ما حكم اللعب بالشطرنج؟ وهل يختلف حكمه عن حكم اللعب بالنرد عند الفقهاء؟ أفيدونا أفادكم الله.
اللعب بالشطرنج مُباحٌ عند جماهير العلماء سلفًا وخلفًا، ولا شيء فيه ما لم يكن قمارًا، أو سببًا في إسقاط المروءة، أو مفوِّتًا للواجبات والمهمات، أو منقطعًا به عن العبادات. وقد أقره جمعٌ من الصحابة والتابعين، وتبعهم جماعة من الفقهاء والمحدِّثين؛ حتَّى شبَّه بعض الفقهاء هذا القول بالإجماع، وذلك لِما وضعت له هذه اللعبة من التدبير والتخطيط وإعمال العقل وتنشيط الذهن، بخلاف النرد على المال؛ لِما فيه من المقامرة المحرمة.
وما ورد في النهي عنها من آثار عن بعض الصحابة والتابعين: فليست على إطلاقها في الحرمة، بل هي محمولة على الانشغال عن الصلاة عند سماع الآذان، أو ذكر الفحش من الكلام عند اللعب بها، أو تشابه صورتها بالتماثيل المعبودة عند بعض الطوائف.
والنصوص التي جاءت باستثناء بعض أشكال اللعب المباح لا تفيد حصر الإباحة فيها، وإنما هي تنبيه على مشروعية ما يفيد من اللعب ونهي عما لا يفيد، وإلَّا فقد رغَّب الشرعُ الشريف إلى تعلم بعض الرياضات المشتملة على المنافع والمصالح مع أنها لم تذكر في الخصال الواردة في الحديث، واللعب بالشطرنج داخل ضمن هذه المعاني؛ لِما تضمنه من معنى التنبيه على مكائد الحرب ووجوه الشدِّ والحزم وتدبير الجيوش.
المحتويات
الشِّطْرَنجْ أو السِّطْرَنجْ: كلمة فارسيّة مُعرَّبة هي اسم لُعبةٍ بين طرفين في صورة جيشين متحاربين وفقَ قواعد مُعيَّنة، وهي أداةٌ للهو والتسلية، وقد اخترعها -فيما يُقال- رجلٌ يُقال له: "صِصَّةُ بنُ داهر" لملكٍ من ملوك الفرس، ففرح بها حتى إنه أدخلها دور العبادة، وفضّلها الحُكَماء على النرد؛ لِمَا فيها من إعمال الفكر وشحذ الذهن، بخلاف النرد.
قال العلَّامة الفيروزآبادي في "تحبير الموشِّين في التعبير بالسّين والشّين" (ص: 43، ط. دار قُتيبة): [الشِّطرنج والسِّطرنج -بكسر أولهما- اللُعبة المعروفة التي اخترعها صصَّة بن داهر الهندي للمَلك شِهرام -بكسر الشين المعجمة-، وكان أَرْدَشِير بن بابِك أول ملوك الفرس الأخيرة قد وضع النَّرْد، ولذلك قيل: النَّرْدشير، فافتخرت الفرس بوضعه، فوضع صصَّة المذكور الشطرنج لشِهْرَام، فقضت حكماء العصر جميعًا بترجيحه على النرد، وفرح بها شِهرام كثيرًا وأمر أن يكون في بيوت الديانات، ورآها أفضلَ ما عُلم] اهـ.
الشطرنج والنرد وإن كانتا تشتركان في أنهما أداتان للهو، غير أن في الشطرنج شحذًا للعقل، وتنشيطًا للذهن، وتقويةً للفكر، بخلاف النرد؛ الذي يقوم اللعبُ به على محض الحظ والمخاطرة.
قال القاضي عياض المالكي (ت544هـ) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 202، ط. دار الوفاء):
[وقد قال بعض العلماء: كأن الأوائل لَمّا نظروا إلى أمور الدنيا فوجدوها تجري على أسلوبين مختلفين: منها ما يجري بحكم الاتفاق، ومنها ما يجري بحكم السعي والتخيل.
فوضعوا النرد مثالًا لِمَا يجري من أمور الدنيا بحكم الاتفاق؛ لتشعر به النفس وتتصداه.
ووضعوا الشطرنج مثالًا لِمَا يجري من أمور الدنيا بحكم السعي والاجتهاد؛ لتشعر النفس بذلك، وتنهض الخواطر إلى عمل مثله مِن المطلوبات] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدامة الحنبلي (ت620هـ) في "المغني" (10/ 151، ط. مكتبة القاهرة): [ويفارق الشطرنجُ النردَ من وجهين: أحدهما: أن في الشطرنج تدبيرَ الحرب، فأشبه اللعبَ بالحراب، والرميَ بالنشاب، والمسابقة بالخيل. والثاني: أنَّ المعول في النرد ما يخرجه الكعبتان؛ فأشبه الأزلام، والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره؛ فأشبه المسابقة بالسهام] اهـ.
