ما حكم التختم بالذهب للرجال؛ فقد سأل شافعي المذهب في (كتاب الزينة) من كتاب "تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم" ما نصه: وعن سعيد بن المسيب قال: قال عمر لصهيب رضي الله عنهما: ما لي أرى عليك خاتم الذهب؟ فقال: قد رآه من هو خير منك فلم يعبه. قال: من هو؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخرجه النسائي.
يؤخذ من فحوى هذه القصة -مع ما هو معلوم من حرص سيدنا عمر رضي الله عنه على الدين- أنها كانت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، إذ لو كانت هذه الحادثة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم لما سكت عمر بل رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كذا لو كان أبو بكر موجودًا رضي الله عنه لرفع سيدنا عمر رضي الله عنه الأمر إليه أيضًا.
فما قولكم دام فضلكم في الجمع بين هذا الحديث المفيد بظاهره الإباحة، وبين ما عليه أئمة المسلمين من تحريم خاتم الذهب على الرجال. مع العلم بأن هذا الحديث مروي في الصحاح. وهل للإنسان أن يعمل بظاهره خروجًا من الإثم ولو في حق نفسه؟ أفيدوا الجواب ولكم الثواب. وهل يجوز تقليد هذا الحديث ولو لغير ضرورة؟ أفيدوا ولكم من الله الأجر.
ما روي عن بعض الصحابة من أنهم لبسوا خاتم الذهب وإن كان صحيحًا، إلا أنه سابق على ما استقر عليه الإجماع بالتحريم، والجمع بين الحديث المذكور بالسؤال ونحوِه المفيدِ بظاهره إباحةَ التختم بالذهب للرجال، وبين الروايات التي تدل على التحريم وإجماع أئمة المسلمين على ذلك، له وجوه كثيرة، ومنها يُعلم أنه ليس للإنسان أن يعمل بظاهر هذا الحديث وأمثاله ولو في حق نفسه بعد انعقاد الإجماع على التحريم؛ لأن ظاهره متروك بعد أن استقر الأمر وحصل الإجماع على خلافه.
اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد أن الإمام البخاري في "صحيحه" ذكر في باب (خواتيم الذهب) ثلاثة أحاديث؛ كل واحد منها يدل على النهي عن لبس خاتم الذهب:
أولها: عن البراء بن عازب. ثانيها: عن أبي هريرة. ثالثها: عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهم.
وكتب على ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في شرحه "فتح الباري" -(10/ 317-318، ط. دار المعرفة، بيروت)- في هذا الموضوع ما نصه:
[قال ابن دقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون على خلافه. وكذا ما روي فيه عن خباب، وقد قال له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يُلقى. فقال: إنك لن تراه عليّ بعد اليوم. فكأنه ما كان بلغه النهي، فلما بلغه رجع.
قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال مثل ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضى إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتمًا. قلت: التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم.
وفيه: جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة، وعن جابر بن سمرة، وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد: نزعنا من يدي أبي أسيد خاتمًا من ذهب.
وأغرب ما ورد من ذلك: ما جاء عن البراء الذي روى النهي؛ فأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح، عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتمًا من ذهب"، وعن شيبة عن أبي إسحاق نحوه؛ أخرجه البغوي في "الجعديات".
وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب، فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسمًا فألبسنيه، فقال: «الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللهُ وَرَسُولُهُ». قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ.
قلت: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله: «الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللهُ وَرَسُولُهُ» وهذا أوْلى من قول الحازمي: لعلّ البراء لم يبلغه النهي، ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد: كان الناس يقولون للبراء: لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيذكر لهم هذا الحديث، ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْبَسْ مَا كَسَاكَ اللهُ وَرَسُولُهُ».
ومن أدلة النهي أيضًا ما رواه يونس، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن رجل له صحبة قال: جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده خاتم من ذهب، فقرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بقضيب فقال: «أَلْقِ هَذَا».
وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في (باب لُبْسِ الحرير)؛ حيث قال في الذهب والحرير: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهَا».
وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: «مَنْ مَاتَ مِنَ أُمَّتِي وَهُوَ يَلْبَسُ الذَّهَبَ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ ذَهَبَ الْجَنَّةِ» الحديث أخرجه أحمد والطبراني.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما ثالث أحاديث الباب ما يستدل به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره؛ للنهي عن التختم وهو قليل. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كَالدُّمْلُجِ وَالْمِعْضَدِ وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه.
وتناول النهي جميع الأحوال؛ فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب؛ لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما تقدم في الحرير من الرخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب؛ فإنه لو فاجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف، فإذا انقضت الحرب (فلينتقض)؛ لأنه كله من متعلقات الحرب، بخلاف الخاتم] اهـ.
وقال العلامة العيني في شرحه "عمدة القاري على صحيح البخاري" -(22/ 30، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت)- في هذا الموضوع ما نصه:
[وهذا الحديث والذي قبله يدلان على تحريم خاتم الذهب على الرجال، قال النووي: وأجمعوا على تحريمه على الرجال، إلا ما حُكي عن ابن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: فإنه أباحه، وعن بعضهم: أنه مكروه لا حرام. قلت: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم لبسوه؛ فمن الصحابة: أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وزيد بن حارثة، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب بن سنان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن يزيد، وأبو أسيد، ومن التابعين عكرمة مولى ابن عباس، وأبو بكر محمد بن عمرو بن حزم وآخرون. وأجيب عن فعل الصحابة رضي الله عنهم بجوابين:
أحدهما: أنه لعلهم لم يبلغهم النهي.
والثاني: لعلهم حملوا النهي على التنزيه، وأن طرحه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بخاتم الذهب للتنزه عن الدنيا، كما كان ينهى أهله عن الحلية مع أنها كانت مباحة للنساء، فإن قلت: أحد من روى النهي فيه البراء بن عازب كما مر حديثه الآن؟ قلت: قال شيخنا رحمه الله: الجواب عنه أن هذا ليس عملًا للبراء محضًا؛ فإما أنه كان البراء صغيرًا حين الإذن، ونحن نقول بجواز اللباس لغير البالغ على الخلاف المعروف فيه عندنا، وإما أن نجعلهما حديثين متعارضين فيحتمل أن يكون الإذن متقدمًا على المنع، فإن عرف التاريخ بذلك كان الحكم للنهي، وإلا فيرجع إلى الترجيح، ولا شك أن حديث النهي أصح؛ لأنه متفق عليه في "الصحيحين"، والحديث الذي يستند إليه البراء في تختمه بالذهب هو ما رواه أحمد في "مسنده" من رواته محمد بن مالك، وقال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب، وكان الناس يقولون: لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال البراء: بينما نحن عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وبين يديه غنيمة يقسمها سبي وحربي، فقال: فقسمها حتى بقي هذا الخاتم، فرفع طرفه إلى أصحابه، ثم خفض، ثم رفع طرفه فنظر إليهم، ثم خفض، ثم رفع طرفه فنظر إليهم، ثم قال: «أي براء»، فجئته حتى قعدت بين يديه، فأخذ الخاتم، ثم قبض على كرسوعي، ثم قال: «خُذ، إلبس مَا كساك الله وَرَسُوله» الحديث، وقال شيخنا محمد بن مالك: راويه عن البراء تفرد به عنه، وقد ذكره ابن حبان في "الضعفاء"، وقال: وكان يخطئ كثيرًا؛ لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، ومع هذا فقد ذكره ابن حبان أيضًا في "الثقات"، إلا أنه قال: لم يسمع من البراء شيئًا.
قال شيخنا: لكن ظاهر هذا الحديث سماعه منه، وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: لا بأس به. وقال: أو لعلّ البراء فهم التخصيص بإذنه له في لبسه، ومع ذلك فالصحيح الذي عليه الجمهور: أن العبرة بما رواه الراوي لا بما رآه. انتهى. قلت: العبرة عندنا بما رآه على ما عرف في موضعه. والله أعلم] اهـ.
