في خضم هذه الآونة التي انتشر فيها فيروس كورونا وأصبح وباءً عمّ جميع دول العالم، وفي ظل النصائح الصحية التي تؤكدها منظمة الصحة العالمية والأطباء المختصون بأن يكثر الناس من شرب السوائل؛ للمحافظة على بقاء الفم رطبًا بشكل مستمر، وأوصت بالمداومة على تناول الأغذية التي تقوي الجهاز المناعي للإنسان؛ كأسلوب من أهم أساليب الوقاية من خطر الإصابة بفيروس كورونا.
فهل يجوز إفطار رمضان في هذه الحالة لمن خاف الإصابة بالعدوى لجفاف الفم، أو احتياجه إلى تقوية مناعة الجسم؟ ومتى يجوز الإفطار للمريض؟ وما موقف أصحاب الأمراض المزمنة؛ خاصة مرضى السكري؟ والنساء الحوامل والمرضعات؟ والمصابين بعدوى الوباء؟ ومن يباشرهم من الأطباء؟
صوم رمضانَ فرضٌ شرعيٌّ على المكلَّف لا يُسقِطه إلا السفرُ أو العجزُ عنه؛ بمرض ونحوه، وقد استفاضت الأبحاث الطبية والدراسات العلمية والتجارب المعملية: بأن الصوم المتقطع (ومنه الصوم الإسلامي) لا يزيد احتماليةَ العدوى بالوباء إذا التزم الصائم بوسائل الوقاية، وواظب على إجراءات التعقيم والحماية، بل هو من أفضل سبل تقوية المناعة، فالصوم في حق عموم الناس واجب شرعًا، ومجرد الخوف من المرض ليس مسوِّغًا للإفطار، إلا إذا استند إلى كلام الأطباء المختصين، ومن زاد في حقه الخوف فليستشر طبيبه في حالته ليعمل بنصيحته.
وأما الإفطار لعموم المرضى: فليس كلُّ مرضٍ مبيحًا للفطر، وإنما الرخصة لمن يتعارض مرضه مع الصوم؛ في أخذ الدواء، أو زيادة العناء، أو تأخر الشفاء، أو الحاجة للغذاء، وذلك كله بمشورة الطبيب المختص، أو خبرة الإنسان وتجربته التي يعلمها من مرضه، وقد يكون الإفطار في بعض الحالات واجبًا: إذا كان الضرر بالغًا وكان احتمالُ حصوله غالبًا، ويجب على من أفطر منهم قضاءُ ما أفطره عند زوال الطارئ الذي منع الصوم.
وأما مرضى الشيخوخة وذوو الأمراض المزمنة: فلكلٍّ منهم احتمالُه وظروفُه المرَضية التي يُقدِّرها الأطباء المتخصصون؛ فإن رأى الأطباء احتياجهم للإفطار وتناول الطعام؛ دواءً أو غذاءً، لاستقرار ظروفهم الصحية ومنع تفاقم حالاتهم المرضية، فعليهم أن يفطروا، وأن يطعموا عن كل يوم مسكينًا، والواجب عليهم الأخذُ بنصيحة الأطباء.
وأما الحامل والمرضع: فلهما الإفطار إن خافتا على نفسيهما، أو على ولديهما، بل يجب عليهما ذلك إذا اشتدت المخافة وغلب ظنّ الضرر، وليس عليهما إلا القضاء وحده في كلتا الحالتين، مع استحباب أداء الكفارة في الحالة الثانية.
وأما مَن أصابتهم عدوى وباء كورونا بالفعل: فهم أولى الناس برخصة الإفطار للمرض، ومرجع إفطارهم إلى تقدير الأطباء؛ حسبما يرون من درجة مرضهم ومراحل علاجهم ومنظومة عزلهم؛ فإن نصحهم الأطباء بالفطر وجب عليهم ذلك، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم الاستهانة بذلك شرعًا، وواجبهم الالتزام الأمين بقول المختصين.
وكذلك الحال فيمن يباشر حالاتهم من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات: يشرع لهم الإفطار إذا لزم الأمر؛ وقاية لأنفسهم من العدوى التي يباشرون علاج مرضاها، وتقوية لكفاءتهم في مهمتهم الجليلة في استنقاذ المصابين من هذا الوباء.
