التحذير من الشائعات في النوازل والأزمات

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 01 مايو 2020
  • رقم الفتوى: 5191

السؤال

ما حكم ترويج الشائعات حال النوازل والأزمات؟ ففي ظل ظروف الوباء تنتشر بعض الشائعات والأكاذيب التي يحاول مروجوها بث الفتنة بين جموع الشعب المصري لإثارة البلبلة والذعر في نفوس المواطنين؛ كالقول بأن الدولة تمنع إقامة شعائر الله تعالى وتصد الناس عن المساجد، حيث تُصِر على إغلاق المساجد بحجة الوقاية من فيروس كورونا، وحين تأتي إجراءات التعايش مع الوباء مع اتخاذ وسائل الوقاية وإجراءات الحماية يتهمون الدولة بالسعي في زيادة أعداد الوفيات، ثم ينشرون الشائعات هنا وهناك بأنَّ هناك إصابات كثيرة بفيروس كورونا داخل مصر لم يتم الإعلان عنها، مع المحاولات المستمرة لبث الدعاية المضادة في صفوف الأطباء، تحت عنوان: "الجيش الأبيض بلا درع"؛ لتشتيت جهود الأطباء وتوهين عزمهم وإضعاف همتهم، وسط سيل من الإشاعات والأكاذيب بانتشار فيروس كورونا بالسجون المصرية؛ لإطلاق سراح المجرمين والمتطرفين والمفسدين، إلى غير ذلك من محاولات جماعات التطرف والإرهاب في استغلال وباء كورونا لتحقيق أهدافها الدنيئة، وتشويه جهود الدولة والمجتمع في مواجهة الوباء، والتشكيك في قدرات وإمكانات المؤسسات الوطنية على مواجهة الوباء، فكيف يمكن التصدي لهذه الشائعات والأكاذيب؟ وهل يجوز نشرها من غير تثبت؟ وما دور من يسمعها؟

نقل الشائعات والأخبار غير الموثوقة على وجه الجزم بها هو أمر محرم ومنهي عنه شرعًا، فإذا كان ذلك فيما يخص الشأن العام كان أشد خطرًا وأعظم أثرًا، ويزداد الأمر جرمًا وإثمًا إذا كان في أوقات الأزمات، أو كان نشرًا للبلبلة بين الناس وزعزعةً للاستقرار؛ لأنه حينئذ يكون من "الإرجاف" في الأرض، وهذا من كبائر الذنوب التي توعد الله أصحابها، ولعن مثيريها، وحاربهم أشد المحاربة، وقاتلهم أعظم المقاتلة، ويحرم تناقل هذه الأخبار غير الموثوقة وإشاعتها، سواء علم الإنسان بكذبها أم لم يعلم، ويزداد الأمر إثمًا وجرمًا إذا كان تناقلها في أمر العامة أو في أوقات الأزمات أو فيما يهدد أمن المواطنين وسلامتهم، وقد أرشد القرآن الكريم إلى السلوك القويم في دفع الفتن وثقافة حسن الظن، والأخذ على يد الخوارج المرجفين، وأعداء الوطن المنافقين.
وعلى المسلم أن يحذر من جماعات الفتنة وفلول الضلالة التي تسعى بالفساد والإفساد والشائعات الكاذبات، من خلال بعض القنوات المأجورةِ أفرادُها، المعلومةِ أغراضُها، المستعصيةِ أمراضُها، والتي يحاول سَدَنَتُها نشر الفتن، وزعزعة استقرار الوطن، عن طريق الخوارج كلاب النار الذين خرجوا على أوطانهم يرمونها بكل نقيصة هم بها أحق، ويتمنون لها كل بلية هم إليها أقرب. نسأل الله أن يقي الأمة من شرهم، وأن يرد كيدهم في نحرهم، وأن يحفظ بلاد المسلمين من كل وباء، ويرد عنها كل فتنة وشر وبلاء.

المحتويات

 

التحذير من الكذب

تضافرت النصوص الشرعية على حرمة نشر الأكاذيب والأقاويل المظنونة غير المُتثَبَّت من صحتها، فيما يُعرف بـ"ترويج الإشاعات"؛ قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15].

