ما حكم التحريم بالرضاع غير المباشر؟ فقد كفلت طفلة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وكان عمرها ستة أشهر، وأرضعتها زوجتي أكثر من خمس رضعات مشبعات، وتقوم بالرضاعة من زوجتي حتى الآن، فهل هذه الرضاعة تثبت المحرمية بيني وبينها؟ ولكم جزيل الشكر والاحترام. وقد أُرفق بالطلب تقريران يفيدان ذلك:
إحداهما: إقرار الزوجة.
والثاني: شهادة الطبيب الراعي للطفلة المكفولة.
ونصُّ إقرار الزوجة: [أقرُّ أنا/.. أني قمت بإرضاع الطفلة/.. أكثر من خمس رضعاتٍ مشبعات، وذلك عن طريق إفراغ لبن الثدي ووضعه في ببرونة؛ لامتناعها عن الرضاعة مباشرة، وهذا إقرار مني بذلك] اهـ.
وينص تقرير الطبيب المرفق: بأن [الأم/.. قامت بإرضاع الطفلة/.. أكثر من خمس رضعات مشبعات، وهذا تقرير وشهادة مني بذلك] اهـ.
إذا تم إرضاع الطفلة المذكورة خمس رضعات متفرقات فأكثر ترتب على هذا الرضاع الحرمة بينكَ وبينها كالحرمة المترتبة على النسب، من النظر والخلوة في السفر والحضر وغيره؛ لأنه بذلك الرضاع صارت المرضِعةُ -زوجتُك- أُمًّا لها، ولا فرق في ذلك بين ارتضاعها من ثديها أو ارتضاعها اللبن في جوفها عن طريق الببرونة؛ لأن المؤثر في التحريم كما ذكره العلماء هو حصول الغذاء باللبن؛ بما ينبتُ اللحم وينشزُ العظم، ويَسُدُّ الجوع، وهذا كما يحصل بالرضاعة المباشرة من ثدي المرأة، يحصل أيضًا بالببرونة وما في معناها، وهذا مستحسَنٌ شرعًا وعرفًا؛ لرفع الحرج عن الأسرة الكافلة في إحسان رعاية المكفول إبّان البلوغ وبعده، وإطلاق أيديهم في تمام التربية وحسن التوجيه، ورفع الإحساس بالغربة عن المكفول، وزيادة شعوره بالاندماج والانتماء.
المحتويات
مما تقرر شرعًا أن الرضاع ينزل منزلة النَّسَبِ في جملةٍ من الأحكام والآثار؛ كإثبات حُرمة النكاح والنظر، والخلوة في السفر والحضر؛ فتصير المرضِعة أُمًّا من الرضاع لِمَن أرضعَته خمسَ رضعاتٍ متفرقات مُدَّة الرضاع -على المختار للفتوى-: يحرم بها على أصولها وفروعها، ويصير زوجها أبًا له؛ قال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23].
قال الإمام الزمخشري في "الكشاف" (1/ 494، ط. دار الكتاب العربي): [نزَّل اللهُ الرضاعةَ منزلةَ النسب، حتى سمَّى المرضعةَ أمًّا للرضيع، والمُرَاضَعةَ أختًا، وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه، وأبواه جدَّاه، وأختُه عمتُه، وكلُّ وَلَدٍ وُلِدَ له من غير المرضعة قَبْلَ الرضاع وبعدَه فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدّتُه، وأختُها خالته، وكلُّ مَن وُلِدَ لها مِن هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومَن وُلِدَ لها مِن غيره فهم إخوته وأخواته لأمه] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (5/ 141، ط. دار الكتب العلمية): [والمتعلق بالرضاع: حرمةُ النكاح، وجواز النظر، والخلوة، وعدم نقض الطهارة] اهـ.
وعن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن عمها من الرضاعة يسمى أفلح استأذن عليها فَحَجَبَتْهُ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لها: «لَا تَحْتَجِبِي مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» متفقٌ عليه واللفظ لمسلم.