المحتويات
صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، وفريضة فرضها الله تعالى على كل مسلم مكلف صحيح مقيم مستطيع خالٍ من الموانع؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183-184]، والتعبير بجمع المؤنث السالم في قوله ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ يدل على القلة؛ فإنما فرض علينا أيامًا يسيرة قلائل؛ ليخفَّ احتمالها على المكلَّفين؛ حتى لا يُستَثْقَلَ أمرُ الصوم، فهو سهلُ يسيرٌ لا مشقةَ فيه ولا عسرَ في أدائه.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه أضاف الصوم لنفسه؛ تنويهًا بأهميته وعظم قدره، وتنبيهًا على خصوصية ثوابه ومضاعفة أجره، فصاحبه بالله موصول، وله عنده موفور الجزاء وكريم القبول.
فروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: قال الله عز وجل: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَـــامُ جُنَّةٌ». والجُنَّةُ بضم الجيم وتشديد النون: الوقاية والستر.
قال الإمام أبو العباس القرطبي [ت: 656هـ] في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 213-214، ط. دار ابن كثير): [وقوله: «الصِّيَـــامُ جُنَّةٌ»: مادة هذه اللفظة التي هي: الجيم والنون كيف ما دارت صورُها بمعنى: السترة؛ كالجِنِّ، والجَنّة، والجنون، والمِجَنِّ؛ فمعناه: أن الصوم سترة، فيصح أن يكون (جُنَّة) بحسب مشروعيته.. ويصح أن يسمى: (جُنَّة) بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس.. ويصح أن يكون جنة بحسب ثوابه] اهـ.
وقال الإمام القطب القسطلاني [ت: 686هـ] في "مدارك المرام في مسالك الصيام" (ص: 24، ط. المطبعة المصرية): [«والصِّيَـــامُ جُنَّةٌ»: أي: ستر لمن عاناه؛ إما من النار في الأخرى، أو من الآفات بالأمراض والأسقام في الدنيا، أو بمجموعيهما] اهـ.
من سعة الشريعة الإسلامية ورحمتها بالمكلفين أن رفعت عنهم الحرج، ورامت في أحكامها اليسر، وتغيَّتْ في مقاصد عباداتها التزكية والتطهير، لا المشقة والتعسير؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنفيذ الأوامر الشرعية منوطًا بالاستطاعة؛ فقال: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن أجل ذلك عقب الله تعالى فرض الصوم بالتيسير على من يشق عليه؛ فقال سبحانه: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184].
والمعنى: أنه يُرَخَّصُ في الإفطار للمريضِ، إذا عجز بسبب مرضه عن الصوم، ولمن كان مسافرًا سفرًا تُقصَرُ فيه الصلاة، مع وجوب القضاء عليهما بعد زوال العذر والقدرة على الصوم، كما يُرخَّص في الإفطار لمن كان مريضًا مرضًا لا يُرجَى بُرؤُه، وعليه أن يخرج فدية عن كل يوم إطعامَ مسكين، ثم ختم سبحانه الآية بالحث على الصوم للقادر عليه، وأن المسلم لو علم ما في الصوم من الأجر والثواب، وعظيم المنزلة عند رب الأرباب، فلن يتركه أبدًا ما دام قادرًا عليه مستطيعًا لأدائه.
ولأجل حرمة رمضان وعظم ثواب الصوم فيه: فقد نص الفقهاء على أن صوم المسافر أفضل من فطره، إذا كان الصوم لا يشق عليه، وهذا مذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا، وصححه المحققون وعليه الفتوى؛ لأن ثواب الصوم في رمضان لا يعدله ثواب.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (7/ 229، ط. دار إحياء التراث العربي): [واختلفوا في أن الصوم أفضل، أم الفطر، أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل.. وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقًا، وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي.. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث. والصحيح قول الأكثرين] اهـ.
واتفق فقهاء المذاهب الأربعة المتبوعة على أن المرض المرخِّص في الفطر هو ما لا يستطيع المريض معه الصوم، أو يزداد به المرضُ بإخبار الطبيب المختص الحاذق، وأنه ليس كل مرضٍ يصيب المكلَّفَ يكون مرخصًا له في الإفطار، ونص بعضهم على أن مِن الأمراض ما ينفع معها الصومُ في شفاء مَرْضاها؛ فيكون الصوم خيرًا لهم من الإفطار.
