الأثير: هم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (5/ 225، ط. مكتبة الرشد): [وقال الإمام المهلِّب: فيه أنَّ السنة مضت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يُمِدَّ ثغوره بمدد مِن عنده، وجرى بذلك العمل مِن الأئمة بعده] اهـ.
ورد عن الصحابة والسلف الاستمداد بالمخلوقين؛ فقد روى الإمام أحمد في "المسند" وابن حبان في "صحيحه" عن عياض الأشعري قال: شهدت اليرموك وعليها خمسة أمراء: أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم رضي الله عنهم، قال عمر رضوان الله عليه: إذا كان قتالٌ فعليكم أبو عبيدة، فكتبنا إليه: أن قد جاش إلينا الموت، واستمددناه، فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على ما هو أعز نصرًا وأحصن جندًا؛ الله فاستنصروه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم قد نُصِرَ بأقل مِن عددكم، فإذا أتاكم كتابي، فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال: فقاتلناهم فهزمناهم وقتلناهم أربع فراسخ.
استغاثة المسلم أو طلبه المددَ من الأنبياء والأولياء والصالحين هو محمول على السببيةِ لا على التأثير والخلق؛ حملًا لأقوال المسلمين وأفعالهم على السلامة على ما هو الأصل.
ويتبين وجه الحق والصواب هنا بالكلام في مقامين:
المقام الأول: أن الموت في نفسه ليس فناءً محضًا أو عدَمًا لا حياة فيه؛ كما يقول الماديون والملاحدة، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، وقد أثبت الشرع أن للموتى إدراكًا، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سماعهم أشد من سماع الأحياء في نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق موتى الكفار: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» متفق عليه، ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، بل وترُدُّها رواية البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ». وإذا كان الموت لا يحول بين الكفار وبين الإدراك -مع ما هم فيه من سوء العاقبة- فلأن يسمع موتى المؤمنين مِن باب أَوْلى وأحرى؛ وذلك لأن إدراك الروح خارج الجسد أوسع وأقوى من إدراكها وهي داخل الجسد الذي هو عائقٌ لها.
المقام الثاني: أن الله تعالى جعل لأرواح الأنبياء والأولياء والمؤمنين في حياة البرزخ مِن سعة التصرف ونفع الأحياء بإذنه تعالى بل وعبادتهم لله تعالى تشريفًا واستجابة دعائهم ما ليس للأحياء.
القول بجواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد وفاتهم هو الذي عليه علماء الأزهر ومشايخه بصفاء فهمه ووسطيته واعتدال منهجه عبر القرون، ولم تكد هذه البدعة -بدعة التكفير بالاستغاثة بالأنبياء والصالحين والاستمداد منهم- تَدبُّ في جسد الأمة حتى انبرى بياطرةَ العلمِ وأساطين الفهم من علماء الأزهر الشريف بالردِّ الوافي والبيان الكافي والدواء الشافي، وبينوا أنها بدعة ضلالة تخالف المنقول والمعقول وما استقر عند علماء المسلمين وعامتهم، وأنها عين منهج الخوارج الذين هم شرار الخلق عند الله، والذين كان أُسُّ ضلالتهم: أنهم عمدوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين.
- فهذا شيخ الأزهر البرهان إبراهيم الباجوري الشافعي [ت1277هـ] يقول في آخر حاشيته على شرح الغزي على "متن أبي شجاع" في الفقه الشافعي (2/ 509، ط. مطبعة بولاق 1285هـ): [وقد حصلت في هذه الكتابة بركة؛ بسبب أني كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المكي تجاه الكعبة المشرفة، زادها الله تشريفًا وتكريمًا ومهابة وتعظيمًا، وكذلك كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المدني بجنب منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه، ورزقنا العَوْدَ إليه، وأقول عنده ولديه: مَدَدَكَ يا رسولَ الله صلى الله عليك وسلم... وأقول أيضًا: مَدَدَكُمْ يا أهلَ البيت رضي الله عنكم] اهـ.
- وهذا شيخ الأزهر ونقيب السادة الأشراف السيد علي محمد الببلاوي المالكي [ت1323هـ] يقرظ كتاب العلامة النبهاني "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم" واصفًا إياه بأنه "أحسن ما أُلِّف في هذا الموضوع".
- وهذا شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني الشافعي [ت1326هـ] يقول في تقريظه على الكتاب السابق، وكان وقتَ كتابته شيخًا للأزهر: [فقد وقفت على كتاب "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق".. فإذا هو شاهد عدل، آتٍ بالقول الحق والكلام الفصل، جدير بأن يُوسَم كما وسمه مؤلفه بـ"شواهد الحق"، حجةٌ قائمة على طائفة الضالِّين المضلين، صارم في نحر المبتدعة الملحدين، تحيا به السُّنة، وتموت به البدعة] اهـ.