قال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الإقناع" (1/ 308): [فإن أرضعت امرأة الرجل جاريةً: حرمت على أَبيه وعلى ابنه وعلى جده وعلى بني بنيه وبني بناته، وعلى كل ولدٍ لَهُ ذكر، وولدِ ولده، وعلى كل جدٍّ لَهُ من قبل أَبِيهِ وأمه، وإذا كَانَ المرضع غلامًا: حرم عليه ولد الْمَرْأَة التي أرضعته، وأولاد الرجل الذي أرضع هذا الصبي بلبنه، وَلا تحل لَهُ عمته من الرضاعة وَلا خالته وَلا ابنة أخيه وَلا ابنة أخته] اهـ.
فالحرمة كما تثبتُ للمرضِع: تثبتُ أيضًا لزوجها عند جماهير العلماء، فيصير أبًا لمن رضع من زوجته؛ وذلك لأن اللبن منهما معًا، فكأنه حصل من بطنها وظهره من حين وطئه لها.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (6/ 241، ط. دار الكتب العلمية): [وإذا كانت الأم من الرضاع محرمة: كان كذلك الأب؛ لأن اللبن منهما جميعًا] اهـ.
وقال الإمام أبو البركات الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (2/ 504، ط. دار الفكر): [(وقُدِّرَ الطفلُ) الرضيع (خاصة) دون إخوته وأخواته (ولدا لصاحبة اللبن ولصاحبه) زوج أو سيد، فكأنه حصل من بطنها وظهره (من) حين (وطئه) لها الذي أنزل فيه] اهـ.
ولا يُشترط في إدرار اللبن من ثدي المُرضعة أن تكون ممن يلِد؛ لأن المعنى الذي يثبت به حرمة الرضاع حاصل بالتغذية، ومعلومٌ أن لبن النساء غذاء للأطفال؛ قال الإمام أبو القاسم ابن الجلَّاب المالكي (ت378هـ) في "التفريع" (1/ 434، ط. دار الكتب العلمية): [وإذا أرضعت المرأة التي لم تلد، والعجوز التي قعدت عن الولادة، صبيًّا: فرضاعُها يُحَرِّم] اهـ.
ضابط الرضعة يُرجَع فيه إلى العُرْف؛ لأن الشرع وردَ بها مطلقًا، ولم يَحُدَّها بزمنٍ ولا مقدار، فمرَدُّها للعُرْف؛ فما قُضِيَ عُرْفًا بكونه رضعةً أو رضعاتٍ اعتُبِر، وإلا فلا، ولا فرق في ذلك بين الارتضاع من ثدي المرأة مباشرةً، أو عن طريق إفراغ لبن ثديها ووضعه في فم الرضيع، فيما يُعرفُ بـ"الإيجار"؛ لأن المؤثر في التحريم هو حصول الغذاء باللبن؛ بما ينبتُ اللحم وينشزُ العظم؛ "لَأن اللَّبن لَا يَمُوت" كما قال أبو العالية فيما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، قال الإمام ابن قُتيبة في "غريب الحديث" (2/ 45، ط. مطبعة العاني): [أي: لا يبطل عمله بمفارقته.. ومعناه: قول الفقهاء: السعوط والوَجُورُ يحرمان ما يحرمه الرَّضَاع] اهـ.
والوَجُورُ: ما سُقِيَه الإنسان في وسط فمه؛ كما قال الإمام أبو بكر الأنباري (ت328هـ) في "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/ 305، ط. مؤسسة الرسالة)، أو ما صُبَّ في الحلق؛ كما قال الإمام نجم الدين النسفي (ت572هـ) في "طلبة الطلبة" (ص:49، ط. المطبعة العامرة).