قال الإمام علاء الدين البخاري الحنفي في "كشف الأسرار" شرح أصول الإمام البزدوي (4/ 376، ط. دار الكتاب الإسلامي): [المرض لم تتعلق الرخصة بنفسه؛ لأنه متنوع إلى ما يضر به الصوم وإلى ما لا يضر به بل ينفعه؛ فلذلك تعلقت الرخص بالمرض الذي يوجب المشقة بازدياد المرض لا بما لا يوجبها؛ ألا ترى أنه لو حدث به بَرَصٌ في حال الصوم لا يمكن أن يُرَخَّصَ له بالإفطار، مع أنه من الأمراض الصعبة؛ فعرفنا أن الحكم غير متعلق بنفس المرض] اهـ.
وقال الإمام العيني الحنفي في "منحة السلوك في شرح تحفة الملوك" (ص: 270، ط. أوقاف قطر): [قوله: (المريض إذا خاف شدة مرضه أو تأخر برئه: أفطر) لأن ذلك قد يفضي إلى الهلاك، فيجب الاحتراز عنه، وطريق معرفته: الاجتهاد، فإذا غلب على ظنه: أفطر، وكذا إذا أخبره طبيب حاذق عدل. والصحيح الذي يخشى أن يمرض بالصوم: فهو كالمريض] اهـ.
قال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 261، ط. دار الفكر): [وجاز الفطر بسبب مرض خاف زيادته ومنه حدوث علة، أو تماديه بالصوم، وبعبارة أخرى أي: زيادة نوعه بأن تحدث له علة أخرى، فإن خاف على نفسه الهلاك، أو أن يلحقه مشقة عظيمة: فإنه يجب عليه الإفطار؛ لأن حفظ النفوس واجب ما أمكن] اهـ، قال الإمام العدوي في حاشيته عليه: [(قوله: خاف زيادته) إما بقول طبيب عارف ولو ذميا عند الضرورة كما قاله البدر، أو علم ذلك في نفسه بتجربة، أو ممن هو موافق له في المزاج كما تقدم. واعلم أن الصحيح إذا خاف بصومه الهلاك، أو شدة الأذى يجب عليه الفطر، ويرجع في ذلك لأهل المعرفة] اهـ.
وقال العلامة الشمس الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (3/ 185، ط. دار الفكر): [(ويُباح تركُه للمريض إذا وجد به ضررًا) شديدًا.. وشمل الضررُ: ما لو زاد مرضُه أو خشي منه طولَ البُرء.. قال في "الأنوار": ولا أثر للمرض اليسير؛ كصداعٍ، ووجع الأذن والسن، إلا أن يخاف الزيادة بالصوم؛ فيفطر] اهـ، قال العلامة الشَّبْرامَلِّسي في حاشيته عليه: [(قوله: ويباح تركه) وينبغي قياسًا على ما تقدم في التيمم: أنه لا يجوز له ذلك إلا بإخبار طبيب عدل مسلم، وإلا فلا يباح له الترك] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 88، ط. دار الفكر): [المرض لا ضابط له؛ فإنَّ الأمراض تختلف: منها ما يضر صاحبَه الصومُ، ومنها ما لا أثر للصوم فيه؛ كوجع الضرس، وجرح في الإصبع، والدمل، والقرحة اليسيرة، والجرب، وأشباهِ ذلك؛ فلم يصلح المرض ضابطًا، وأمكن اعتبار الحكمة؛ وهو: ما يخاف منه الضرر؛ فوجب اعتباره] اهـ.
وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 437، ط. مؤسسة الرسالة): [ولا يفطر مريض لا يتضرر بالصوم "و" (أي: اتفقت المذاهب الثلاثة في ذلك مع المذهب الحنبلي) وجزم به في "الرعاية" في وجعِ رأسٍ، وحُمّى، ثم قال: قلتُ إلا أن يتضرر] اهـ.