فوضعت الشريعة من الأسس والضوابط ما يضمن تجفيف منابعها منذ البداية، ثم القضاء عليها إذا انتشرت، فتواردت النصوص على حرمة الكذب وبيان ما يؤول إليه المتحدث بالكذب من سوء العاقبة؛ فقد أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».

ولذا فقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يتحدث المرء بكل ما سمع؛ فليس كل ما يقال حقًّا، فإذا تحدث الإنسان بكل ما يسمعه وقع في الكذب وترويج الباطل؛ لأنه ينقل دون تثبت أو تحقق؛ فأخرج الإمام مسلم في مقدمة "صحيحه" -واللفظ له-، وأبو داود في "سننه"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، وفي رواية أبي داود وابن حبان والحاكم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (1/ 75): [فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن، والكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، ولا يشترط فيه التعمد] اهـ.

التحذير من ترويج  الشائعات في النوازل والأزمات

كما قد حذرنا الشرع من تلقي الأخبار والأقوال دون التحقق والتثبت من صحتها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].

قال الإمام الخازن في "تفسيره" (4/ 178): [معنى الآية: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ أي: بخبر ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وقرئ: فتثبتوا؛ أي: فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قول الفاسق ﴿أَنْ تُصِيبُوا﴾ أي: كيلا تصيبوا بالقتل والسبي ﴿قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ أي: جاهلين حالهم وحقيقة أمرهم ﴿فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ أي: من إصابتكم بالخطأ نَادِمِينَ] اهـ.

وقال الجلال المحلي "تفسير الجلالين": [﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ صِدْقه مِنْ كَذِبه، وَفِي قِرَاءَة ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾ مِن الثَّبَات] اهـ.

ويندرج ترويج الإشاعات تحت النهي عن "القيل والقال" اللذين حذَّر منهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ».

ويدخل في "قيل وقال" الخوض في أخبار الناس، وحكايات ما لا يعنيه من أحوالهم وتصرفاتهم، فضلًا عن الترويج للأكاذيب والأضاليل وما يثير الفتن، فضلًا عن التحدث في الأمر العام بغير علم، والذي أنيط الحديث فيه لأهل الاختصاص.

فإذا كان ترويج الشائعات في أزمنة الأزمات لافتعال الاضطرابات، أو كان بغرض إحداث البلبلة في الوطن، ونشر الاضطراب والفتن، صار جرمه في الشرع أشد، ووزره على صاحبه أعظم، وتحول بذلك إلى كبيرة من كبائر الذنوب وهي "الإرجاف"، وهو مصطلح وَصفَتْ به الشريعةُ مَن يثير الشائعات بغرض خلخلة أمن الأوطان وبث الاضطراب أو الفزع في المجتمعات، فهو وإن كان في أصله شائعات كاذبة إلا أنها لما تعلقت بالدولة والوطن صارت حربًا تهدد أمن الناس؛ وهو ما يُلمَح من تقييد الإرجاف بكونه في المدينة، وقد لعنهم الله وتوعدهم بالقتل أينما كانوا، فقال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ۞ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: 60-61].

وأصل الإرجاف من الرجف وهو الحركة، فإذا وقع خبر الكذب فإنه يوقع الحركة بالناس، فسمي إرجافًا.
وذكر الماوردي في "تفسيره" (4/ 424، ط. دار الكتب العلمية): [أن الإرجاف التماس الفتنة، وعن قتادة: أن المرجفين هم الذين يذكرون من الأخبار ما تضعف به قلوب المؤمنين، وتقوى به قلوب المشركين] اهـ.

وقال ابن فورك في "تفسيره" (1/ 394، ط. جامعة أم القرى): [الرجفة: زعزعة الأرض تحت القدم، ورجف السطح من تحت أهله يرجف رجفًا، ومنه الإرجاف، وهو الإخبار بما يضطرب الناس لأجله من غير تحقق به. والإرجاف: إشاعة الباطل للاغتمام به] اهـ.