وأقول: قد عُلِم مما تقدم عن ابن حجر أن ابن دقيق العيد قال أولًا:
وظاهر النهي التحريم. وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، كما أن العيني قال فيما تقدم عنه: وهذا الحديث والذي قبله يدلان على تحريم خاتم الذهب على الرجال.
وقال النووي -في "شرحه على صحيح مسلم" (14/ 65 ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت)-: [وأجمعوا على تحريمه على الرجال إلا ما حُكي عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم فإنه أباحه، وعن بعضهم أنه مكروه لا حرام] اهـ.
ومن ذلك يعلم: أن ما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم لبسوا خاتم الذهب وإن كان صحيحًا، لكنه كان سابقًا على ما استقر عليه الأمر وأجمعوا عليه من التحريم، وأن ما نقل مما يخالف ذلك فهو شأنه -بدليل قول ابن حجر فيما نقل عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم- أنه شذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون على خلافه.. إلخ.
وأما ما قاله ابن دقيق العيد من أن بعضهم قال: إن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه، وإن هذا يقتضي إثبات الخلاف؛ فقد أجاب عنه بالتوفيق الذي ذكره، كما أن دعوى النسخ ليست بصحيحة، بل الصحيح أن البراء بن عازب وغيره من الصحابة لبسوه، فيحتمل أن اللبس خصوصية لمن لبس فلا يؤثر على التحريم، ويحتمل أنه ناسخ للتحريم، ولكن جمهور الصحابة قائلون بالتحريم؛ فدل على أنهم اعتقدوا الخصوصية، وعليه استقر الأمر وانعقد الإجماع، كما أن الطعن على ما روي عن البراء من أن محمد بن مالك راويه عن البراء تفرد به، وقد ذكره ابن حبان في "الضعفاء"؛ فلا يؤثر على صحة الحديث؛ لأن ابن حبان كما ذكر محمد بن مالك في "الضعفاء"، فقد ذكره أيضًا في "الثقات"، وأيضًا مما أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتمًا من الذهب"، وما أخرجه البغوي في "الجعديات" عن شعبة، عن أبي إسحاق نحو ما ذكر يعلم أن محمد بن مالك لم يتفرد برواية هذا الحديث عن البراء، كما أن ما قالوه من أن العبرة بما رواه الراوي لا بما رآه، أو العبرة لما رآه على ما عرف في موضعه، فمحل ذلك إذا لم يكن هناك أحاديث أُخر مروية عن غير ذلك الراوي الذي رأى خلاف ما روى، وهنا قد روي لبس خاتم الذهب عن جماعة من الصحابة غير البراء بن عازب، كما أنه روى النهيَ عن لبس خاتم الذهب جماعةٌ كثيرون من الصحابة غير البراء بن عازب كما علم مما تقدم، فلم تبق شبهة في أن جماعة من الصحابة والتابعين لبسوه، وأن بعضًا قال بحله، وبعضًا قال بكراهته، لكن الذي قاله الأئمة واستقر عليه الأمر وأجمع عليه الناس بعد ذلك هو التحريم والعمل بأحاديث النهي؛ فكان هو الذي عليه المعول.
ومن ذلك يُعلم أن قول صهيب لعمر رضي الله عنهما: "قد رآه من هو خير منك فلم يعب". قال: من هو؟ قال: "رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، كان وقت وجود الخلاف، ومن المعلوم أن الإنكار إنما يكون في المجمع عليه، وفي خلافة عمر رضي الله عنه لم يكن إجماع على التحريم، والصحيح عند الأصوليين أن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق.
ومن ذلك يُعلم الجمع بين الحديث المذكور بالسؤال وأمثاله، وبين ما عليه أئمة المسلمين من تحريم خاتم الذهب على الرجال، وأنه ليس للإنسان أن يعمل بظاهر الحديث وأمثاله ولو في حق نفسه بعد انعقاد الإجماع على التحريم؛ لأن ظاهره متروك بعد أن استقر الأمر وأجمع الناس على خلافه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.