وقال العلَّامة ابن حجر الهيتمي الشافعي (ت974هـ) في "تحفة المحتاج" (10/ 216، ط. المكتبة التجارية): [وفارق الشطرنجَ: بأن معتمده الحسابُ الدقيق والفكر الصحيح؛ ففيه تصحيح الفكر، ونوع من التدبير. ومعتمدُ النَّرْدِ: الْحَزْرُ والتخمين المؤدي إلى غاية من السفاهة والحمق] اهـ.
ولأجل هذا الفرق بين النرد والشطرنج كان اختلافُ العلماء في حكم اللعب بالشطرنج أوسعَ وأيسرَ من اختلافهم في حكم اللعب بالنَّرد.
فمن أجاز اللعب بها من السلف والفقهاء والمُحدِّثين نظر إلى هذا الفرق الجوهري بين اللعبتين:
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (2/ 242، ط. المطبعة العلمية): [وقد رخَّص بعض العلماء في اللعب بالشطرنج، وزعم أنَّه قد يُتبَصَّرُ به في أمر الحرب ومكيدة العدو] اهـ.
وقال العلَّامة أبو بكر السمرقندي الحنفي (ت540هـ) في "تحفة الفقهاء" (3/ 345، ط. دار الكتب العلمية): [وَبَعض أَصْحَاب الحَدِيث أباحوا اللّعب بالشطرنج؛ لِمَا فِيهِ من تشحيذ الخاطر] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "التمهيد" (13/ 181، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [وأما الشطرنج: فاختلاف أهل العلم في اللعب بها على غير اختلافهم في اللعب بالنرد؛ لأن كثيرًا منهم أجاز اللعب بالشطرنج ما لم يكن قمارًا: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن المنكدِر، وعروة بن الزبير، وابنه هشام، وسليمان بن يسار، وأبو وائل، والشعبي، والحسن البصري، وعلي بن الحسن بن علي، وجعفر بن محمد، وابن شهاب، وربيعة، وعطاء؛ كل هؤلاء يجيز اللعب بها على غير قمار] اهـ.
وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (3/ 10، ط. دار الكتب العلمية): [قول الشافعية: أنه يخالف النرد؛ لأنَّ فيه إكدادَ الفهم، واستعمال القريحة، والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه، كالاستقسام بالأزلام] اهـ.
وقال الإمام العمراني الشافعي في "البيان" (13/ 289، ط. دار المنهاج): [أصل النرد وضع على القمار، والقمار مُحَرَّم، ويخالف الشطرنج؛ فإنه موضوع على تدبير الحرب والقتال، وذلك مباح] اهـ.
وقال العلَّامة شهاب الدين البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (6/ 116، ط. دار الوطن):
[وقال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص عمر البلقيني رحمه الله وأعاد علينا من بركاته، ومن خطه نقلت: ليس بحرام، وقد كرهه جمع من العلماء، ومن يقول بالتحريم يستدل له بالقياس على النردشير الذي جاء في الخبر ما يقتضي تحريمه، وقد جاء عن بعض السلف أنه مرَّ بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون!
والقياس مردود؛ بأنَّ النرد ليس فيه الفكرة التي في الشطرنج من الأمور التي يعرفها الحُذّاق.
ولقد أحسن من قال: إذا سلم المال من الخسران، واللسان من البهتان، والصلاة من النسيان، فهو أنس بين الخلان، فلا يوصف بالحرمان] اهـ.
واللعب بالشطرنج وارد عن جماعات من السلف؛ حتى عدَّ بعض الفقهاء ذلك "أشبه بالإجماع" على إباحته، فمن الصحابة: عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عبَّاس، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن المنكدر، وعروة بن الزبير، وابنه هشام، وسليمان بن يسار، وأبو وائل، والشعبي، والحسن البصري، وعلي زين العابدين، وجعفر بن محمد، وابن شهاب، وربيعة، وعطاء، رحمهم الله:
فروى الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: لعبَ سعيد بن جبير بالشطرنج من وراء ظهره، فيقول: "بأيش دفع كذا؟ قال: بكذا، قال: ادفع بكذا".
وقال الإمام الشافعي: "كان محمد بن سيرين وهشام بن عروة يلعبان بالشطرنج استدبارًا".