أما المعقول: فقد قرره علماء التوحيد والكلام أبدع تقرير وأحكمه، وهم المرجع في معرفة قواعد الإلهيات والنبوات، وتقرير ما يجوز وما يجب وما يستحيل في حق الله تعالى وفي حق رسله صلوات الله عليهم وسلامه؛ يقول الإمام العلامة المحقق التفتازاني في "شرح المقاصد" (2/ 79): [لما كان إدراك الجزئيات مشروطًا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، وعندنا لما لم تكن الآلات شرطًا في إدراك الجزئيات؛ إمَّا لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس، وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس، بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا؛ ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع المُلِمّات؛ فإن للنفس بعد المفارقة تعلقًا ما بالبدن وبالتربة التي دُفِنت فيها، فإذا زار الحيُّ تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات] اهـ.
ولمفتي الديار المصرية الأسبق خاتمة المحققين الشيخ العلامة محمد بخيت المطيعي كلام متين في تقرير الدليل العقلي ننقله على طوله لما فيه من التحقيق؛ حيث يقول في رسالته "تطهير الفؤاد عن دنس الاعتقاد" (ص: 13-15 المطبوع بمقدمة "شفاء السقام" للإمام التقي السبكي): [وقد تقرر عقلًا ونقلًا: أن توقُّفَ الممكنات بعضها على بعض لنقص في الممكنات لا لعجز في الفاعل جل شأنه، وهذا مما كاد أن يكون بديهيًّا، وكما جاز أن يتوسط حي في قضاء مصلحة حي والفعل لله وحده يجوز أن تتوسط روح ميت في قضاء مصلحة حي أو ميت والفعل لله وحده، والأرواح باقية عل الحياة، وأفعالها في عالم الملك إنما تظهر بواسطة البدن ما دام حيًّا بالحياة الحيوانية، فإذا مات وفقد الحياة الحيوانية بقيت نفسه وروحه على حياتها الملكوتية، وتعلقت بجسمه تعلقًا آخر على وجه آخر يعلمه الله تعالى كما دل عليه نعيم القبر وعذابه. فإذا كان الفعل في الواقع ونفس الأمر إنما هو للنفس والروح، والجسم آلة يظهر به الفعل، والروح باقية خالدة، ففعلها باقٍ وتصرفها في أفعالها لا يتغير إلا بعدم ظهور الأفعال بواسطة البدن، فلا مانع عقلًا أن يكون بعض أرواح الأولياء والصالحين بعد موت الأجساد سببًا بدعائها وتوجهها إلى الله تعالى في قضاء حوائج بعض الزائرين لهم المتوسلين بهم بدون أن يكون لها مدخل في التأثير، وأي فرق بين التوسط بالأحياء في قضاء الحوائج مع اعتقاد أن لا فاعل إلا الله، وبين توسط أرواح الأموات مع اعتقاد ذلك! والقولُ بأنَّ ملوك الدنيا إنما يحتاجون إلى الوسائط لجواز الغفلة عليهم عن حوائج الخلق بخلاف العليم الخبير سفسطة ظاهرة وتمويه على العقول؛ فإن الملك ووسائطه واسطة في قضاء حوائج الطالب من الله تعالى؛ إذ لا فاعل سواه، فلو كان اتخاذ الواسطة شركًا بعد اعتقاد أن المؤثِّر هو الله وحده لكان معاونة بعضنا لبعض في قضاء المصالح شركًا، وهذا باطل بالضرورة؛ لما يترتب عليه من بطلان الشرائع وفساد نظام العالم وعدم نسبة الأفعال الاختيارية إلى فاعليها، فتبطل الحدود والزواجر ويختل النظام. فعليك بالإنصاف. قال المناوي في "شرح عينية ابن سينا في النفس": قال الناظم في كتاب "زيارة القبور": تعلق النفس بالبدن عظيم جدًّا؛ حتى إنها بعد المفارقة تشتاق وتلتفت إلى الأجزاء البدنية المدفونة؛ فإذا زار إنسان قبر آخر وتغاضى عن العلائق الجسمانية والعلائق الطبيعية توجهت نفسه إلى العالم العقلي فلتواجه نفسه نفس الميت ويحصل منهما المقابلة كما في المرآتين، فيرتسم فيها صورة عقلية بطريق الانعكاس، ويحصل لها بذلك كمال] اهـ.