ووباء هذا الإرجاف أشد من الوباء، وبلواه أكبر من المرض وعدواه؛ فإنه إنما يصدر من عصابات التطرف وجماعات الفساد وفلول الخوارج الذين ينكرون على المسلمين حبَّهم لأوطانهم وانتماءَهم لبلدانهم، ويُربُّون أتباعهم على احتقار كل انتماء، والاستهانةِ بكل وطن؛ بدعوى أن الانتماء للدين ينفي كلَّ انتماءٍ ويلغي كلَّ وطنية؛ فنتج لديهم دين موازٍ، وأوطانٌ موازية، وانتماءات موازية، وأخلاقٌ موازية، وأُسَرٌ موازية، صَيَّرَهم الولاءُ لها في بَرَاءٍ من أهليهم وعَدَاءٍ مع مواطنيهم، وفصَلَتْهم شعوريًّا عن المجتمع، وقطَعتهم عن الانتماء إليه، وفَصَمَتْهم عن الأوطان، وأعمَتْهُم عن محاسنها وفضائلها، حتى صارت الوطنية عندهم وثنًا يُعبد من دون الله!! تعالى الله عما يُشوِّه به هؤلاء الظالمون أحكامَ شريعته.
والحق أن هؤلاء المرجفين لا يريدون دينًا ولا صلاحًا ولا إصلاحًا؛ فإن الناس لم يروا منهم إلا كل فساد وإفساد، والله تعالى كفيل بإبطال كيدهم واستئصال شأفتهم، بعد أن كشف للناس إجرامهم وشر فتنتهم، وليس الشأن فيهم؛ فقد كفى الله أرض الكنانة مؤنتهم، وأضعف قوتهم، وكسر شوكتهم، وإنما الشأن فيمن يتلقف هذه الشائعات المضحكة فيأخذَها مأخَذَ الجِد، أو يستمع إليها دون أدنى رد، أو ينشرها دون وعي بخطرها، ولا إدراك لسوء أثرها، مع ما يعرفه الجميع من إشادة كثير من دول العالم بحسن إدارة الدولة المصرية لملف هذا الوباء العالمي؛ فلم تشهد مصر بفضل الله تعالى ارتفاعًا حادًّا في عدد الإصابات، مما دعا منظمةَ الصحة العالمية إلى الإشادة باستجابة مصر القوية لمتطلبات ظروف الوباء، والتعامل بشفافية مع أعداد المصابين، مع جهود الأطباء المضنية وهم يعملون بتفانٍ لإنقاذ الأرواح، مع الوعي الإعلامي والثقافة الصحية بكيفية الوقاية؛ مع القرارات الحاسمة التي تعاملت بدقة مع مضاعفات الأزمة؛ لتصل مصر بذلك إلى معدلات عالمية مبهرة في التعامل مع الوباء.
ولو أدرك مروِّجو هذه الإشاعات عِظَم الجرم الذي يفعلونه بسبب الآثار السيئة لها على المجتمع لما تهاونوا بصنيعهم قط؛ فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»، ولا شك أن ترويج الإشاعات التي تمس أمن الناس على حياتهم يندرج تحت تلك الكلمات التي لا يلقي لها بالًا فيدخل بها صاحبها في سخط الله تعالى، والعياذ بالله.

كيفية التصدي لمروجي الشائعات والأكاذيب

علاج الإشاعات إنما هو بوأدها في مهدها قبل تفاقمها والامتناع عن إذاعتها، ولا بد للتثبت منها من الرجوع في شأنها إلى أولي الأمر وأهل العلم والخبرة قبل نشرها؛ حتى لا تكون وبالًا على المجتمع أو تسهيلًا للجرائم أو مثارًا للاضطراب، وإلى هذا أرشدنا الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، فأمرنا الله عز وجل برد الأمور في السَّرَّاء والضَّرَّاء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أولي الأمر والعلم الذين أقامهم الله تعالى في معرفة خباياها وسبر خفاياها قبل إذاعتها والتكلم فيها، حتى يكون الكلام عن حقيقة، والإذاعة عن بينة، والنقل عن تثبت وتحقق، ونبهنا سبحانه وتعالى إلى أن النكول عن ذلك اتباع للشيطان وخروج عن منهج الرحمن.
قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (5/ 291، ط. دار الكتب العلمية): [﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، أي: يستخرجونه وهم العلماء، أي: علموا ما ينبغي أن يُكتَم وما ينبغي أن يُفشَى] اهـ.
وقال الإمام النسفي في "مدارك التنزيل" (1/ 378، ط. دار الكلم الطيب): [﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ هم ناسٌ من ضَعَفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرةٌ بالأحوال، أو المنافقون؛ كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمنٍ وسلامةٍ أو خوفٍ وخللٍ ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أفشوه، وكانت إذاعتهم مفسدة، يقال: أذاع السر وأذاع به، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف؛ لأن (أو) تقتضي أحدهما، ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي ذلك الخبر ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ أي: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ يعني: كبراء الصحابة البصراء بالأنور أو الذين كانوا يؤمِّرون منهم ﴿لَعَلِمَهُ﴾ لَعَلِمَ تدبير ما أخبروا به ﴿الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها] اهـ.