وعن معقل بن مالك الباهلي قال: خرجت من المسجد الجامع فإذا رجل قد قربت إليه دابة فسأله رجل: ما كان الحسن يقول في الشطرنج؟ فقال: "كان لا يرى بها بأسًا، وكان يكره النردشير".
وقال معمر: "بلغني أن الشعبي كان يلعب بالشطرنج، ويلبس ملحفة، ويرخي شعره".
وعن عطاء الخُشْك، قال: "كنا مُحتَبَسينَ في السجن، فكنا نلعب الشطرنج، وكان ابن سيرين يَمُر بنا فيقول: "ادفع الفرس افعل كذا" يعني: في الشطرنج". أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء".
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (17/ 178-179، ط. دار الكتب العلمية):
[واستدل من أباحها وحللها: بانتشارها بين الصحابة والتابعين إقرارًا عليها، وعملا بها، فروى الخطيب مولى سليمان بن يسار قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بنا ونحن نلعب بالشطرنج فيسلم علينا ولا ينهانا.
وروى الضحاك بن مزاحم قال: رأيت الحسن بن علي عليهما السلام مرَّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: "ادفع ذا ودع ذا".
وروى أبو راشد قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يدعو غلامًا فيلاعبه بالشطرنج.
وروي عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما: أنه كان يجيز الشطرنج ويلعب بها.
وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يلعب بالشطرنج.
فهؤلاء خمسة من الصحابة أقروا عليها ولعبوا بها.
وأما التابعون: فروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يلعب بها.
وروى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب بها استدبارًا. قال المزني: فقلت للشافعي: فكيف كان يلعب بها استدبارًا؟ فقال: كان يوليها ظهره ويقول للغلام: بماذا دفع؟ فيقول: بكذا، فيقول: ائت بكذا.
وروى الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه كان يلاعب أهله بالشطرنج.
وروى أبو لؤلؤة قال: رأيت الشعبي يلعب بالشطرنج مع الغرماء.
وروى راشد بن كريب قال: رأيت عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أقيم قائمًا في لعب الشطرنج.
ورُوي أنَّ محمد بن سيرين كان يلعب بالشطرنج وقال: هي لُبُّ الرجال.
وإذا اشتهر هذا عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين وقد عمل به معهم من لا يحصى عددهم من علماء الأمصار وفضلائهم من حذفنا ذكرهم إيجازًا: خرج من حكم الحظر وكان بالإجماع أشبه] اهـ.
بينما حظرَ اللعبَ بالشطرنج جماعةٌ من الفقهاء، مستدلين على ذلك ببعض الآثار التي يفيد ظاهرُها النهيَ عن اللعب بها؛ كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلَّا ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ»، وفي رواية: «وَكُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْحَقِّ» رواه الإمام أحمد في "المسند" من حديث عقبة بن عامر الجُهني رضي الله عنه.
وأمّا ما ورد في تحريم اللعب الشطرنج من أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فلم يصح منها شيء.
قال الحافظ زكي الدين المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 24، ط. دار الكتب العلمية): [وقد ورد ذكر الشطرنج في أحاديث لا أعلم لشيء منها إسنادًا صحيحًا ولا حسنًا والله أعلم] اهـ.
أما الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين فمنها ما يلي:
قال الإمام عليٌّ رضي الله عنه: "النَّرْدُ أَوِ الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف".
ومر رضي الله عنه على قوم يلعبون الشطرنج فقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها" أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: "لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ" أخرجه البيهقي في "الآداب".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل عن الشطرنج فقال: "هو شرُّ من النرد" أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".
وقد فهم المحققون من هذه الآثار وغيرها أنَّ النهي الوارد ليس على إطلاقه، ووجَّهوا النهي عن اللعب بها إذا كان بالمقامرة أو المداومة عليها، أو الانشغال بها عن أوقات الفرائض، أو الاستخفاف بالكلام عند اللَّعِب بها، أو نحو ذلك:
فذهبوا إلى أن الخِصال الثلاثة الواردة في الحديث وهي تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ: لا تفيد الحصر لما هو مباحٌ من اللَّعِب والنهي عن غيرها، وإلَّا فقد رغَّب الشرعُ الشريف إلى تعلم بعض الرياضات المشتملة على المنافع والمصالح، وهي لم تذكر في الخصال الواردة في الحديث؛ بل إنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مارسَ بعض الرياضات مع أصحابه الكرام رضي الله عنهم:
فعن ابن أبي مُليكة، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم دخل هو وأصحابه رضي الله عنهم غديرًا، ففرَّقهم فرقتين، ثم قال: «لِيَسْبَحْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى صَاحِبِهِ»، فسبح كل رجل منهم إلى صاحبه، حتى بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وأبو بكرٍ رضي الله عنه، فسبح النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إليه حتى احتضنه، ثم قال: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنَّهُ صَاحِبِي كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ، وَالْمَرْأَةَ الْمِغْزَلَ» رواه البيهقي في "شعب الإيمان".
وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهما: "أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمُ الْعَوْمَ، وَمُقَاتِلَتَكُمُ الرَّمْيَ" أخرجه الإمام أحمد في "المُسند"، وابن حبَّان في "الصحيح".
وكتب أيضًا إلى أهل الشام: "أن علِّموا أولادَكُم السِّباحة والرَّمي والفروسية" رواه أبو إسحاق القراب في "فضائل الرمي".
وإنما اختصت هذه الخصال الثلاثة بالذكر؛ لأنَّ كل واحدة منها إما أنها تُعين على حقٍّ أو تؤدي إليه، وقد نصَّ العلماء على دخول ما تضمَّن معنى هذه الخصال تحت حكمها؛ كالمثاقفة بالسلاح والشدِّ على الأقدام ونحو ذلك:
قال الإمام الخطَّابي في "معالم السنن" (2/ 242، ط. المطبعة العلمية): [وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم هذه الخلال من جملة ما حرُم منها لأنَّ كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها مُعينِةً على حقٍّ أو ذريعة إليه ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشد على الأقدام ونحوهما مما يرتاض به الإنسان فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو] اهـ.
واللَّعب بالشطرنج داخل ولا بد ضمن هذه المعاني المباحة؛ لِما فيه من التنبيه على مكائد الحرب ووجوه الحزم وأخذ التدابير، وهذا أقرب إلى أن يكون مستحبًّا منه إلى أن يكون محرَّمًا:
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (17/ 179): [ولا يمنع أن يكون قياسًا على ما استثناه الرسول من اللعب؛ لأن فيها تنبيها على مكائد الحرب ووجوه الحزم وتدبير الجيوش. وما بعث على هذا، إن لم يكن ندبًا مستحبًّا فأحرى أن لا يكون حظرًا محرمًا] اهـ.
وقال العلَّامة أبو يحيى العمراني الشافعي في "البيان" (13/ 288): [دليلنا: أن الشطرنج موضوع على تعلم تدبير أمر الحرب، وربما يتعلم الإنسان بذلك القتال، وكل سبب يتعلم به أمر الحرب والقتال كان مباحًا؛ بدليل ما رُوي عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أنها قالت: "مررت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوم من الحبشة يلعبون بالحراب، فوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهم، ووقفت من خلفه، فكنت إذا عييت جلست، وإذا قمت أتقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"] اهـ.
وكذلك النهي الوارد في أقوال سيدنا عليٍّ رضي الله عنه لم يكن لأجل النهي عن اللعب بالشطرنج؛ بل إذا كان اللعب بها يؤدي إلى الانشغال عن الصلاة عند سماع الآذان، أو ذكر الفحش من الكلام عند اللعب بها، أو تشابه صورتها بصورة الفرس أو الفيل:
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (17/ 179): [وليس إنكار عليٍّ عليه السلام لها لأجل حظرها. وقيل: لأنهم سمعوا الأذان وهم متشاغلون عنها. وقيل: لأنهم كانوا يستخفون في الكلام عليها] اهـ.
وقال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب" (19/ 20، ط. دار المنهاج): [وما رُوي أنَّ عليًّا رضي الله عنه مرّ بقومٍ يلعبون بالشطرنج، فقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون": فهذا محمولٌ على أنه رأى الشطرنج على صورة الفرس والفيل؛ فقال ما قال].
القول بالمنع عند من يقول به من الفقهاء لا يفيد تحريم اللعب به مطلقًا؛ بل اشترطوا شروطًا ينتفي حكم المنع بانتفائها؛ فيصبح اللعب بها مباحًا عند بعضهم غير مسقطٍ للعدالة أو الشهادة، ومخففًا من الحرمة إلى الكراهة عند بعضهم:
فعند الحنفية:
أن اللعب بالشطرنج مباح، لكنه يُمنَع إن كان على قمارٍ أو فاتت بسببه الصلاة، أو قارنه فسقٌ أو ما يُسقِط المروءة.
قال العلَّامة الميرغيناني الحنفي في "الهداية" (3/ 123، ط. دار إحياء التراث العربي): [فأما مجرد اللعب بالشطرنج: فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغًا] اهـ.
وقال الإمام الحدادي الحنفي في "الجوهرة النيرة" (2/ 231، ط. المطبعة الخيرية): [(قوله: ولا المقامر بالنرد والشطرنج) بشرط القمار؛ لأنَّ مجرد اللعب بالشطرنج لا يقدح في العدالة، أما القمار: فحرام] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 483، ط. دار الفكر): [والحاصل: أن العدالة إنما تسقط بالشطرنج إذا وجد واحد من خمسة: القمار، وفوت الصلاة بسببه، وإكثار الحلف عليه، واللعب به على الطريق، كما في "فتح القدير"، أو يذكر عليه فسقًا كما في "شرح الوهبانية" بحر كذا في الهامش] اهـ.
وعند المالكية:
الأصل فيها الإباحة، ما لم تشغل عن صلاة الجماعة، وما لم تتسبب في إسقاط المروءة:
قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم" (7/ 201-202):
[وراعى بعض أصحابنا في رد الشهادة بانقطاعه بلعبها عن صلاة الجماعة.
وراعى بعضهم الحالة التي يقع اللعب عليها، فإن أذنت لسقوط المروءة كلعب المتصون الملحوظ بعين الجلالة مع سفلة الناس معلنًا بذلك، سقطت الشهادة. وإن كان مستترًا بها ملاعبًا لأمثاله من أهل الصون في بعض الأحايين لم ترد الشهادة به.
وراعى بعض الأصوليين القصد باللعب، فإن كان لتسلية النفس وشغلها عن هموم لزمتها، أو تجويد القريحة وشحذ الذهن الكال لم تسقط الشهادة، بل يميل هؤلاء إلى الجواز على هذه الحالة.
وقد حكي عن أفاضل من التابعين لعبها] اهـ.
وقال العلَّامة الزرقاني المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (7/ 293، ط. دار الكتب العلمية): [قال المازري: قال الأبهري: لأن الإنسان لا يسلم من يسير لهو] اهـ.
وعند الحنابلة:
أن اللعب بالشطرنج مكروه لا حرام، فإن كان اللَّعِب على عوضٍ، أو تتسبب في ترك واجبٍ، أو فعل مُحرَّم، فهو حرام:
قال العلَّامة المِردَاويّ الحنبلي في "الإنصاف" (12/ 53، ط. دار إحياء التراث العربي): [اللعب بالشطرنج حرام على الصحيح من المذهب، ونص عليه، وعليه الأصحاب؛ كَمَعَ عوضٍ، أو ترك واجبٍ، أو فعل محرمٍ إجماعًا في المقيس عليه، قال في "الرعاية": فإن داوم عليه فسق. وقيل: لا يحرم إذا خلا من ذلك بل يكره، ويحرم النرد بلا خلاف في المذهب، ونص عليه] اهـ.
بناءً على ذلك: فاللعب بالشطرنج مُباحٌ عند جماهير العلماء سلفًا وخلفًا، ولا شيء فيه ما لم يكن قمارًا، أو سببًا في إسقاط المروءة، أو مفوِّتًا للواجبات والمهمات، أو منقطعًا به عن العبادات.
وقد أقره جمعٌ من الصحابة والتابعين، وتبعهم جماعة من الفقهاء والمحدِّثين؛ حتَّى شبَّه بعض الفقهاء هذا القول بالإجماع، وذلك لِما وضعت له هذه اللعبة من التدبير والتخطيط وإعمال العقل وتنشيط الذهن، بخلاف النرد على المال؛ لِما فيه من المقامرة المحرمة.
وما ورد في النهي عنها من آثار عن بعض الصحابة والتابعين: فليست على إطلاقها في الحرمة، بل هي محمولة على الانشغال عن الصلاة عند سماع الآذان، أو ذكر الفحش من الكلام عند اللعب بها، أو تشابه صورتها بالتماثيل المعبودة عند بعض الطوائف.
والنصوص التي جاءت باستثناء بعض أشكال اللعب المباح لا تفيد حصر الإباحة فيها، وإنما هي تنبيه على مشروعية ما يفيد من اللعب ونهي عما لا يفيد، وإلَّا فقد رغَّب الشرعُ الشريف إلى تعلم بعض الرياضات المشتملة على المنافع والمصالح مع أنها لم تذكر في الخصال الواردة في الحديث، واللعب بالشطرنج داخل ضمن هذه المعاني؛ لِما تضمنه من معنى التنبيه على مكائد الحرب ووجوه الشدِّ والحزم وتدبير الجيوش.
والله سبحانه وتعالى أعلم.