كيف تعامل الشرع الشريف مع الأمراض المعدية؛ كوباء كورونا المستجد؟
يمكن تلخيص هذا التعامل في الآتي:
- الاهتمام بأمر النظافة؛ في الثوب والبدن والمكان والطعام.
- الأمر باجتناب ذوي الأمراض المعدية ومخالطتهم.
- إرساء مبادئ الحجر الصحي الذي يحدد حرية التنقل للشخص المُصاب بالمرض المعدي وعزله عن الأصحاء مدة من الزمان تستغرق في الغالب مدة احتضان المرض.
- النهي عن الدخول إلى أرض انتشر فيها الوباء أو الخروج منها.
المحتويات
العدوى -كما عرفها قطاع الطب الوقائي التابع لوزارة الصحة- هي: انتقال الكائن المسبب لها من مصدره إلى الشخص المعرض للإصابة، وإحداث إصابة بالأنسجة قد تظهر في صورة مرضية (أعراض) أو لا.
وهو ما عرف به العلماء في كثير من الأمراض الوبائية؛ كالجُذام، والجرب، والجدري، ونحو ذلك:
قال العلامة أبو الخير العمراني في "البيان" (9/ 292، ط. دار المنهاج): [إن الله أجرى العادة بأن يخلق الداء عند ملاقاة الجسم الذي فيه الداء] اهـ.
وقال الإمام الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن" (9/ 2979، ط. مكتبة الباز): [العدوى: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلانٌ فلانًا من خلقه أو من عِلة به، على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية] اهـ.
أمر الشرع الشريف الإنسان باتقاء الأمراض المعدية، والفرار من المصابين بها؛ خوفًا من انتقال العدوى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري في "صحيحه". وفي رواية: «اتَّقُوا الْمَجْذُومَ كَمَا يُتَّقَى الْأَسَدُ» أخرجه ابن وهب في "جامعه"، والفاكهي في "فوائده" وأبو نعيم في "الطب النبوي" وابن بشران في "أماليه".
وعن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، أن النبي صلَّى الله عَليْهِ وآله وسلَّم قال: «لا تُدِيمُواْ النَظَرَ إلى المُجَذَّمِينَ، وَإِذَا كَلَّمْتُمُوهُمْ فَلْيَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ قِيدُ رُمْحٍ» أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" وأبو يعلى في "مسنده". وأخرجه ابن السُّنّي وأبو نعيم في "الطب النبوي" من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه مرفوعًا: «كَلِّمِ المَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ».
وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» أخرجه الإمام مسلم.
قال الإمام البدر العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (21/ 247، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَفِي قَوْله: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ»: اعلم أن الله تعالى جعل ذَلِك سَببًا؛ فحذَّر من الضَّرَر الَّذِي يغلب وجوده عِنْد وجوده بِفعل الله عز وجل] اهـ.
وقال الإمام زين الدين المناوي في "فيض القدير" (1/ 138، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [أي: احذروا مخالطته وتجنبوا قربه وفرُّوا منه كفراركم من الأسود الضارية والسباع العادية] اهـ.
والنهي عن المخالطة لمريض الجذام آنذاك؛ لأنه كان من العلل المعدية بحسب العادة الجارية؛ كما قال العلامة الكماخي الحنفي في "المهيَّأ في كشف أسرار الموطأ" (2/ 437، ط. دار الحديث)، فيدخل فيه ما كان في معناه من الأمراض المُعدية، ويكون ذلك أصلًا في نفي كل ما يحصل به الأذى، أو تنتقل به العدوى.
سبقت الشريعة الإسلامية إلى نظم الوقاية من الأمراض المعدية والاحتراز من تفشيها وانتشارها؛ منعًا للضرر، ودفعًا للأذى، ورفعًا للحرج؛ حيث أمرت باجتناب ذوي الأمراض المعدية ومخالطتهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» متفق عليه.
قال الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (8/ 412، ط. الأميرية): [وأما النهي عن إيراد الممرض: فمن باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابًا للهلاك أو الأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها] اهـ.
وبذلك تُرسي الشريعة الإسلامية مبادئ الحجر الصحي المتعارف عليه الآن، والذي يحدد حرية التنقل للشخص المُصاب بالمرض المعدي وعزله عن الأصحاء مدة من الزمان تستغرق في الغالب مدة احتضان المرض، وقد ثبت أن هذه الطريقة هي من أهم التدابير الوقائية والأساليب الاحترازية في الحد من انتشار الأمراض المعدية.
كما نهت الشريعة أيضًا عن الدخول إلى أرض انتشر فيها الوباء أو الخروج منها؛ حمايةً للأنفس وصيانةً لها من التعرض للتلف؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» متفقٌ عليه.
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (1/ 299، ط. المطبعة العلمية): [في قوله: «لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ»: إثبات الحذر والنهي عن التعرض للتلف، وفي قوله: «لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ»: إثبات التوكل والتسليم لأمر الله وقضائه، فأحد الأمرين تأديبٌ وتعليم، والآخر تفويضٌ وتسليم] اهـ.