وقد ذكر الإمام الغزالي نحو ذلك مع زيادة بسط وتحقيق، فقال: المقصود من زيارة الأنبياء والأولياء والأئمة: الاستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواحهم، والعبارة عن هذا الإمداد الشفاعة، وهذا يحصل من جهتين: الاستمداد من هذا الجانب، والإمداد من ذلك الجانب. ولزيارة المشاهد أثر عظيم في هذين الركنين:
أما الاستمداد: فبانصراف همة صاحب الحاجة عن أموره العادية باستيلاء ذكر المزور على الخاطر، حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك، ويقبل بكليته على ذكره وخطوره بباله، وهذه الحالة سبب منبه لروح ذلك الشفيع أو المزور؛ حتى تمد روح المزور الطيبة ذلك الزائر بما يستمد منها، ومن أقبل بكليته وهمته على إنسان في دار الدنيا فإن ذلك الإنسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه؛ لخبره بذلك، فمن لم يكن في هذا العالم فهو أولى بالتنبه، وهو مهيأ لذلك التنبه؛ فإن اطلاع مَن هو خارج عن أحوال العالم على بعض أحوال العالم ممكن؛ كما يطلع من هو في المنام على أحوال من هو في الآخرة: أهو مُثاب أم مُعاقَب؟ فإن النوم صنو الموت وأخوه؛ فبسبب الموت صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم نكن مستعدين في حال اليقظة لها، فكذا من وصل إلى دار الآخرة ومات موتًا حقيقيًّا كان بالاطلاع على أحوال هذا العالم أولى وأحرى، فأما كلية أحوال هذا العالم في جميع الأوقات فلم تكن مندرجة في سلك معرفتهم، كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة في معرفتنا في منامنا عند الرؤيا.
ولإيجاد المعارف معينات ومخصصات؛ منها: همة صاحب الحاجة وهي استيلاء ذكر صاحب تلك الروح العزيزة على صاحب الحاجة، وكما تؤثر مشاهدة صورة الحي في خطور ذكره وحضور نفسه بالبال فكذا تؤثر مُشاهدة ذلك الميت ومشاهدة تربته التي هي حجاب قالبه؛ فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهدة ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده.
ومن ظن أنه قادر على أن يحضر في نفسه ذلك الميت عند غيبة مشهده كما يحضره عند مشاهدة مشهده فذلك ظن خطأ؛ فإن للمشاهدة أثرًا بينًا ليس للغيبة مثله، ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الاستعانة أيضًا جزافًا ولا تخلو من أثر ما؛ كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَن صلى على مرة صليت عليه عشرًا» و«من زارني حلت له شفاعتي».
فالتقرب بقالبه الذي هو أخص الخواص به وسيلة تامة متقاضية للشفاعة، والتقرب بولده الذي هو بضعة منه ولو بعد توالد وتناسل، والتقرب بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه ونعله وعضادته، والتقرب بعادته وسيرته وبما له مناسبة إليه يوجب التقرب إليه ومقتضٍ لشفاعته؛ فإنه لا فرق عند الأنبياء والأولياء في كونهم في دار الدنيا وكونهم في دار الآخرة إلا في طريق المعرفة؛ فإن آلة المعرفة في دار الدنيا: الحواسُّ الظاهرة، وفي العقبى: آلة بها يعرف الغيب؛ إما في صورة مثال، وإما على سبيل التصريح. وأما الأحوال الأخر في التقرب والقرب والشفاعة فلا تتغير.
والركن الأعظم في هذا الباب: الإمداد والاهتمام من جهة المُمِدِّ وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بهذا المدد؛ فإنه لو وضع شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاص أو مذنب لنجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها بلاء وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره والأمراض والعقوبات مفوَّض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه عن غيره، كما كان في حال حياته؛ فإن تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته. إلى هنا كلامه انتهى.
ألم يعلموا أن زيارة القبور تارة يُقصَد بها الموعظة بالأموات وهذه تعم جميع القبور والأموات، وتارة يُقصَد بها الاستمدادُ والتبرك بالمَزُور، وهذا يختص بالأنبياء والأولياء والصالحين، ألم يعلموا أن الإنسان يتأثر بتصوراته، وأن نفسه تحت قهر سلطان الوهم؛ فكم من إنسان تحقق أنه سيقتل لا محالة فتصور الموت واقعًا به فمات بسبب ذلك قبل أن يُقتَل.
