ما حكم التعامل بشهادة "زاد الخير" الصادرة من بنك ناصر الاجتماعي؟
تتضح ملامح هذه الشهادة في العناصر الآتية:
مدة الشهادة عامان، ويبدأ احتساب العائد من أول شهر الإصدار، وإجازة استخدام رخصة "الهبة المشروطة" في توجيه العوائد وفقًا لرغبة العميل، ولا يتم صرف العائد بالكامل، وإنما يحصل صاحب الشهادة على نصف العائد، والنصف الآخر كحد أدنى يحق له توجيهه وفقًا للتوجيه المجتمعي الذي يرغب في أداء عمل الخير به، وذلك في نهاية العام المالي التالي لاستحقاق الشهادة؛ سواء صدقة جارية، أو هبة مشروطة، أو وقف نقدي.
والأمر معروض عليكم للتفصيل بالاطلاع والتوجيه والرأي الشرعي.
يجوز شرعًا التعامل بشهادات "زاد الخير"؛ فهي عقودُ استثمارٍ جديدة، معلومةُ المدة، مُحقِّقَةٌ لمصالح أطرافها، وتخلو من الغرر والضرر، وفيها من معانى التكافل المجتمعي، وأعمال البرّ والإحسان؛ سَدًّا للحاجات، ودفعًا للفاقات، وتفريجًا للكربات.
والتبرع بنصف عوائدها كحد أدنى كذلك أمر مشروع؛ لأنه إما أن يكون ثمرة وقف مؤقت، أو هبةً لمالٍ غير موجود ومُتوقَّعَ الوجود، أو وعدًا بالهبة، وكل ذلك جائزٌ شرعًا.
المحتويات
من المقرر في مبادئ الشريعة أن الإنسان ما دام كامل الأهلية، فهو حُرُّ التصرف فيما يدخل تحت ملكه؛ ببيعه، أو هبته أو وقفه أو إجارته أو غير ذلك من التصرفات الشرعية التي هي فرع عن الملك؛ وقد روى الدارقطني والبيهقي عن حِبَّان بن أبي جَبَلَة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلٌّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
ومحصلّ تصوير هذه الشهادات: أنها عقود استثمار، محدَّدة المدة، يتبرعُ صاحبُها بنصفِ عوائِدِها.
فتحديد مدة العقد بعامين مبنيٌّ على التراضي بين العميل والبنك، ولا إشكال في جوازه شرعًا.
أما التبرع بنصف العوائد لإحدى جهات الخير على طول مدة العقد فهو هبةٌ لمالٍ مستقبَلٍ لم يتم تحصيله أو حصوله، وهذا محمول في تكييفه الفقهي على واحد من أنواع التصرفات الآتية:
فإما أن يكون وقفًا مؤقتًا لمالٍ سائلٍ، أو هبةً لمالٍ معدومٍ مُتوقَّعَ الوجود، أو وعدًا بالهبة.
فأما كونه وقفًا مؤقتًا: فهو جائز عند من يبيح تأقيت الوقف بمدة مُعيَّنة ينتهي بانتهائها؛ وهو مذهب القاضي أبي يوسف، وعليه الفتوى في المذهب الحنفي، وهو المشهور من مذهب المالكية، ووجهٌ عند الشافعية وعند الحنابلة.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (12/ 47، ط. دار المعرفة): [هذا الشرط يجوز عند أبي يوسف رحمه الله في الحياة والموت؛ لما بينَّا أنه يتوسَّع في أمر الوقف؛ فلا يشترط التأبيد، واشتراط العود إلى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يُفَوِّتُ موجِبَ العقد عنده] اهـ.
وقال العلامة الحنفي برهان الدين بن مازة الحنفي في "المحيط" (6/ 108، ط. دار الكتب العلمية): [وفي شروط محمد بن مقاتل رحمه الله: قال أبو يوسف: جاز الوقف على رجلٍ بعينه، وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى ورثة الوقف.. وكل ذلك يدل على جواز الوقف على رجلٍ بعينه..
