ما حكم تأخير دفن الميت للتطهير من فيروس كورونا؟ فأنا رجل مسلم أعمل في إحدى الدول الأوروبية، وقد اجتاح فيروس كورونا المنطقة التي أعمل بها، وقد توفي معنا شخص مسلم بهذا الفيروس الوبائي، ولكن فوجئنا بأن السلطات هنا لم توافق على خروجه لتغسيله ودفنه، وقرَّرت أن يمكث داخلَ ثلاجة المستشفى فترة من الوقت هي المدة التي يظلُّ فيها فيروس الكورونا داخلَ جسم المصاب، فما حكم الشرع في تأخيره عن الدفن هذه المدَّة، ومن المعلومِ في الشريعة الإسلامية أن إكرام الميت دفنه؟
الأصلُ فيمن تُوفي الإسراعُ في تجهيزه ودفنه دون تأخير، أما إذا وجدت حاجة تقتضي تأخير دفنه فقد أجازته الشريعة الغراء، ونصَّ عليه العلماء، ما لم يُخَفْ على الميت من التغيُّر، وإجراءات تأخير دفن الميت تعامل معها الفقهاء تعاملًا مقاصديًّا؛ فكما راعَوْا فيها مصلحةَ الميت وما يعود عليه: كالتأخير للإعلام بوفاته لتكثير عدد المُصلين عليه، وانتظار من يُرجى حضوره أو من أوصى بحضوره، وقضاء الدعاء له لِمن فاته ذلك في صلاة الجنازة، وتأخير الصلاة عليه للأوقات الفاضلة طمعًا في زيادة الرحمة له ونحو ذلك، راعَوْا فيه أيضًا مصلحةَ الحي وما يرجع إليه: كانتظار الوالي أو القريب، وكراهية انصراف الناس بعد الصلاة عليه دون إذن أهل الميت جبرًا لخاطرهم ومراعاةً لِمُصابهم، وتأخير دفن الحامل التي في بطنها جنين حي حتى يموت أو يخرج مراعاةً لحياته، ونحو ذلك.
وتأخير جثمان المتوفى بفيروس كورونا المعدي داخلَ ثلاجات الموتى لا يخرجُ عن كونه مصلحة للحي، بل المصلحةُ فيه أشدُّ، والحاجةُ فيه آكَدُ؛ لِما فيه من تحجم عدواه عن الأحياء، حتى لا يُصابوا بهذا الفيروس الذي تم إعلانُه وباءً عالميًّا؛ حيث إنه مرضٌ معدٍ قاتلٌ ينتقلُ بالمخالطة والملامسة بسهولة وسرعة.
وهذا التأخير وإن طالت مدته لا يضرُّ الميت ما دام أنه مأمون من الهَوَام أو التغير، ومحفوظ من الانفجار؛ لأن مظنة تغيره إنَّما تكون في الأماكنِ الدافئة أو الحارَّة، وهو من جنس ما فعله السلفُ الصالح مع موتاهم، وفرع ما نصَّ عليه الفقهاء من إجراءات حفظ الموتى قبل دفنهم حفاظًا عليهم من التغير، وصونًا لهم من الانفجار، حتى وإن اختلفت طريقته وطالت مدته؛ لأن النظر إلى قصَرِ المدة وطولها يرجع إلى مراعاة التغير. وقد سبقت الشريعة الغرَّاء إلى نُظُم الوقاية وأساليبِ الرعاية سدًّا لمادة الضرر، وحسمًا لذريعة الأذى، فأرست بذلك قواعدَ الحَجْرِ الصحي ضدَّ المرض العام.
المحتويات
الأصلُ في المتوفى الإسراع في تجهيزه، وألا يُتَبَاطَأَ عن دفنه؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ» أخرجه الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وإسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 184، ط. دار المعرفة): [قال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يُتَبَاطَأ بالميتِ عن الدفن] اهـ.
قد تعامل الفقهاء مع أحوال دفْن الميت تعاملًا مقاصديًّا؛ فنصُّوا على أن التأخيرَ إذا كان يسيرًا وفيه مصلحةٌ للميت، ومراعاة حال الحي لا يضر، ورتَّبوا على ذلك الأحكامَ والإجراءاتِ التي تقتضي تأخيرَ دفْنِ الميت ولا تتعارضُ مع الإسراع بدفنه.
قال العلَّامة شهاب الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (2/ 412، ط. دار الفكر): [فالتأخير إذا كان يسيرًا وفيه مصلحة للميت لا ينبغي منعه] اهـ.
فنصوا على أنه يُسَنُّ تأخير رفع الجنازة حتى يتم المسبوق في صلاة الجنازة ما فاته من صلاته بعد السلام، ويستحب له أن يقضي حتى الدعاء بعد التكبيرات:
قال العلَّامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 119، ط. دار الفكر): [(ص) ودعا إن تُركَت وإلَّا والى (ش) يعني أن المسبوق إذا سلم الإمام فإنه يدعو بين تكبيرات قضائه إن تركت الجنازة، ويخفف في الدعاء إلا أن يؤخر رفعها فيتمهل في دعائه] اهـ.
وقال العلَّامة الجاوي الشافعي في "نهاية الزين" (ص: 159، ط. دار الفكر): [وَإِذا سلم الإِمَام تدارك المسبوق حتما بَاقِي التَّكْبِيرَات بأذكارها وجوبًا فِي الوَاجِب، وندبًا فِي المَنْدُوب، ويُسَن أن لا ترفع حتى يتم المَسْبُوق صلاته] اهـ.
وقال العلَّامة الشوكاني في "السيل الجرَّار" (ص: 215، ط. دار ابن حزم): [واللاحق ينتظر تكبير الإمام ثم يكبر ويتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع] اهـ.
ونصوا على كراهية الانصراف بعد صلاة الجنازة مباشرةً دون إذن أهل الميت:
قال العلَّامة شهاب الدين الشلبي الحنفي في "حاشيته على تبيين الحقائق" (1/ 240، ط. الأميرية): [لأنَّ انصرافهم بعد الصلاة من غير استئذانٍ مكروه] اهـ.
وقال العلَّامة الدسوقي المالكي في "حاشيته" (1/ 423، ط. دار الفكر): [إن كان الانصراف بعد الصلاة وقبل الدفن فيكره إن كان بغير إذنٍ من أهلها والحال أنهم لم يطولوا، فإن كان بإذن أهلها فلا كراهة، طولوا أو لا] اهـ.
وقال العلَّامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 137، ط. دار الفكر): [لأنَّ لهم حقًّا في حضوره ليدعو لميتهم ويكثر عددهم] اهـ.
ونصوا على جواز انتظار الولي أو قريب يُرجى حضوره، أو من أوصى الميت بحضوره:
قال العلَّامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (2/ 51، ط. دار الكتب العلمية): [ولا بأسَ بانتظار الولي عن قرب ما لم يخش تغير الميت] اهـ.
وقال العلَّامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 467، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولا بأسَ أن ينتظرَ به من يحضره، إنْ كان قريبًا ولم يخش عليه، أو يشق على الحاضرين، نصَّ عليه في رواية حنبل؛ لما يُرجى له بكثرة الجمع، ولا بأسَ أيضًا أن ينتظر وليه، جزم به في "مجمع البحرين"، وابن تميم، وهو أحد الوجهين] اهـ.
وقال العلَّامة المناوي في "فيض القدير" (3/ 310، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ينبغي انتظار الولي، إن لم يخف تغيره] اهـ.
ونصوا على جواز تأخير الجنازة قليلًا للإعلام بوفاة الميت؛ لتكثير عدد المصلين عليه:
قال العلَّامة ابن نُجيم الحنفي في "البحر الرائق" (1/ 102، ط. المطبعة الخيرية):
[وذكر الشارح معنى آخر، وهو الإعلام بموته ليُصلُّوا عليه، لا سيَّما إذا كان الميت يتبرك به، وكره بعضهم أن ينادى عليه في الأزقَّة والأسواق؛ لأنه نَعْيُ أهلِ الجاهلية، وهو مكروهٌ.
والأصحُّ أنه لا يكره؛ لأنَّ فيه تكثيرَ الجماعة من المصلين عليه والمستغفرين له، وتحريض الناس على الطهارة والاعتبار به والاستعداد، وليس ذلك نعْيَ أهلِ الجاهلية، وإنما كانوا يبعثون إلى القبائلِ ينعون مع ضجيج وبكاء وعويل وتعديد، وهو مكروه بالإجماع] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 216، ط. دار الفكر): [(والصحيح) الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها وغيرها أنَّ الإعلام بموته لمن لم يعلم ليس بمكروه، بل إن قُصِدَ به الإخبار لكثرة المصلين فهو مُستَحَبٌّ] اهـ.
وقال العلَّامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المُحتاج" (3/ 64، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وإنما يتجه إن خُشي تغيُّرها، أو كان التأخير لا لكثرة المصلين، وإلا فالتأخير يسيرٌ وفيه مصلحة للميت، فلا ينبغي منعه، ولذا أطبقوا على تأخيرها إلى ما بعد صلاة نحو العصر؛ لكثرة المصلين حينئذٍ] اهـ.
ونصوا على تأخير الصلاة على الجنازة للأوقات الفاضلة.
قال العلَّامة الشبرامَلَّسي الشافعي في "حاشيته على نهاية المحتاج" (3/ 27، ط. دار الفكر): [(قوله: في الأوقات الفاضلة.. إلخ)، ولعل وجهه أنَّ موته في تلك الأوقات علامة على زيادة الرحمة له، فتستحب الصلاة عليه تبركًا به؛ حيث اختِيرَ له الموتُ في تلك الأوقات] اهـ.
ونصوا على تأخير تجهيز الميت لأجل تحصيل الكافور:
ففي الفتاوى الكبرى (2/ 2، ط. المكتبة الإسلامية) للشيخ ابن تيمية الحنبلي:
[(وسئل): ما قولكم فيما أفتى به شيخنا الوالد من أنه لا يؤخر تجهيز الميت لأجل تحصيل الكافور زمنًا لا يتغيَّر فيه الميت قبله، فإنه وقع عندي في ذلك شيء بمسألة نقل الميت؟
(فأجاب) نفعنا الله به وبعلومه بأن الذي يتجه أن الأفضلَ تأخيرُ الميت تأخيرًا يسيرًا لا يخشى منه تغيُّر بوجه لأجل تحصيل الكافور] اهـ.
ونصوا على تأخير الدفن لكثيرٍ من المرضى للتأكُّد من وفاتهم: كالغرقى، والمسكوتين، ونحوهم:
قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص: 213، ط. المكتبة العصرية): [والصارف عن وجوب التعجيل الاحتياط، قال بعض الأطباء: إن كثيرين ممن يموت بالسكتة ظاهرًا يدفنون أحياء؛ لأنه يعسر إدراك الموت الحقيقي بها إلا على أفضل الأطباء، فيتعين التأخير فيها إلى ظهور اليقين بنحو التغيير] اهـ.
قال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (1/ 238، ط. دار الحديث): [ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك إلا الغريق، فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافةَ أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته.
قال القاضي: وإذا قيل هذا في الغريق، فهو أولى في كثير من المرضى، مثل الذين يصيبهم انطباق العروق وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء، حتى لقد قال الأطباء: إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث] اهـ.
وقال العلامة ابن الحاج المالكي في "المدخل" (3/ 236، ط. دار التراث): [يأخذ في تجهيزه على الفور؛ لأن من إكرام الميت الاستعجالَ بدفنه ومواراته، اللهم إلا أن يكون موته فجأة، أو بصعقٍ، أو غرقٍ، أو سبتة، أو ما أشبه ذلك، فلا يستعجل عليه ويمهل حتى يتحقق موته، ولو أتى عليه اليومان والثلاثة، ما لم يظهر تغييره] اهـ.
ونصوا على تأخير دفن الحامل التي في بطنها جنين حيٌّ حتى يموت أو يخرج، وإن تغيَّرت.
قال العلامة شهاب الدين النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 301، ط. دار الفكر): [لو ماتت امرأة وجنينها يضطرب في بطنها، فإن أمكن إخراجُه من محله فعل اتفاقًا، وإن لم يمكن فلا تدفن، ما دام حيًّا] اهـ.
وقال العلامة شهاب الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (3/ 40، ط. دار الفكر): [فإن لم تُرْجَ حياتُه فلا، لكن يترك دفنها إلى موته، ثم تدفن] اهـ.
قال العلامة الشبرامَلَّسي في حاشيته عليه: [ولو تغيرت لئلَّا يدفن الحمل حيًّا] اهـ.
على ذلك: فتأخير دفن الميت إذا كان لحاجة أو مصلحة فلا يضرُّ ذلك عند جميع الفقهاء، ما لم يُخشَ تغيُّره، حتى راعوا في ذلك تقديم ما يخشى تغيره من جماعات الموتى الذين لم يمكن دفنهم إلا واحدًا واحدًا، فقالوا: يُبدأ بمن يُخشى تغيره، ثم بمن يخشى تغيره بعده، وهكذا.
والمتوفى بفيروس كورونا محفوظٌ داخلَ ثلاجة الموتى المُعدَّة لذلك، لا يُخاف عليه من الهوام أو التغير أو يُخشى عليه من الانفجار؛ لأنه في مكان باردٍ، ومظنة التغير إنَّما تكون في الأماكنِ الدافئة أو الحارَّة.
قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم" (6/ 376، ط. دار الوفاء) عند كلامه على ميت البحر: [يصونه الماء ويحفظه ببرده، ومثل هذا موجود في الموتى الذين يدفنون في الأرض الباردة الندية لا يتغيَّرون] اهـ.
قال العلامة الشرواني الشافعي في "حاشيته على تحفة المحتاج" (3/ 96، ط. دار إحياء التراث العربي): [أما إذا أمن التغير كما في الأقطار الباردة.. وفي تعبير "الوسيط" بالمدفئة إشعار بذلك؛ لأنَّ الإدفاء مظنة لحصول التغير، فتأمله] اهـ.
وحفظ جثمان المتوفى بكورونا في ثلاجة الموتى يدخلُ تحت ما فعله السلف الصالح، ونصَّ عليه الفقهاءُ من الإجراءات التي تحفظ جثمان الميت وتأمن عليه من التغير: كوضع شيءٍ ثقيلٍ أو رطبٍ على بطنه لئلَّا ينتفخ، وطَلْيهِ بما يُمسكه ويحفظه إن أريد نقله، ونحو ذلك؛ فعن عبد الله بن آدم قال: مات مولى لأنس بن مالك رضي الله عنه عند مغيب الشمس، فقال أنس رضي الله عنه: "ضعوا على بطنه حديدة" أخرجه البيهقي في "الصغير"، و"الكبرى"، و"السنن والآثار".
قال العلامة السُّغدي الحنفي في "النتف في الفتاوى" (1/ 116، ط. دار الفرقان): [التاسع: أن يضع شيئًا على بطنه لئلا ينتفخ] اهـ.
قال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 122، ط. دار الفكر): [ووضع ثقيلٍ على بطنه (ش)؛ أي: ومما يستحب أيضًا وضع شيء ثقيل على بطنه: كسيف، أو حديدة، أو غيرهما، فإن لم يمكن فطين مبلول] اهـ.
قال مُحشِّيه العلامة العدوي المالكي: [(قوله: ووضع ثقيل.. إلخ) خوف انتفاخه] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 237، ط. دار الكتب العلمية): [ويجعل على بطنه حديدة؛ لما رُوي أن مولى أنس مات، فقال أنس رضي الله عنه: ضعوا على بطنه حديدة لئلَّا ينتفخ، فإن لم تكن حديدة جعل عليه طين رطب] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 355، ط. عالم الكتب): [(و) كره (طَلْيهُ) أي الميت (بما يُمْسِكْهُ كَصَبِرٍ) بكسر الموحدة وتسكن في ضرورة الشعر (ما لم ينقل) الميت لحاجة دعت إليه، فيباحُ للحاجة] اهـ.
ولا يضرُّ حفْظُ جثمان متوفى كورونا 14 يومًا داخل ثلاجة الموتى، وهي مدَّة تطهيره من الفيروس ما دام أنه محفوظٌ وأُمِن عليه من التغيُّر؛ إذ هو الضابط في ذلك، طالت مدَّته أو قصرت.
قال العلامة أبو الطاهر التنوخي المالكي في "التنبيه على مبادئ التوجيه" (2/ 671، ط. دار ابن حزم) في حكايته كلام الفقهاء عن إخراج المتوفى الذي لم يُصَلَّ عليه، أو الذي لم يُغسَّل حتى ولو تم دفنه: [وكأن القول بالنظر إلى الطول يرجع إلى مراعاة التغيير] اهـ.
بناءً على ذلك: فالأصلُ فيمن تُوفي الإسراعُ في تجهيزه ودفنه دون تأخير، إذا لم يكن هناك حاجة لذلك، أمَّا إذا وجدت حاجة تقتضي تأخير دفنه فقد أجازته الشريعة الغراء، ونصَّ عليه العلماء، ما لم يُخَفْ على الميت من التغيُّر، وإجراءات تأخير دفن الميت تعامل معها الفقهاء تعاملًا مقاصديًّا؛ فكما راعَوْا فيها مصلحةَ الميت وما يعود عليه: كالتأخير للإعلام بوفاته لتكثير عدد المُصلين عليه، وانتظار من يُرجى حضوره أو من أوصى بحضوره، وقضاء الدعاء له لِمن فاته ذلك في صلاة الجنازة، وتأخير الصلاة عليه للأوقات الفاضلة طمعًا في زيادة الرحمة له ونحو ذلك، راعَوْا فيه أيضًا مصلحةَ الحي وما يرجع إليه: كانتظار الوالي أو القريب، وكراهية انصراف الناس بعد الصلاة عليه دون إذن أهل الميت جبرًا لخاطرهم ومراعاةً لِمُصابهم، وتأخير دفن الحامل التي في بطنها جنين حي حتى يموت أو يخرج مراعاةً لحياته، ونحو ذلك.
وتأخير جثمان المتوفى بفيروس كورونا المعدي داخلَ ثلاجات الموتى لا يخرجُ عن كونه مصلحة للحي، بل المصلحةُ فيه أشدُّ، والحاجةُ فيه آكَدُ؛ لِما فيه من تحجم عدواه عن الأحياء، حتى لا يُصابوا بهذا الفيروس الذي تم إعلانُه وباءً عالميًّا؛ حيث إنه مرضٌ معدٍ قاتلٌ ينتقلُ بالمخالطة والملامسة بسهولة وسرعة.
وهذا التأخير وإن طالت مدته لا يضرُّ الميت ما دام أنه مأمون من الهَوَام أو التغير، ومحفوظ من الانفجار؛ لأن مظنة تغيره إنَّما تكون في الأماكنِ الدافئة أو الحارَّة، وهو من جنس ما فعله السلفُ الصالح مع موتاهم، وفرع ما نصَّ عليه الفقهاء من إجراءات حفظ الموتى قبل دفنهم حفاظًا عليهم من التغير، وصونًا لهم من الانفجار، حتى وإن اختلفت طريقته وطالت مدته؛ لأن النظر إلى قصَرِ المدة وطولها يرجع إلى مراعاة التغير.
وقد سبقت الشريعة الغرَّاء إلى نُظُم الوقاية وأساليبِ الرعاية؛ سدًّا لمادة الضرر، وحسمًا لذريعة الأذى، فأرست بذلك قواعدَ الحَجْرِ الصحي ضدَّ المرض العام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.