نصوا أيضًا على أن مَن غلب على ظنه أنه سيصاب بالمرض إذا صام: فإنه يُرخَّصُ له في الفطر؛ تنزيلًا للمَظِنَّة منزلةَ المئنَّة، بشرط غلبة الظن بحصول المرض؛ لِمَا علم من تجربته، أو بإخبار الطبيب الحاذق العدل، أما مجرد الخوف من المرض فلا يجوز معه الفطر.
فنص السادة الحنفية على أنه يشترط في خوف المرض المبيح للفطر: أن يصل إلى مستوى الظن الغالب، واشترطوا في ذلك التجربة السابقة، أو الأمارة الواضحة، أو إخبار الطبيب المتخصص الحاذق:
قال الإمام النسفي الحنفي في "كنز الدقائق": [لمن خاف زيادة المرض الفطر وللمسافر، وصومه أحب إن لم يضره] اهـ، قال العلامة ابن نجيم الحنفي في شرحه "النهر الفائق" (2/ 28، ط. دار الكتب العلمية): [(لمن خاف) خوفًا قويًّا ارتقى إلى غلبة الظن (زيادةَ المرض) أو امتدادَه، أو إبطاءَ البرء، أو فسادَ العضو، بأمارةٍ، أو تجربةٍ، أو إخبارِ طبيبٍ حاذقٍ مسلمٍ غير ظاهر الفسق..
قال الشارح: والصحيح الذي يخشى المرض كالمريض، ولا تنافي بينهما؛ لأن الخشية بمعنى غلبة الظن، بخلاف مجرد الخوف] اهـ.
ونص السادة المالكية على أنه ليس كل خوفٍ من المرض يكون مبيحًا للفطر، وأن الصحيح لو شق عليه الصوم مشقةً محتمَلةً لم يجز له الإفطار:
قال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 309، ط. دار الفكر): [قال خليل عطفًا على الجائز: (ولمرضٍ خاف زيادتَه أو تماديَه، ووجب إن خاف هلاكًا أو شديدَ أذًى).. وأما الصحيح يلحقه المشقةُ بدوام صومه: فلا يجوز له الفطر، إلا لخوف الموت أو حدوث المرض على أحد قولين.
تنبيهان؛ الأول: الخوف المجوِّز للفطر هو المستنِدُ صاحبُه إلى قول طبيبٍ ثقة حاذق، أو لتجربةٍ مِن نفسه، أو لإخبارٍ ممن هو موافق له في المزاج، كما قالوه في التيمم] اهـ.
ونص السادة الشافعية في تحرير مناط خوف المرض المبيح للفطر على اشتراط إخبار الطبيب المسلم العدل؛ فقال العلّامة الشَّبْرامَلِّسي الشافعي في حاشيته على "نهاية المحتاج" للإمام الرملي (3/ 194، ط. دار الفكر): [وينبغي في اعتماد الخوف المذكور: أنه لا بد من إخبار طبيب مسلم عدل] اهـ.
واشترط السادة الحنابلة لإباحة الفطر خوفًا من زيادة المرض أو تطاوله: إخبارَ الطبيب الثقةِ العدلِ، مع نصهم على أن الخوف من حصول المرض هو في معنى الخوف من زيادته؛ فإخبار الطبيب في خوف المرض شرط عندهم أيضًا.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 156، ط. مكتبة القاهرة): [والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه، من زيادة المرض وتطاوله، فالخوف من تجدد المرض في معناه] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/ 501، ط. دار الكتب العلمية): [(ويكفي من الطبيبِ غلبةُ الظن) لتعذر اليقين (ونص) أحمد (أنه يفطر بقول) طبيب (واحد:) أي مسلم ثقة (إن الصوم مما يُمَكِّنُ العِلَّةَ)] اهـ. وصرَّح بذلك العلامة ابن قائد الحنبلي [ت: 1097هـ] فقال في حاشيته على "منتهى الإرادات" (2/ 13-14، ط. مؤسسة الرسالة): [ولخوف مرض بعطش أو غيره، وخوف مريض وحادث به في يومه ضررًا بزيادته أو طوله، بقولِ ثقةٍ] اهـ.