قال العلامة ابن نُجيم الحنفي في "البحر الرائق" (3/ 238، ط. دار الكتاب الإسلامي): [إذا حلبت لبنها في قارورة: فإن الحرمة تثبت بإيجار هذا اللبن صبيًّا، وإن لم يوجد المصُّ، وإنما ذكره لأنه سبب للوصول، فأطلق السبب وأراد المسبب، فلا فرق بين المصِّ.. والوَجُورُ] اهـ.
وفي "المدونة" (2/ 295، ط. الكتب العلمية): [قال سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم.. أرأيت الوَجُورُ والسعوط من اللبن أيُحَرِّمُ في قول مالك؟ قال: أما الوَجُورُ: فأراه يُحَرِّمُ] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (3/ 143، ط. دار الكتب العلمية): [ويثبت التحريم بالوَجُورُ؛ لأنه يصل اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وانتشار العظم ما يحصل بالرضاع] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (3/ 221، ط. الكتب العلمية): [ويثبت التحريم بالوَجُورُ، وهو أن يصب اللبن في حلقه؛ لأنه ينشز العظم وينبت اللحم، فأشبه الارتضاع] اهـ.
والببرونة: زجاجة مركبة من وعاء يوضع به اللبن، وغطاء به حلمة يلتقمها الطفل عند إرضاعه، وقد يكون الإرضاع بها طبيعيًّا؛ بأن يكون بإفراغ لبن ثدي المُرضِعِ فيها ثم إلقامها الطفل -كما في الحالة المسؤول عنها-، وقد يكون صناعيًّا؛ عن طريق الألبان المجففة، والحالة الأولى (الطبيعية) لا تخرج عن معنى الوَجُورُ الذي تكلم عليه الفقهاء؛ بل هي أقرب في حصول المقصود بالرضاعة الطبيعية الخالصة؛ لاشتراكها مع الرضاع من الثدي في حصول معنى المَصِّ والتقاط الحلمة المُعدة لذلك، وهي طريقة ينصح بها الأطباء المتخصصون في كثيرٍ من الحالات التي يمتنع فيها الرضاع من الثدي مباشرةً لعلةِ مرضٍ أو نحوه، سواء كان بسبب الطفل أو مُرضعته، مثلها في ذلك مثل الحلمة الصناعية التي تضعها بعض النساء على ثُدِيِّهنَّ عند الرضاع.
والاتجاه إلى إرضاع المكفول أمرٌ مستحسنٌ شرعًا ومقبولٌ عُرفًا؛ وذلك لإثبات علاقة المحرمية بين المكفول وكافليه؛ من الكافلِ، وزوجته، وفروعهما، وأصولهما، فيصير بذلك من محارم الأسرة الكافلة، مما ييسر عليهم أمر كفالته وإتمام رعايته عند البلوغ وبعده بلا حرج.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإذا تم إرضاع الطفلة المذكورة خمس رضعات متفرقات فأكثر ترتب على هذا الرضاع الحرمة بينكَ وبينها كالحرمة المترتبة على النسب، من النظر والخلوة في السفر والحضر وغيره؛ لأنه بذلك الرضاع صارت المرضِعةُ -زوجتُك- أُمًّا لها، ولا فرق في ذلك بين ارتضاعها من ثديها أو ارتضاعها اللبن في جوفها عن طريق الببرونة؛ لأن المؤثر في التحريم كما ذكره العلماء هو حصول الغذاء باللبن؛ بما ينبتُ اللحم وينشزُ العظم، ويَسُدُّ الجوع، وهذا كما يحصل بالرضاعة المباشرة من ثدي المرأة، يحصل أيضًا بالببرونة وما في معناها، وهذا مستحسَنٌ شرعًا وعرفًا؛ لرفع الحرج عن الأسرة الكافلة في إحسان رعاية المكفول إبّان البلوغ وبعده، وإطلاق أيديهم في تمام التربية وحسن التوجيه، ورفع الإحساس بالغربة عن المكفول، وزيادة شعوره بالاندماج والانتماء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.