هل من قتل في المعركة بعد الحصول على الغنيمة ينتقل سهمه فيها إلى ورثته؟
إعطاء المحارب شيئًا من الغنيمة أو إعطاؤه لورثته بعد وفاته في المعركة مع الكفار الحربيين مرده ومرجعه إلى القانون المنظم لهذه الأمور في القوات المسلحة النظامية للدولة؛ لأن الجيوش النظامية الآن تحتاج إلى نفقات ضخمة، وأصبح العسكري يتقاضى راتبًا دوريًّا على عمله في الجيش، بالإضافة إلى المعاشات والتعويضات في حالات مختلفة؛ كبلوغ سن التقاعد، أو الإصابة، أو الوفاة، مع امتيازات مادية ومعنوية، وصار هناك ميزانية سنوية ضخمة للتسليح والجيش، وأصبحت الشعوب تساهم في هذا كله بما تدفعه من أموال الضرائب.
المحتويات
الغنيمة: هي ما أخذه المسلمون من الكفار الحربيين بقتال أو إرجاف الخيل أو الركاب أو نحوهما. انظر: "أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (3/ 92، ط. دار الكتاب الإسلامي).
والغنيمة شريعة إسلامية لم تحل إلا للمسلمين، والأصل فيها أنه تُخَمَّس كالفيء؛ لقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]؛ فيكون خمسها لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل الخمس المذكورين، وأربعة أخماسها للغانمين؛ وقد روى الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «للهِ خُمُسُهَا، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِلْجَيْشِ».
قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تقسيم الغنيمة من قبيل السياسات التي يتصرف فيها الإمام بمقتضى المصلحة، وليس من قبيل الأنصبة المقدرة، ونسب هذا القول إلى الإمام مالك، وقال به كثير من المالكية.
قال الإمام المازري في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 35، ط. الدار التونسية للنشر): [الغنيمة لا يملكها الغانمون بنفس القِتال على قول كثير من أصحابنا، وللإمام أن يخرجها عن الغانمين، ويمنَّ على الأسرى بأنفسهم وحريمهم وأموالهم] اهـ.
قال الإمام الماوردي في "الأحكام السلطانية" (ص: 219، ط. دار الحديث): [وقال الإمام مالك: مال الغنيمة موقوف على رأي الإمام، إن شاء قسمه بين الغانمين تسوية وتفضيلًا، وإن شاء أشرك معهم غيرهم ممن لم يشهد الوقعة] اهـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان" (2/ 56، ط. دار الفكر) بعد أن ذكر قول الجمهور في تخميس الغنيمة: [وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم العلامة المازري رحمه الله أيضًا، قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين] اهـ.
وقد مال إلى هذا الشيخ تاج الدين ابن الفركاح الشافعي في كتابه "الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة".
وقد ذكر العلامة القرافي في "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (ص: 105، ط. دار البشائر الإسلامية): أن قسمة الغنائم كانت مما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطريقِ الإمامة، وتصرُّفه صلى الله عليه وآله وسلم بالإِمامةِ وصفٌ زائد على النبوَّةِ والرسالة والفُتيا والقضاءِ، لأنَ الإِمام هو الذي فُوّضَتْ إِليه السياسةُ العامةُ في الخلائق، وضَبْطُ مَعاقِدِ المصالح، ودَرْءُ المفاسد، وقَمْعُ الجُنَاة، وقَتْلُ الطُّغَاة، وتوطينُ العِبَاد في البلاد، إِلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس، وهذا ليس داخلًاً في مفهوم الفُتيا ولا الحُكمِ ولا الرسالةِ ولا النبوَّة.
واستُدِل لذلك الرأي بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ﴾[الأنفال: 1]، والأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة.
وروى العلامة ابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1649، ط. مكتبة نزار الباز) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [الأنفال: المغانم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصة، ليس لأحد منها شيء] اهـ.
استُدِل له أيضًا: بما رواه البخاري عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئًا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟» كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، قال: «مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟» قال: كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، قال: «لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ؛ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِىَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا؛ الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
قال الشيخ ابن القيم في "زاد المعاد" (3/ 425-426، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره، لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة. قال له قائلهم: اعدل فإنك لم تعدل. وقال مشبهه: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله، ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة، كما منعهم غنائم مكة، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم، وله أن يسلط عليها نارًا من السماء تأكلها، وهو في ذلك كله أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وما فعل ما فعله من ذلك عبثًا، ولا قدره سدى، بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه وعزته وحكمته ورحمته، ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، يقودونه إلى ديارهم، وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه، فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون، ورسوله منفذ لأمره.
فإن قيل فلو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه، هل يسوغ له ذلك؟
قيل: الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم، وقيام الدين. فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام، والذب عن حوزته، واستجلاب رءوس أعدائه إليه، ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، وهل تجوز الشريعة غير هذا، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين. وبالله التوفيق] اهـ.
وقال العلامة السَّفّاريني في "كشف اللثام" (3/ 457، ط. وزارة الأوقاف الكويتية ودار النوادر): [وهذا يؤيد ما ذهب إليه الإمام مالك من أنّ خمس الركاز والغنائم والجزية، وما أُخذ من تجار أهل الذمة، وما صولح عليه الكفار، ووظائف الأرضين، كل ذلك يجتهد الإمام في مصارفه على قدر ما يراه من المصلحة] اهـ.
والأخذ بهذا القول أوفق وأنسب لحال الجيوش الحديثة التي تختلف عن الجيوش في العصور الغابرة؛ من حيث إن المقاتل المجاهد قديمًا كان هو الذي يقوم بتجهيز نفسه، أما الآن فالجيوش نظامية، وتحتاج إلى نفقات ضخمة في جلب الأسلحة، وتصنيعها، وصيانتها، وترقيتها، وإعداد أفراد الجيش، وتدريبهم على استعمال الأسلحة المختلفة، ومعرفة المهارات الحربية والقتالية والتخطيطية والاستراتيجية، كما أنه لم تعد الحروب تعتمد في المواجهات العسكرية على الالتحام المباشر في كثير من الأحيان، بل على أمور أخرى تستدعي تكاليف باهظة، وأصبح العسكري يتقاضى راتبًا دوريًّا على عمله في الجيش، بالإضافة إلى المعاشات والتعويضات في حالات مختلفة؛ عند بلوغ سن التقاعد، أو الإصابة، أو الوفاة، مع امتيازات مادية ومعنوية، وصار هناك ميزانية سنوية ضخمة للتسليح والجيش، وأصبحت الشعوب تساهم في هذا كله بما تدفعه من أموال الضرائب.
بناءً عليه: فإن إعطاء المحارب شيئًا من الغنيمة أو إعطاءه لورثته بعد وفاته في المعركة مع الكفار الحربيين مرده ومرجعه إلى القانون المنظم لهذه الأمور في القوات المسلحة النظامية للدولة.
على أنه ينبغي التنبيه على أن بعض المصطلحات الشرعية الصحيحة يحاول بعض منحرفي الفكر احتلالها بمفاهيمهم المغلوطة؛ مثل الجهاد وما يتعلق به كالغنيمة والقتال ونحو ذلك، وينزلون أحكامها المقررة في غير محالها الشرعية ويعملونها في غير أهلها اعتداءً منهم وزورًا وجهلًا، مما يستدعي التحرز من كلامهم، والتحذير منهم، وبيان أوجه الخلل في كلامهم ومدى فساده وضرره.
والله سبحانه وتعالى أعلم.