ما حكم صلاة المسلمين في الكنائس؟
صلاة المسلم في الكنيسة جائزة شرعًا كغيرها من بقاع الأرض، وأجمع العلماء على صحتها بالشروط المعتبرة في صحة الصلاة؛ إذ هي داخلة في عموم ما امتنَّ الله به على هذه الأمة المحمدية؛ من أنه جعل لها الأرض كلها مسجدًا، وقد طبَّق ذلك العلماءُ سلفًا وخلفًا ورخَّصوا فيه عبر القرون. وما ورد من امتناع بعض السلف عن الصلاة في الكنائس فإنما هو لوجود التماثيل، وهو محمول على الكراهة لا على التحريم.
المحتويات
مما امتنَّ الله تعالى به على هذه الأمّة: أن جعل لها الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا؛ فأيّما مسلم أدركته الصّلاة في أي موضع طاهر فله أن يصلي فيه، بالشروط المعتبرة في صحة الصلاة؛ فعن جـــابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» متفقٌ عليه.
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (1/ 146، ط. المطبعة العلمية): [وإنما جاء قوله: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» على مذهب الامتنان على هذه الأمة؛ بأن رخص لها في الطهور بالأرض، والصلاة عليها في بقاعها، وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون إلا في كنائسهم وبِيَعِهم] اهـ.
وقال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم" (2/ 437، ط. دار الوفاء): [وأما كونها مسجدًا: فقيل: إن من كان قبله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء كانوا لا يصلون إِلا فيما أيقنوا طهارته من الأرض، وخص نبينا وأمته بجواز الصلاة على الأرض إِلا ما تيقنت نجاسته منها] اهـ.
وقال العلامة القاري في "مرقاة المفاتيح" (9/ 3675، ط. دار الفكر): [صرح بعموم هذا الحكم وفرَّع على ما قبله بقوله: «فَأَيُّمَا رَجُلٍ» أي: شخص «مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ»؛ أي: وجبت عليه ودخل وقتها، في أي موضع «فَلْيُصَلِّ» أي: في ذلك الموضع، بشروطه المعتبرة في صحة الصلاة] اهـ.
ويدخل في عمومِ الأرضِ: الكنائسُ والصوامع وغيرها من دور العبادات، والتي يُذكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40-41].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الصوامع: التي تكون فيها الرهبان، والبِيَع: مساجد اليهود، وصلوات: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين" أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير.
قال مقاتل بن سليمان في "تفسيره" (2/ 385، ط. دار الكتب العلمية): [كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيرًا في مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عنها] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 89، ط. مكتبة الرشد): [(باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»).. الحديث يدل أن هذه الأبواب المتقدمة المكروه الصلاة فيها ليس ذلك على التحريم والمنع؛ لأن الأرض كلها مباحة الصلاة فيها بكونها له مسجدًا، فدخل في عمومها الكنائس والمقابر] اهـ.
وقال العلامة ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (5/ 508، ط. دار الفلاح): [وهو دالٌّ على أن الأبواب السالفة الكراهة فيها ليس على المنع؛ لأن الأرض كلها مباحة الصلاة فيها بكونها له مسجدًا، وقد دخل في عمومها الكنائس وغيرها مما سلف إذا كانت طاهرة] اهـ.
علماء الأمة مجمعون على جواز الصلاة في الكنائس ودور العبادة لغير المسلمين، ما دامت شروط الصلاة متحققة؛ قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 229، ط. وزارة أوقاف المغرب): [أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة في موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة] اهـ.
وقد طبَّق ذلك العلماءُ سلفًا وخلفًا، ورخَّصوا فيه عبر القرون؛ لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» رواه البخاري.
فروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن بكرٍ، قال: كتبتُ إلى عمر رضي الله عنه من نجران: لم يجدوا مكانًا أنظف ولا أجود من بيعة؟ فكتب: "انضحوها بماءٍ وسدرٍ وصلوا فيها".
وعن الشعبي، أنهم قالوا: لا بأس بالصلاة في البيع.
وعن حجاج قال: سألت عطاء عن الصلاة في الكنائس والبيع، فلم ير بها بأسًا.
وعن عثمان بن أبي هند قال: رأيت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يؤم الناس فوق كنيسة والناس أسفل منه.
وعن إسماعيل بن رافع، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يؤم الناس في كنيسة بالشام.
وعن أزهر الحراني، أن أبا موسى رضي الله عنه، صلى في كنيسة بدمشق، يقال لها: "كنيسة نَحْيَا".
وروى الإمام ابن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والخلاف" (2/ 194، ط. دار طيبة): [أن أبا موسى رضي الله عنه صلى بحمص في كنيسة تدعى نحيا ثم خطبهم] اهـ.
وقال: [وممن رخَّص في الصلاة في البيَع: الحسن، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، ورخص الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن يصلى في كنائس اليهود والنصارى.
قال أبو بكر: الصلاة في الكنائس جائز؛ لدخولها في جملة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (ص: 504، ط. دار العاصمة):
[روي عن عمر رضي الله عنه: "أنه صلى في كنيسة بالشام" رواه حرب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه لم يكن يرى بأسًا بالصلاة في البيع إذا استقبل القبلة".
وعن أبي موسى رضي الله عنه: "أنه صلى بحمص في كنيسة تدعى كنيسة حنا ثم خطبهم".