وفي "المنتقى": قال أبو يوسف: إذا جعل أيضًا له صدقة موقوفة على ولده جاز؛ ما داموا أحياءً، فإذا انقرضوا رجعت إلى صاحبها إن كان حيًّا، وإلى ورثته إن كان ميتًا] اهـ.
وقال الإمام الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (6/ 214، ط. دار الفكر) بعد نقل كلام القاضي أبي يوسف: [وعليه الفتوى، وإذا عرف عن أبي يوسف جواز عوده إلى الورثة: فقد يقول في وقفِ عشرينَ سنةً بالجواز؛ لأنه لا فرق أصلًا] اهـ.
وقال الإمام الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (4/ 79، ط. دار الفكر): [(أو) (عاد) الواقف (لسكنى مسكنه) الذي وقفه (قبل عام) بعد أن حِيزَ عنه، واستمر ساكنًا حتى حصل المانع فيبطل، ولا مفهوم لمسكنه ولا لسكنى؛ إذ الانتفاع بما حبسه بغير السكنى كذلك، ومفهوم (قبل عام): أنه لو عاد بعد عام لم يضرّ، وإن كان وقفه على محجوره وهو كذلك، إلا أنه جرى فيما إذا سكن ما وقفه على محجوره بعد عام حتى حصل المانع: قولان مشهوران] اهـ.
قال العلامة الدسوقي في "حاشيته عليه": [(قوله: قولان مشهوران)؛ أحدهما: لا يبطل الوقف، وهذا قول غير ابن رشد، وعليه عوَّل المتيطي قائلًا: "هو المشهور، وبه العمل"] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (15/ 334-335، ط. دار الفكر): [وإن وقف وقفًا متصل الابتداء منقطع الانتهاء؛ بأن وقف على رجلٍ بعينه ولم يزد عليه، أو على رجلٍ بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه: ففيه قولان.. الثاني: أنه يصح، ويصرف بعد انقراض الموقف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحُمِل فيما سمَّاه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقفٌ مؤبد] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (6/ 26، ط. مكتبة القاهرة): [وإن علَّق انتهاءه -أي: الوقف- على شرطٍ؛ نحو قوله: داري وقف إلى سنة، أو إلى أن يقدم الحاج لم يصحّ في أحد الوجهين؛ لأنه ينافي مقتضى الوقف، فإن مقتضاه التأبيد، وفي الآخر: يصح؛ لأنه منقطع الانتهاء، فأشبه ما لو وقفه على منقطع الانتهاء، فإن حكَمْنَا بصحته هاهنا: فحكمه حكم ُمنقطع الانتهاء] اهـ.
وأما كونُه وقفًا لمالٍ سائلٍ:
فجمهور الفقهاء على جوازه؛ وذلك بأن يضارب به ويتصدق بربحه أو بجزء منه في أوجه الخير.
قال العلامة ابن مازه الحنفي في "المحيط" (6/ 119): [وفي "وقف الأنصاري" -وكان من أصحاب زفر-: إذا وقف الدراهم، أو الطعام، أو ما يكال، أو يوزن أنه يجوز، ويدفع الدراهم مضاربة، ويتصدق بفضلها في الوجه الذي وقف عليه] اهـ.
وقال العلامة داماد الحنفي في "مجمع الأنهر" (1/ 739، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولما جرى التعامل في وقف الدنانير والدراهم في زمان زفر بعد تجويز صحَّة وقفهما في رواية، دخلت تحت قول محمد المفتى به في وقف كل منقول فيه تعامل] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (7/ 80، ط. دار الفكر): [ثم إن المذهب جواز وقف ما لا يُعْرَفُ بعينه؛ كالطعام والدنانير والدراهم كما يفيده كلام "الشامل"، فإنه بعد ما حكى القول بالجواز حكى القول بالكراهة بقيل، والقول بالمنع أضعف الأقوال، ويدل للصحة قول المؤلف في باب الزكاة: (وزكيت عين وقفت للسلف)] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (2/ 323، ط. دار الكتب العلمية): [واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير؛ فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (6/ 34): [وقيل في الدراهم والدنانير: يصحُّ وقفها على قول من أجاز إجارتهما] اهـ.
وأما كونه هبةً لمالٍ معدومٍ يُتَوَقَّعُ وجودُه:
فهو جارٍ على ما أجازه فقهاء المالكية -بلا خلاف عندهم في المذهب- مِن هبة المجهول والمعدوم المتوقَّعِ الوجود، وتبعهم على ذلك بعض الحنابلة.
قال الإمام ابن بطال المالكي في "شرح البخاري" (6/ 579، ط. مكتبة الرشد): [والمعروف من مذهب مالك: أن هبة المجهول جائزة] اهـ.
وقال العلامة ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (4/ 114، ط. دار الحديث): [ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهولِ والمعدومِ المتوقَّعِ الوجود] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (5/ 434، ط. دار الكتب العلمية): [وتصح هبة المجهول؛ كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو من وجد شيئًا من مالي فهو له] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (7/ 133، ط. دار إحياء التراث العربي): [واختار الحارثي: صحة هبة المجهول] اهـ.
ومما يُقَوِّي القولَ بصحة الهبة المستقبلية من عوائد شهادات "زاد الخير" أن هذه العوائد وإن كانت غير حاصلة في الحال إلَّا أنَّ الدراسات المستقبلية وخُطط الجدوى تجعلها كالحاصلة، والمتوقَّعُ قريبُ الحصول في حكم الواقع، ومع هذه الدراسات تضعف الجهالة ويقلُّ الغرر، والمالُ المعدوم إنَّما نُهيَ عنه للغررِ لا للعدم؛ كما قال ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (2/ 7، ط. دار الكتب العلمية).
ولذلك فرَّق فقهاء الحنابلة في جواز هبة المجهول بين المقدور على تسليمه وغير المقدور؛ قال العلامة برهان الدين بن مفلح الحنبلي في "المبدع" (5/ 195، ط. دار الكتب العلمية): [(وما لا يقدر على تسليمه) كالآبق، والشارد، والمغصوب لغير غاصبه؛ لأنه عقدٌ يفتقر إلى القبضِ أشبه البيع. وظاهره: أنه إذا وهبه لغاصبه أو لمن يتمكن من أخذه: صحَّ] اهـ.
كما أن فقهاء الشافعية والحنابلة أجازوا هبة المجهول عند الحاجة؛ بأن تعذَّر علمها، أو كانت لمصلحةٍ، أو نحو ذلك.
قال الإمام السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 470، ط. دار الكتب العلمية): [قاعدة: لا تصح هبة المجهول، إلا في صورٍ؛ منها: إذا لم يعلم الورثة مقدار ما لكل منهم من الإرث، كما لو خلف ولدين، أحدهما خنثى، ذكره الرافعي في الفرائض.. ومنها: اختلاط الثمار والحجارة المدفونة في البيع، والصِّبْغِ في الغصب، ونحوه على ما صرحوا به في مواضعه] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "الروض المربع" (ص: 460، ط. مؤسسة الرسالة): [(ولا يصحُّ) أن يهبَ (مجهولًا)؛ كالحمل في البطن، واللبن في الضرع، (إلا ما تعذَّر علمُه)؛ كما لو اختلط مال اثنين على وجهٍ لا يتميز فوهب أحدُهُما لرفيقه نصيبه منه، فيصحُّ للحاجة؛ كالصلح] اهـ.
وأما كونه وعدًا بالهبة: فيُخرَّج على المشهور من مذهب الإمام مالك أنه يجب الوفاء بالوعد إن خرج على سببٍ، ودخل الموعود له بسببه في كلفة؛ وذلك دفعًا للضرر عن الموعود المغرَّر به، وعند أصبغ: أنه يجب الوفاء بالوعد إذا ارتبط بسبب؛ سواء دخل الموعود بسببه في كلفة أو لم يدخل.
قال الإمام ابن رشد المالكي [ت: 520هـ] في "البيان والتحصيل" (8/ 18، ط. دار الغرب الإسلامي): [والعِدَةُ إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنها لا تلزم بحال، وقيل: إنها تلزم على كل حال، وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (4/ 25، ط. عالم الكتب): [وجه الجمعِ بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضُها الوفاءَ به، وبعضُها عدمَ الوفاء به: أنه إن أدخله في سببٍ يلزم بوعده لزم؛ كما قال مالك وابن القاسم وسحنون، أو وعده مقرونًا بذكر السبب؛ كما قاله أصبغ، لتأكد العزم على الدفع حينئذٍ، ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك] اهـ.
والضرر من عدم الوفاء هنا حاصل للمحتاجين الذين حددت الهبةَ لهم؛ فبنك ناصر الاجتماعي مؤسسة حكومية تسعى في كفاية المحتاجين وفق منظومةِ بحث اجتماعي تشمل اليتامى والأرامل وغيرهم من ذوي الفاقة والحاجة، وكلما وفَّر فرصةَ عطاءٍ لمحتاجٍ تعدّاه إلى غيره فلا يسوغ أن يمتنع صاحب الشهادة عن الوفاء بما التزمه من وعد الهبة؛ لأنه يُفوِّتُ بذلك على المحتاج فرصتَه مِن هبتِه وهِبةِ غيره، فلا هو بالذي أعطاه، ولا هو بالذي تركه لمن يكفيه بلواه.
والقانون وإن كان يمنع هبة المال المستقبل؛ كما في المادة (492) من القانون المدني، ويجعلها باطلة، إلَّا أنه جوَّز تحولها إلى وعدٍ بالهبة مُلزِم؛ كما في "الوسيط في شرح القانون المدني" للعلامة السنهوري (5/ 118، ط. دار إحياء التراث العربي).
التعامل بهذه الشهادات والتبرّع بنصف أرباحها أو أكثر جائزٌ شرعًا؛ ابتداءً وانتهاءً.
فهي ابتداءً: عقود استثمار جديدة، معلومة المدة، مُحقِّقَةٌ لمصالح أطرافها، تخلو من الغرر والضرر.
وهي انتهاءً: كسبٌ حلالٌ، يحقّ لصاحبها التصرف فيها وفي عوائدها بشتى وجوه التصرف.
ولا يخفى ما في التبرّع بما يريده المودع من عوائدها من التكافل المجتمعي، والمسارعة في ميادين البر والإحسان؛ سَدًّا للحاجات، ودفعًا للفاقات، وتفريجًا للكربات، سواء قلنا إن تبرعه ثمرةُ وقف مالٍ سائل، أو هبة مالٍ معدوم متوقع الحصول، أو وعد ملزم بالهبة.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فالتعامل بشهادات "زاد الخير" -التي هي عقود استثمار، محددة المدة، يتبرع صاحبها بنصف عوائدها كحد أدنى- أمرٌ جائزٌ شرعًا؛ لما فيها من معنى التكافل المجتمعي، والمسارعة في أعمال البر والإحسان؛ سَدًّا للحاجات، ودفعًا للفاقات، وتفريجًا للكربات، وهذا التبرع بنصف عوائدها كحد أدنى: أمر مشروع؛ لأنه إما أن يكون وقفًا مؤقتًا لمالٍ سائلٍ، وعليه الفتوى عند الحنفية وهو المشهور عند المالكية، كما أن وقف المال السائل جائز عند جمهور الفقهاء، أو هبةً لمالٍ معدومٍ مُتوقَّعَ الوجود، وهو ما أطبق على جوازه فقهاء المالكية، أو وعدًا ملزمًا بالهبة؛ لئلا يَفُوتَ المحتاجَ حقُّه في الكفاية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.