كذلك إذا زار إنسان مشهد الحسين رضي الله عنه مثلًا واعتقد أنه بمكان طاهر بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استولى عليه الخشوع والخضوع وامتلأ قلبه إخلاصًا فيدعو الله مخلصًا موقنًا بالإجابة؛ خصوصًا إذا اعتقد أن روح الحسين رضي الله عنه مثلاً تسأل الله إجابة دعاء زائره؛ أليس ذلك سببًا في إجابة الدعاء وقضاء حوائج الزائرين المخلصين! والله هو المؤثِّر، ولا نرى مسلمًا ولو عامِّيًّا يتوهم –فضلاً عن أن يعتقد- أن لله شريكًا من خلقه؛ فمهما اعتقد الزائر من علو درجة المَزُور فلا يعتقد فيه إلا أنه عبد مقرَّب لله يسأل الله كما يسأله الزائر، وأن المَزُورَ أطهرُ منه روحًا وأصفى نفسًا بما أعطاه الله من الكمال الإنساني، وإن كان العوام لا يستطيعون التعبير عما تُكِنُّه صدورُهم من حسن العقيدة وكمال الإيمان] اهـ.
بهذا كله يتضح أن الاستغاثة والاستمداد من الأنبياء والأولياء والصالحين هي مما قال العلماء بجوازه سلفًا وخلفًا، وأن القول بأن ذلك شرك هو أعظم بدعة ظهرت في الأمة الإسلامية في الأعصر المتأخرة وهي من جنس بدع الخوارج التي يتوسل بها أصحابها إلى تكفير المسلمين والطعن في عقائدهم، على أن تكفير المسلم بذلك لا يستقيم عند العقلاء أصلًا فضلًا عن أن يدل عليه نقل أو شبهة نقل.
يقول العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي المالكي عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر في "مقالته عن الاستغاثة": [ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثة ونحوها؛ فإنّ المستغيث إن كان طالبًا من الله بكرامة هذا الميّت لديه، فالأمر واضح، وإن كان طالبًا من الولي نفسه فإنّما يطلب منه على اعتقاد أنّ الله أعطاه قوّة روحانيّة تشبه قوّة الملائكة فهو يفعل بها بإذن الله، فهل في ذلك تأليه له؟ ولو فرضنا جدلاً أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن فيه شرك ولا كفر، بل نكون كمن طلب من المقعد المعونة معتقدًا أنّه صحيح غير مقعد، مع أنّ عمل الأرواح ومواهب الأنبياء ثابتة والأولياء في الدّلائل القطعيّة. وصفوة القول أنّنا نقول: هؤلاء المستغيثون يعتقدون أنّ الله أعطى هؤلاء الأولياء مواهب لم يعطها لغيرهم، وذلك جائز لا يمكنهم منعه. وهم يقولون: "إنّهم اعتقدوا فيهم الألوهيّة!" مع أنّ ذلك لا يقول به أحد، إلاَّ عند من أساء الظّن بالمسلمين ظلمًا وعنادًا. ولو فرضنا أنّ ذلك مشكوك فيه، فهل يجوز التّكفير والقتل بمجرّد الشّك؟! فالاستغاثة مبنيّة عندنا على أنّ الأنبياء والأولياء أحياءٌ في قبورهم كالشّهداءِ، بل أعلى من الشّهداء، ويمكنهم أن يدعوا الله تعالى للمستغيث بهم، بل يمكنهم أن يعاونوه بأنفسهم كما تعاون الملائكة بني آدم، وللأرواح تصرّف كبير في البرزخ. وعلى ذلك دلائل كثيرة أطنب فيها ابن القيّم، وهو من أئمّة هؤلاء، وأثبت ابن تيميّة سماع الأموات وردّهم السّلام في فتاويه وغيرها، مستندًا إلى الأحاديث الصّحيحة في ذلك، وذكر سماع سعيد بن المسيب الأذان من قبره صلى الله عليه وآله وسلم أيّام الحرّة في كتبه، فإذا استغاث بهم كان كمن يستغيث بالحي سواء بسواءٍ؛ لأنّهم عندنا أحياءٌ، بل أعظم نفوذًا، وأوسع تصرّفًا من الأحياءِ. ولو تنزّلنا غاية التنزّل، وفرضنا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن هناك وجه للتّكفير، وإنّما يقال للمستغيثين: إنّكم أخطأْتم في ذلك، فإنّهم ليسوا أحياء ولا قادرين على ما سبق لنا] اهـ.
على ذلك: فطلب المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين أحياء ومنتقلين من الأمور المشروعة التي جرى عليها عمل المسلمين، وذلك محمول على السببية والاكتساب لا على الخلق والتأثير.
والله سبحانه وتعالى أعلم