فقد اتفقت كلمة الفقهاء مع اختلاف مذاهبهم، واجتمعت أقوالهم على تنوع مشاربهم: على أنه يشترط في الخوف من المرض المبيح للفطر: أن يكون ظنًّا غالبًا، وخطرًا معتبرًا؛ له شواهده التشخيصية ودلائله الطبية، التي يعرفها الأطباء المتخصصون، أو يدركها صاحبها بتجربة سابقة، لا بأوهام عالقة، أو مخاوف طارقة؛ فإن خوف المرض قد يتحول إلى مرض يحتاج إلى علاج، خاصة إذا كان غيرَ مبرَّرٍ ولا شواهد عليه، والأطباء يسمونه "مرضَ توهمِ المرض" -ولمن تمكن منه الخوف بالفعل الأخذ بمشورة الطبيب في حالته-، وهذا لا ينافي استعمال وسائل الوقاية، أو أسباب العلاج، بل على الإنسان فعل ذلك مع الثقة بالله واليقين، بعيدًا عن التهويل والتهوين. وكان رئيس الأطباء أبو علي بن سينا يقول: "الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أول خطوات الشفاء".
ويزداد وجوب الحرص وأخذ الحذر إذا كان المرض وباءً، لم يعرف له الطب دواءً، وكان الوباءُ مُعديًا؛ كمرض فيروس كورونا الوبائي "كوفيد-19" (COVID-19): فإن الخطورة فيه كبيرة؛ مع سريان العدوى وانتشار المرض على المستوى العالمي، فتزداد حينئذ أهمية استعمال إجراءات الوقاية، وتشتد الحاجة إلى تناول أغذية تقوية المناعة، على مستوى الفرد والجماعة؛ كما يقررها الأطباء المختصون.
أهم ما يحتاج إليه الإنسان في ظروف الوباء وعدواه -باتفاق الأطباء والمتخصصين-: هو تقوية الجهاز المناعي للجسم؛ حتى يكون قادرًا على مجابهة الأخطار، ومقاومة الأمراض، والمراد بتقويته: جعل خلاياه في حالة نشاط وتحفيز حتى تقوم بوظائفها بكفاءة تامة، فيتخلص الجسم من الجزيئات الشاردة، ويرفع من كفاءة مقاومته للأمراض، ومنها فيروس كورونا وغيره، وقد ثبت بالأبحاث الطبية والتجارب المعملية قديمًا وحديثًا: أن الصوم عامل مهم من أهم عوامل تقوية الجهاز المناعي للإنسان؛ حسبما قرره الأطباء والمختصون.
ومن المعلوم تاريخيًّا وعلميًّا: أن الصوم (بمعنى: الامتناع عن الطعام أو الشراب أو كليهما؛ لأغراض صحية أو دينية أو أخلاقية؛ بشكل تامٍّ أو جزئيٍّ أو طويلٍ أو قصيرٍ أو متقطعٍ) قد دعا إليه الأطباء ومارسوه من العصور القديمة في جميع أنحاء العالم إلى الآن، وفرضته أكثر الأديان، واستخدم للعلاج منذ القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل؛ عندما أوصى الطبيب اليوناني أبقراط بعض المرضى بالامتناع عن الطعام أو الشراب، وأدرك هؤلاء الأطباء أن الصوم جزء طبيعي مهم من عملية الشفاء.