ومن الوسائل التي اتخذها الإسلام للحد من إذاعة الشائعات والإرجاف في الأرض النهي عن سماعها، والبعد عن مواطن إثارتها؛ فقال تعالى ناعيًا هذا الخُلُق على بعض اليهود: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [المائدة: 41]، ونعى سبحانه على الذين يسمعون للمرجفين والمروجين للشائعات والفتن؛ فقال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 47].

قال الإمام البغوي في "تفسيره": [﴿وَلَأَوْضَعُوا﴾ أسرعوا، ﴿خِلَالَكُمْ﴾ في وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ أي: أسرعوا فيما يخل بكم ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ أي: يطلبون لكم ما تُفتنون به] اهـ.

وليتأمل الإنسان توجيهات المولى عز وجل التي يرشدنا من خلالها إلى السلوك الإسلامي القويم عند رواج الشائعات؛ خاصة تلك التي تمس أمن المجتمع وسلامة الوطن، وذلك في ثنايا معالجة القرآن الكريم لحادثة الإفك؛ في عشر آيات بينات، هنَّ النبراس من رب البريات، في التعامل مع الفتن والشائعات؛ حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ۞ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ۞ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ۞ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ۞ يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۞ وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۞ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۞ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۞ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 11-20].

فأولى الخطوات إذا راجت شائعة ما أن نوقن بحكمة الله تعالى في تقديرها، وأن قضاءه خيرٌ في مآله، وإن كانت الفتنة في ظاهرها شرًّا؛ كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: 11].
وثانيها: أن كل من اشترك في ترويج الشائعة مؤاخَذ بما تتسبب فيه من مآلات وعواقب على قدر مشاركته، وأن الأخذ على يد مروجي الشائعات إنما يكون بحسب أغراضهم ونياتهم وعلى قدر فسادهم وإفسادهم؛ كما يشير إليه معنى الثلاثي المزيد "اكتسب" الدال على التسبب في الشيء والسعي إليه؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ [النور: 11].
وثالثها: وجوب التقصي عن رؤوس الفتنة وصانعي الإثارة ومروجي البلبلة؛ لكسر شرهم، وقمع فتنتهم؛ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11].
ورابعها: وجوب حسن الظن بالنفس وبالغير؛ كما في قوله تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ [النور: 12].
وخامسها: التحقق من الخبر، ومطالبة مروجي الشائعة بأدلتهم عليها والسؤال عمن شهدها؛ كما قال تعالى: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النور: 13].
وسادسها: أن ترويج الأخبار من غير إسنادها إلى مصادرها أو الاعتماد على أدلةٍ أو براهينَ عليها هو شاهد الكذب وقرينة الإفك؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13].
وسابعها: أن الخائض في الشائعات دون تثبت على خطر عظيم، مع الإشارة إلى عدم المساواة بين المروِّج بقصد الإفساد، والمروج جهلًا وتقليدًا؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 14].
وثامنها: عرض الشائعات على العقل، وإمرارها تحت نظر الفكر بروية وتبصر؛ فإن التلقي بالألسنة شيء مذموم؛ لأنه فيه إشارة إلى إلغاء العقل؛ حيث يقول تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ [النور: 15].
وتاسعها: ألَّا يُحدِّث الإنسان إلا بما يعلم حقيقته؛ حتى لا يشارك في إثمه إذا ظهر كذبه؛ كما قال تعالى: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: 15].