وعن أبي راشد التنوخي قال: "صلى المسلمون حين فتح حمص في كنيسة النصارى حتى بنوا المسجد" رواهن سعيد.
ولم يبلغنا عن صحابيٍّ خلاف ذلك، مع أن هذه الأقوال والأفعال في مظنة الشهرة.
ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا»، ولم يستثن البيَع والكنائس فيما استثناه] اهـ.
ومن امتنع من العلماء من الصلاة في الكنائس فإنما ذلك إذا كان فيها تماثيل، غير أن ذلك على سبيل الكراهة. وأجاز جماعة من العلماء الصلاة في الكنائس ولو كان فيها تماثيل من غير كراهة.
ففي "صحيح البخاري" أن عمر رضي الله عنه قال: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور"، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة، إلا بيعة فيها تماثيل.
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 89، ط. مكتبة الرشد):
[اختلف العلماء في الصلاة في البيع والكنائس:
فكره عمر وابن عباس رضي الله عنهم الصلاة فيها من أجل الصور، وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: انضحوها بماء وسدر وصلوا، وهو قول مالك.. وكره الصلاة فيها الحسن.
وأجاز الصلاةَ فيها النخعيُّ، والشعبي، وعطاء، وابن سيرين، ورواية عن الحسن، وهو قول الأوزاعي، وصلى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في كنيسة يوحنا بالشام.
وقال المهلب: هذا الباب غير معارض للباب الذي قبله (باب: من صلى وقدامه نار أو تنور)، وقول عمر وابن عباس رضي الله عنهم: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور"، فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعوه إليه] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 227): [وقد وردت السنة بإباحة اتخاذ البيع والكنائس مساجد.. فلم يكره عمر ولا ابن عباس رضي الله عنهم ذلك إلَّا من أجل ما فيها من التماثيل] اهـ.
وقال الإمام البغوي في "شرح السنة" (2/ 413، ط. المكتب الإسلامي): [ولا بأس بالصلاة في البيع، كان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل، فإن كان فيها تماثيل، خرج فصلى في المطر] اهـ.
نصَّ الحنابلة على جواز الصلاة في الكنيسة ولو كان فيها صور؛ قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 57، ط. مكتبة القاهرة): [فصل: ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، رخص فيها الحسن، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وروي أيضًا عن عمر وأبي موسى رضي الله عنهما، وكره ابن عباس رضي الله عنهما ومالك الكنائس من أجل الصور.
ولنا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في الكعبة وفيها صور، ثم هي داخلة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأينمَا أدْرَكَتكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ؛ فإنه مَسْجدٌ»] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (3/ 313، ط. هجر): [وله دخول بِيعةٍ وكنيسةٍ والصلاةُ فيهما، مِن غير كراهةٍ، على الصحيحِ مِن المذهبِ] اهـ.
وصلاة المسلم في الكنيسة مع وجود التماثيل فيها لا تقتضي إقراره على ما يخالف الإسلام من عقائد؛ ولذلك سمح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنصارى نجران بالصلاة وإقامة طقوسهم في مسجده الشريف، على الرغم من الخصوصية الدينية لهذه الطقوس والشعائر، ولم يقل أحد إن ذلك يوجب دخولهم في الإسلام.
فروى ابن إسحاق في "السيرة" -ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" واللفظ له، والبيهقي في "دلائل النبوة"- عن محمد بن جعفر بن الزبير: أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة؛ فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جُبَبٌ وأردية في جَمَالِ رِجَالِ بلحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم، وقد حانت صلاتهم؛ فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، -زاد في "السيرة" و"الدلائل": فأراد الناس منعهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُم»، فصلَّوْا إلى المشرق.
وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث؛ فانتفت علة التدليس، وأسند محمد بن جعفر الرواية عن بعض مَن رأى وفد نجران مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -كما في رواية ابن جرير المسوق لفظُها- فانتفت علة الإرسال، ولذلك فقد صحح ابن القيم هذا الحديث في كتابه "أحكام أهل الذمة" (1/ 397، ط. رمادي للنشر بالدمام).
وكما أن السماح لغير المسلمين بممارسة شعائرهم لا يقتضي الرضا بها، فكذلك الصلاة في الكنائس لا تقتضي الإقرار على ما يخالف العقيدة الإسلامية.
وقد ذكر العلامة المؤرخ ابن خلدون في "تاريخه" (2/ 268، ط. دار الفكر) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه امتنع من الصلاة في كنيسة القيامة ببيت المقدس، وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردًا، ثم قال للبطريرك: "لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر"، وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها.
بناءً على ذلك: فصلاة المسلم في الكنيسة جائزة شرعًا كغيرها من بقاع الأرض، وأجمع العلماء على صحتها بالشروط المعتبرة في صحة الصلاة؛ إذ هي داخلة في عموم ما امتنَّ الله به على هذه الأمة المحمدية؛ من أنه جعل لها الأرض كلها مسجدًا، وقد طبَّق ذلك العلماءُ سلفًا وخلفًا ورخَّصوا فيه عبر القرون. وما ورد من امتناع بعض السلف عن الصلاة في الكنائس فإنما هو لوجود التماثيل، وهو محمول على الكراهة لا على التحريم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.