وقد طبق المسلمون هذه القواعد عبر التاريخ، حتَّى أُقيمت المستشفيات والحجور الصحية الخاصة بالمجذومين، كما في عهد الوليد بن عبد الملك سنة (88 هــ/ 706م)؛ فيما قاله الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" (9/ 186، ط. دار إحياء التراث العربي)، حتى نقل في (12/ 364): أن سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، أمر الخليفة بإخراج المجذومين من بغداد لناحية منها؛ ليتميزوا عن أهل العافية.
النظافة أمر مطلوبٌ عقلًا وشرعًا وعرفًا، وهي باب من أبواب الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى، فمن أسمائه تعالى "القدوس"، وهو الْمُنزَّه عن كل نقص، والطاهر من كل عيب، ومن تخلق بشيء من صفاته ومعاني أسمائه الحسنى كان محبوبًا له مقربًا عنده؛ فقد أخرج الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ».
وقد حث الشرع الشريف على أهمية النظافة والتطهير؛ في الثوب والبدن والمكان؛ قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]، وقال سبحانه عن مسجد قباء: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، وجعل ذلك شرطًا في صحة الصلاة التي يقف فيها المسلم بين يدي ربه؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]. فلا تقبل صلاة أحد إلا بالطهارة.
كما جعل الشرع الشريف الطهارة شطر الإيمان في الأجر والثواب؛ تأكيدًا على أهميتها ومبالغة في الحث على فعلها؛ ففي الحديث: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح"، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم" (2/ 5، ط. دار الوفاء): [ينتهي تضعيف الأجر فيه إلى نصف أجر الإيمان.. فجاء بنصف الإيمان؛ لأنه تطهير من الحدث والأنجاس للوقوف بين يدي الله، فإذا طهر سره من الخواطر والأنجاس للمناجاة لله كمل إيمانه] اهـ.
وقد تضافرت النصوص والآثار حول هذا المعنى:
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببناء المَساجِدِ في الدُّورِ، وأن تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ" أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والترمذي وابن ماجه في "سننهما"، وابن حبان في "الصحيح".
وعن عائشة رضي الله عنها أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْإِسْلَامُ نَظِيفٌ فَتَنَظَّفُوا، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَظِيفٌ» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط".
قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (2/ 322، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«الْإِسْلَامُ نَظِيفٌ»: نقي من الدنس؛ «فَتَنَظَّفُوا» أي: نقوا ظواهركم من دنسٍ؛ نحو مطعمٍ وملبسٍ حرامٍ وملابسة قذرٍ، وبواطنكم بإخلاص العقيدة ونفي الشرك ومجانبة الأهواء، وقلوبكم من نحو غلٍّ وحقدٍ وحسدٍ «فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَظِيفٌ» أي: طاهر الظاهر والباطن] اهـ.
وعن عائشة رضي الله عنها أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ». قال زكريا: "قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة". زاد قتيبة: قال وكيع: "انتقاص الماء: يعني الاستنجاء" أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
ومع الأمر بالنظافة ودوام الحفاظ عليها؛ فإن الشرع الشريف قد أمر بطرق للوقاية من الأمراض، ومن أهم طرق الوقاية من الأمراض: غسل اليدين، وقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسل اليدين قبل الأكل وبعده؛ فقد أخرج أبو داود والترمذي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بَرَكَةُ الطَّعَامِ: الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ».
والمراد بالوضوء في هذا الحديث: هو غسل اليدين والفم، وتنقيتهم من القاذورات ومن الشحم والدسم؛ وذلك من باب إطلاق الكل، وهو الوضوء، على الجزء وهو غسل اليد والفم، والغسل قبله يكون تنقية لها مما لحق بها من استعمالها قبل الأكل في أعمال، فغسلها يكون نظافة لها وحماية للإنسان مما قد يلحق بالطعام من الأذى عند عدم الغسل، وغسلها بعده يكون مما لحق بها من الطعام وبقاياه.
بل قرر الشرع الشريف ذلك قبل عيادة المريض والدخول عليه؛ منعًا للأذى وسدًّا لباب الضرر؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، وَعَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مُحْتَسِبًا، بُوعِدَ مِنْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ خَرِيفًا» رواه أبو داود في "السنن"، والطبراني في "الأوسط".
ولأن كثير الأمراض والأوبئة تكون من المعدة، فقد حض الشرع الشريف الإنسان أن ينظم أمر طعامه وشرابه؛ فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن مقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مَلَأَ آدَمِيُّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ؛ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».
فالحديث الشريف يبين أن الشر في امتلاء المعدة بالطعام والشراب، ثم إن كان الإنسان لا محالة عن ملئه لمعدته، فجاء الشرع بتنظيم هذا الأمر بالقسمة الثلاثية، لكي تستقيم صحة الإنسان، ويحفظ نفسه من الأمراض التي يكون سببها الإكثار من الطعام والشراب.
كل هذه الأمور تدل على مزيد اهتمام الشريعة الإسلامية بأمر النظافة، حيث إنها باب لاكتساب محبة الله سبحانه وتعالى، وبيان ما يحفظ للإنسان حياته وصحته، من إرساء قواعد الحماية وطرق الوقاية من الأمراض والأوبئة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.