بدأ فهم الآثار الفسيولوجية (وظائف الأعضاء) للصوم في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، عندما أجريت بعض الدراسات المنظمة الأولى للصيام في الحيوانات والبشر. وفي القرن العشرين، عندما أصبح أكثر معرفة بالمتطلبات الغذائية لجسم الإنسان، تم استخدام الصيام وقايةً وعلاجًا للأمراض؛ وفقًا لما جاء في "دائرة المعارف البريطانية" "Encyclopædia Britannica" على موقعها الإلكتروني، على الرابط:
"https://www.britannica.com/topic/fasting#ref330445"
قال وهب بن منبه: "أجْمَعَتِ الأطِبّـــاءُ أنّ رَأْسَ الطِّبِّ الحِـمْيَةُ" أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت"، ومصنفات أطباء العالم عبر العصور في علاقة الصوم بالحفاظ على الصحة كثيرة، واستفاض هذا عن العرب؛ حتى قال الحارثُ بنُ كَلَدَةَ طبيب العرب: "الحِمْيَةُ رأسُ الدواء، والمعِدَةُ بيت الداء"، ولأطباء المسلمين في ذلك التجارب الكثيرة؛ حتى ذكروا عن ابن سينا أنه ربما فرضه على مَرْضَاه، ولم يكن يعدل به علاجًا، وإلى ذلك أشار كثير من علماء المسلمين؛ ومنهم الإمام القطب القسطلاني في كتابه "مدارك المرام في مسالك الصيام" (ص: 61) إذ يقول: [والصيام من أقوى الرياضات المذهبة للفضلات في الأجساد إذا استُعمِلَتْ على الموضع المستقيم] اهـ، وقال أيضًا (ص: 76): [وأما ثمراته فأنواع: أحدها: صحة الأبدان، وقد ورد في الحديث: «صُومُوا تَصِحُّوا»، ولأن وجود الأسقام في الأجسام أكثر ما يعرض من تكاثف الفضلات وتكاثر الامتلاء، وقد بين ذلك في قوله في الحديث المروي عنه عليه الصلاة والسلام: «أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ البَرَدَةُ»؛ وهي: كثرة الأكل حتى تبرد المعدة عن هضم الأغذية، والصوم يحلل تلك الفضلات، ويتنزل منزلة الاستفراغ لها؛ من إزالتها أو تقليلها] اهـ.
وفي السنوات الأخيرة وعلى مدى أكثر من عشرين عامًا مضت: أجريت مئات الأبحاث المعملية، وعشرات الدراسات والتجارب الطبية، لإثبات الأثر الكبير لأنظمة الصيام المتقطع للإنسان والحيوان، في تقوية الجهاز المناعي، وتسببها المباشر في تجديد خلاياه؛ منها: دراسة طبية تطبيقية صدرت عام 2014م بجامعة جنوب كاليفورنيا (USC) بأمريكا، بعنوان "الصيام: التقنيات الجزيئية، والتطبيقات الطبية" "Fasting: Molecular Mechanisms and Clinical Applications"، وقد نُشِرَت الدراسة في مجلة "The New England Journal of Medicine"، وكان من نتائجها: أن الصوم لديه القدرة على منع الإصابة بالشيخوخة والوقاية والعلاج من الأمراض، ونصحت بصيام ثلاثة أيام متتالية تحت إشراف الطبيب، يقضي أثناءها البدن على ما هرم وتضرر وتلف من الخلايا المناعية، فيقل عددها بشكل مفاجئ، فإذا عاد الغذاء بدأت بالتشكل ثانية وإنتاج خلايا دم بيضاء أكثر قدرة على مواجهة الفيروسات، وتجويع الخلايا خلال هذه الفترة يجعلها أكثر مقاومة للإجهاد وأطول عمرًا، ويعطي الجسم الإشارة بعدها للبدء بتجديد الخلايا الجذعية، حيث يتم -خلال ثلاثة أيام تالية فقط- بناء نظام مناعي كامل أكثر قدرة على تمييز الفيروسات والتخلص منها بكفاءة عالية.
ومنها: دراسة طبية عام 2018م بجامعة (إلينوي) شيكاغو "University of Illinois Chicago" نُشِرَت في مجلة "Nutrition and Healthy Aging" بعنوان: "آثار التغذية المقيدة لمدة 8 ساعات على وزن الجسم وعوامل خطر الإصابة بالأمراض الاستقلابية لدى البالغين البُدَناء: دراسة تجريبية" "Effects of 8-hour time restricted feeding on body weight and metabolic disease risk factors in obese adults: A pilot study"، واعتمدت نظام 16:8 (8 ساعات غذاءً، 16 ساعة صومًا)، لتخلص في نتيجتها إلى فعالية هذا النظام على أجهزة الجسد.
وقبل ثلاثة أشهر: صدرت دراسة طبية بجامعة "Johns Hopkins University" في بالتيمور بولاية ماريلاند، بأمريكا، نُشِرَت بتاريخ: 26/ 12/ 2019م، بعنوان: "آثار الصيـــام المتقطع على الصحة والشيخوخة والمرض" "Effects of Intermittent Fasting on Health, Aging, and Disease"، ونُشِرَ ذلك في مجلة "The New England Journal of Medicine"، وكان من نتائجها: أنه بعد صدور مئات البحوث -التي ساقت منها الدراسةُ في مراجعها 80 بحثًا طبيًّا- في دراسة الصوم المتقطع، على مدى أكثر من 20 عامًا، أتت هذه الدراسة لتظهر أنه لا حاجة إلى صيام 3 أيام متتالية لتقوية المناعة، وأكدت اعتماد نظام 16:8 يوميًّا عوضًا عن ذلك، أو صوم يومين من كل أسبوع؛ لأن الصوم بهاتين الطريقتين أثبت فوائده الصحية وقدرته الهائلة على مقاومة الأمراض؛ كالسمنة، والسكر، والقلب، والأوعية، والسرطانات، والاضطرابات العصبية، وتحسين الصحة، ونبهت الدراسة على ضرورة الاكتفاء بوجبتين في هذا النمط من الصيام، وأن من يتبعه فسيعاني الكثير من الجوع وربما ضعف القدرة على التركيز، ومع ذلك: فعادة ما تختفي هذه الآثار الجانبية الأولية في غضون شهر واحد، وأنه يجب إخطارهم بذلك، وكتب أحد معدَّي الدراسة: أنه درس التأثير الصحي للصيام المتقطع لمدة 25 عامًا، ويمكن جعله نمطًا لحياة صحية".
وقد عقدنا بهذا الصدد في يوم الثلاثاء 14 شعبان 1441هـ، الموافق 7 إبريل 2020م، بدار الإفتاء المصرية، لجنة علمية طبية برئاستنا، ضمت مجموعة من كبار علماء الطب في مصر، وحَوَتْ جميع التخصصات الطبية والعلمية المختلفة المتعلقة بهذا الفيروس الوبائي وآثاره، وبعد النقاشات العلمية والمداولات البحثية خلصت اللجنة إلى أنه لا يوجد أي تأثير سلبي للصوم في حالة الوباء الراهنة على الأشخاص العاديين، وأن عدم شرب الماء أو تناول الأغذية لمدة النهار لا يزيد من احتمال انتشار العدوى؛ إذا التزم الشخص بارتداء وسائل الوقاية اللازمة، واهتم بالتعقيم بصورة دائمة، وأن الفيروس قد يدخل للجيوب الأنفية كما يدخل للحلق، وأن ذلك يستوجب ارتداء الكمامات والقفازات وعدم لمس الوجه أو العينين؛ خاصة لمن اضطر للخروج والتعامل مع الناس، وأكد أعضاء اللجنة أهمية الصيام في تقوية الجهاز المناعي، منوهةً في ذلك للأبحاث العلمية والدراسات الطبية الكثيرة في شتى المجالات الحيوية، وأن له دورًا كبيرًا في وقاية الإنسان من الوباء.
فقد أكد الأطباء المتخصصون؛ بما يعلمونه من طب وممارسة ووعي بالظروف الحالية: أن عدم تناول الأغذية أو السوائل في نهار رمضان لن يزيد من العدوى ما دام الصائم ملتزمًا بتعليمات الوقاية وإجراءات التعقيم المستمر، وأنه يمكن الاعتناء بذلك في رمضان ليلا بعد الإفطار، ويكفي في النهار: المضمضة أو الاغتسال أو نحوهما مما لا يوجب الإفطار مع ما سبق من إجراءات الوقاية، واستعمال المواد المعقمة كالصابون والكحوليات والمنظفات، فلا وجه حينئذ للقول بإباحة الإفطار على العموم.
أما ذوو الأمراض المزمنة، ومن يجدون مشقة شديدة من جراء الصوم: فإنا نؤكد على أهمية الرجوع في تقييم حالاتهم إلى الأطباء، وعلى وجوب الالتزام بقولهم في ذلك؛ خاصة في مثل هذه الظروف التي يتضاعف فيها الخطر، ويجب على المريض فيها توخي مزيد الحذر. وننبه على أن هذا الحكم العام يُستَثْنى منه أيضًا مَن أصابتهم عدوى الوباء بالفعل؛ فلهؤلاء ولمن يباشر حالاتِهم من الأطباء والممرضين تعاملٌ خاصٌّ، يُرجَع فيه إلى الأطباء المختصين الذين هم أعرف بهم وبدرجة مرضهم؛ فإن رأى الأطباء ضرورةَ إفطارهم وجب عليهم الإفطار، وعليهم أن يلتزموا بالسير المنتظم على نظام التغذية العلاجية والدوائية المكثفة وكل ما ينصح به الطبيب؛ كاستدامة شربهم للسوائل، وأخذهم بما للعلاج والعزل من إجراءات ووسائل، وكذلك الحال فيمن يباشر حالاتهم إن اقتضى الأمر ذلك، نسأل الله لنا ولهم العافية والنجاة.
ولما كان المقصود منعَ وصول الوباء بأي وسيلة: وجب على الناس أن يدركوا أهمية استعمال وسائل الوقاية واتباع تعليمات الصحة والبعد عن التجمعات ومخالطة الغير، فالعمل على ما يقي الإنسانَ من الوباء واجبٌ شرعي مرعي، والتزام ما ينفع من طرق الوقاية متعيِّنٌ؛ لأنه حفظ للنفوس، وهو مقصد كلي من المقاصد الكلية العليا التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وكل الشرائع السماوية.
ومع أن الوباء خطير وشره مستطير، وآثاره كارثية في كثير من دول العالم، إلا أن قرارات الدولة الحاسمة في منع التجمعات لاحتواء الوباء، مع التعاون الإيجابي من المواطنين، والجهود المتتابعة لمؤسسة الجيش المصري وأجهزة الدولة المعنية في مبادرات التعقيم ونشر وسائل الوقاية وتعميم إجراءات الحماية، وتتبع المصابين وعزلهم، وحسن الإدارة لملف الأزمة، قصرت انتقال المرض وجعلته تحت السيطرة، فلم تشهد مصر –بحفظ الله تعالى- أي ارتفاع حاد في عدد الإصابات، مما دعا منظمةَ الصحة العالمية إلى الإشادة بالاستجابة القوية والمرنة للدولة المصرية لما يقتضيه الوضع الراهن في مواجهة فيروس كورونا "كوفيد-19" (COVID-19)، والتعامل بوضوح مع حجم الإصابات وطبيعة الأوضاع والمستجدات، مع الجهود المضنية للأطباء الذين يعملون بتفانٍ شديد لإنقاذ الأرواح، مع نشر الوعي الإعلامي والثقافة الصحية بخطورة المرض وكيفية الوقاية منه؛ مما مكن من اتخاذ قرارات مستنيرة حالت دون الاستسلام لمناخ عدم الثقة أو وصمة المرض؛ لتصل مصر بذلك إلى معدلات عالمية في التعامل مع الوباء، وهذا كله يساهم في تيسير الصوم في رمضان، ويجعل الصائم في أمان واطمئنان، وقد اتخذ التدابير اللازمة ووسائل الوقاية المطلوبة، من غير مشقة ولا عسر، ولا خوف ولا هلع.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فصوم رمضانَ فرضٌ شرعيٌّ على المكلَّف لا يُسقِطه إلا السفرُ أو العجزُ عنه؛ بمرض ونحوه، ولا يزيد الصوم احتماليةَ العدوى بالوباء إذا التزم الصائم بوسائل الوقاية، وواظب على إجراءات التعقيم والحماية، فالصوم في حق عموم الناس واجب شرعًا، ومجرد الخوف من المرض ليس مسوِّغًا للإفطار، إلا إذا استند إلى كلام الأطباء المختصين، ومن زاد في حقه الخوف فليستشر طبيبه في حالته ليعمل بنصيحته، وأما المصابون بالأمراض المزمنة ومن يشق عليهم الصوم: فهم في ذلك متفاوتون، ولكلٍّ منهم احتمالُه وظروفُه المرَضية التي يُقدِّرها الأطباء المتخصصون، وأما مَن أصابتهم عدوى وباء كورونا بالفعل فإن معذورون ومرجع إفطارهم إلى تقدير الأطباء؛ فإن نصحوهم بالفطر وجب عليهم ذلك، وكذلك الحال فيمن يباشر حالاتهم إذا لزم الأمر، وعلى الإنسان الاستجابة لأمر الطبيب، والالتزام بالقرارات الصحية العامة للمسؤولين، وأخذ توجيهاتهم محمل الجِدِّ واليقين، من غير استهتار أو تهوين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.