وعاشرها: أن الاستهانة بالحكايات المرسلة عن البيِّنَات، والأحاديث الملقاة على عواهنها هو من العظائم عند الله تعالى، وإن حسبها الناس هينة لا تَبِعةَ عليها؛ كما قال تعالى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15].
وحادي عشرها: أن تسود بين الناس ثقافة المرجعية واحترام التخصص؛ في العلوم الدينية والدنيوية، والكونية والاجتماعية والإنسانية؛ بحيث يسارع الناس إلى الإنكار على من يتكلم فيما لا يحسنه، أو لا يدرك واقعه، أو لا يعرف خبره ولا يفهم حقيقته؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ [النور: 16].
وثاني عشرها: أن يقابل الناس الشائعات بالتكذيب المستمر؛ بحيث يحدث التوازن المجتمعي الصحي بين ناشريها ومنكريها، وقائليها ومبطليها؛ كما يشير إليه التوجيه الإلهي بالرد الفوري على ناشري الإفك؛ في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 16].
وثالث عشرها: الاستفادة من التجارب السابقة في وأد الفتن وقمع الشائعات؛ فإن المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين؛ كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 17].
ورابع عشرها: أن النية الصادقة في التثبت وحسن الظن سوف تظهر لأصحابها أماراتِ اليقين فيما يُنشَر، وتُبين لهم براهينَ الصدق فيما يُشاع، وأن اتباع المنهج الإسلامي في طلب الدلائل والبينات، على الدعاوى والشائعات، سيقي المجتمع من الفتن والآفات؛ قال تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 18].
وخامس عشرها: أن أصحاب الأغراض السيئة والقلوب المريضة لن يتمكنوا من إفساد المجتمع الذي يؤمن مواطنوه بأهدافهم النبيلة، ويسعون قدُمًا للعيش في أمن وسلام، ومودة ووئام؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: 19].
وسادس عشرها: أن اتباع هذه التعليمات كفيل بالصلاح والإصلاح؛ لأنها من عند الله الذي يعلم ما يصلح خلقه وما يفسدهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].
وسابع عشرها: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 20].

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن نقل الشائعات والأخبار غير الموثوقة على وجه الجزم بها هو أمر محرم ومنهي عنه شرعًا، فإذا كان ذلك فيما يخص الشأن العام كان أشد خطرًا وأعظم أثرًا، ويزداد الأمر جرمًا وإثمًا إذا كان في أوقات الأزمات، أو كان نشرًا للبلبلة بين الناس وزعزعةً للاستقرار؛ لأنه حينئذ يكون من "الإرجاف" في الأرض، وهذا من كبائر الذنوب التي توعد الله أصحابها، ولعن مثيريها، وحاربهم أشد المحاربة، وقاتلهم أعظم المقاتلة، ويحرم تناقل هذه الأخبار غير الموثوقة وإشاعتها، سواء علم الإنسان بكذبها أم لم يعلم، ويزداد الأمر إثمًا وجرمًا إذا كان تناقلها في أمر العامة أو في أوقات الأزمات أو فيما يهدد أمن المواطنين وسلامتهم، وقد أرشد القرآن الكريم إلى السلوك القويم في دفع الفتن وثقافة حسن الظن، والأخذ على يد الخوارج المرجفين، وأعداء الوطن المنافقين.
وعلى المسلم أن يحذر من جماعات الفتنة وفلول الضلالة التي تسعى بالفساد والإفساد والشائعات الكاذبات، من خلال بعض القنوات المأجورةِ أفرادُها، المعلومةِ أغراضُها، المستعصيةِ أمراضُها، والتي يحاول سَدَنَتُها نشر الفتن، وزعزعة استقرار الوطن، عن طريق الخوارج كلاب النار الذين خرجوا على أوطانهم يرمونها بكل نقيصة هم بها أحق، ويتمنون لها كل بلية هم إليها أقرب. نسأل الله أن يقي الأمة من شرهم، وأن يرد كيدهم في نحرهم، وأن يحفظ بلاد المسلمين من كل وباء، ويرد عنها كل فتنة وشر وبلاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة