ما حكم التنقيب عن الذهب في الصخور؟ فإنه تنتشر في أماكن تواجد الصخور الآن استخدام أجهزة تكشف عن تواجد معادن داخل الصخور، فيقوم المُنقِّبون بتكسير الجزء أو المكان الذي يصدر إشارات، ومن المعلوم أن من يفعل ذلك يكون مخالفًا للقانون ومُعرَّضًا للعقوبة، ويتصور كثير ممن يفعلون ذلك أنهم لا يؤذون أحد، وأن هذه الأماكن ملك لله وليس لأحد، فهل يجوز شرعًا قيام عمال بالعمل في تكسير الصخور لاستخراج الذهب، أو التعاون على نقلها بسيارات؟
هذه الأماكن التي يتم التنقيب فيها عن الذهب داخل الصخور هي من حمى الدولة التي لها عليها حق الولاية والتصرف، ولذلك فإن استخدام المنقبين أجهزةً تكشف عن تواجد تلك المعادن ثم يقومون بتكسير الجزء أو المكان الذي يصدر إشارات لاستخراج الذهب منها، أو التعاون على نقلها بسيارات أو نحوها من غير تكليف من الدولة بذلك: هو أمرٌ مُحرَّمٌ شرعًا ومُجَرمٌ قانونًا؛ لأنَّ هذه الأراضي لا تسري عليها أحكام الملكية الخاصة، وقد خوَّل الشرع للحاكم سُلطة تقييد المباح وإلزام الناس به بما يراه مِن المصلحة الراجحة، وليس في الإسلام مالٌ لا صاحب له؛ لأنه لا سائبة في الإسلام، وإذا لم يُعرف للمال صاحبٌ أو وارثٌ دخل ضمن المال العام.
المحتويات
هذه الأماكن التي يتم التنقيب فيها عن الذهب داخل الصخور هي من حمى الدولة التي لها عليها حق الولاية، وقد اتفق الفقهاء على أن الأراضي غير المملوكة ملكًا خاصًا تُعد في حوزة الدولة بكل ما فيها، لا تجري عليها أحكام الملكية الخاصة من التصرف الحُرِّ، بل التصرف فيها منوط بإذن الحاكم أو ولي الأمر؛ فله أن يخصص منها ما يُحَققُ النفع ويُحصِّل المصلحة.
وقد حمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم "النَّقيع" لخيل المسلمين، وانتزع إقطاعَ أبْيَضَ بنِ حَمَّالٍ رضي الله عنه -وهو منجم الملح بمأرِبَ- لحاجة الناس إليه، ووزَّع أموال حُنينٍ على الطُّلَقاء والمهاجرين دون الأنصار، وأمرَ بجعل الطريق سبعة أذرع، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم بعده صلى الله عليه وآله وسلم؛ فحمى أبو بكرٍ الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفَّان رضي الله عنهم لَمّا احتاجوا ذلك.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ الصَّعبَ بن جَثَّامَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ»، قال الزهري: "بلغنا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع، وأنَّ عمر رضي الله عنه حمى السَّرف والرَّبَذَة" رواه البخاري في "الصحيح".
وعن أبْيَضَ بن حَمَّالٍ رضي الله عنه: أنه وفَدَ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فاستقطَعَه المِلحَ الذي بمأرِبَ، فقطعه له، فلما أن وَلَّى قال رجلٌ من المجلِس: أتدري ما قطعتَ له؟ إنما قطعتَ له الماء العِدَّ، قال: فانتُزِع منه. رواه ابن أبي شيبة في "المُصنَّف"، والدارمي، وأبو داود، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه، والدارقطني في "سننهم"، والنسائي في "الكبرى"، وابن حبَّان في "الصحيح".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ" متفق عليه.
ولَمّا ضاق المسجد الحرام على الناس عمدَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الدور المحيطة به فاشتراها من أصحابها وهدمها لتوسعة المسجد، فلما أبى بعضهم أن يأخذ الثمن وتمنَّع مِن البيع وُضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، وقال لهم عمر: "إنما نَزَلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تَنزِل الكعبةُ عليكم"، أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة".
قال الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 269، ط. عالم الكتب): [والحمى: ما حُمِيَ من الأرض، دلَّ ذلك أنَّ حكم الْأَرضِينَ إلى الأئمة، لا إلى غيرهم] اهـ.
وقال العلَّامة ابن بطَّال في "شرح صحيح البخاري" (6/ 506، ط. مكتبة الرشد): [فمعنى قوله: «لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ» أي أنَّه لا حمى لأحدٍ يخص به نفسه ترعى فيه ماشيتُه دون سائر الناس، وإنما هو لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولِمَن ورث ذلك عنه عليه الصلاة والسلام من الخلفاء بعده إذا احتاج إلى ذلك لمصلحة تشمل المسلمين ومنفعة تعمهم، كما فعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لَمَّا احتاجوا إلى ذلك، وقد عاتب رجلٌ من العرب عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: "بلادُ الله حُمِيَتْ لِمَالِ الله"، وأُنكِرَ أيضًا على عثمان رضي الله عنه أنه زاد في الحمى، وليس لأحدٍ أن ينكر ذلك؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تقدم إليه ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء بهديه.
وإنما يحمى الإمام ما ليس بملكٍ لأحدٍ مثل: بطون الأودية، والجبال، والموات، وإن كان قد ينتفع المسلمون بتلك المواضع: فمنافعهم في حماية الإمام لها أكثر، والله الموفق] اهـ.
كما نصَّ الشرع الشريف على أنه لا سائبة في الإسلام، وأنه ليس هناك مال يبقى بلا صاحب، فالمال الذي لم يُعرف له صاحب أو وارث يكون محله بيت المال لينفق في مصالح المسلمين العامَّة وتلبية حاجات المجتمع؛ فقد روى أبو داود وابن ماجه -واللفظ له-، عن الْمِقْدَامِ أَبِي كريمَةَ رضي الله عنه -رجل من أهل الشام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا»، وربما قال: «فَإِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ»، «وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ».
قد تقرر في قواعد الشرع أنّ لولي الأمر سُلطة تقييد المباح، وأن له الحق في اختيار الفعل أو الترك لأحد أفراد المباح الذي يجوز فعله أو تركه وإلزام الناس به لما يراه مِن المصلحة الراجحة؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السمعُ والطاعةُ على المَرءِ المُسلِم فيما أَحَبّ وكَرِه، ما لم يؤمَر بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعَة» متفقٌ عليه، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وعن وائل بن حُجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله رجل فقال: أرأيتَ إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عَلَيهم ما حُمِّلوا وعَلَيكُم ما حُمِّلتُم» رواه الترمذي في "السنن"، وأصله عند مسلم في "الصحيح".
وحينما تزوج حُذيفة بن اليَمَان رضي الله عنه امرأةً يهودية، كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن خلِّ سبيلها، فكتب إليه: إن كانت حرامًا خليتُ سبيلها، فكتب إليه: إني لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطَوْا المومسات منهن. رواه ابن أبي شيبة في "المصنف".
قال العلَّامة ابن حجر الهيتمي في "فتاواه الفقهية" (1/ 278، ط. المكتبة الإسلامية): [قولهم: تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يخالف حكم الشرع. والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع: أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب، فشمل ذلك المكروه، فإذا أمر به وجب فعله؛ إذ لا مخالفة حينئذ] اهـ.
وقال العلامة الطاهر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (5/ 97-98، ط. الدار التونسية): [أولو الأمر مِن الأمّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه مِن خصائصهم.. فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا أهل الحلّ والعقد] اهـ.
هذه القطع الذهبية الصغيرة المستخلصة من الصخور يطلق عليها الفقهاء "النَّدْرَة"، وهي قطعة الذهب والفضة الخالصة التي توجد في باطن الأرض من أصل خلقتها لا بوضع واضع، وقد سوَّى فقهاء المالكية في الحكم بينها وبين المعادن المستخرجة من الأرض في جعل مناط التصرف فيها للإمام، حتى وإن كانت مملوكة لمُعيَّنٍ؛ لأنها لو تُركت للناسِ لتنازعوا عليها وتقاتلوا من أجل الانتفاع بها:
قال خاتمة محققي المذهب المالكي الشيخ الدردير في "الشرح الصغير" (1/ 655، ط. دار المعارف): [وأمَّا باقي النَّدْرَة: فكالمعدن لمخرجه بإذن الإمام] اهـ.
وقال العلَّامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 491، ط. دار الفكر): [(قوله وأمَّا باقي الندرة وما في حكمها)، أي: من القطع الصغار المبثوثة في التراب التي لا تحتاج لتصفية، وقوله: فحكمه حكم المعدن، أي: فالتصرف فيه للإمام] اهـ.
وقال العلَّامة عليش المالكي في "منح الجليل" (2/ 78، ط. دار الفكر): [(وحكمه) أي: التصرف في المعدن من حيث هو لا بقيد كونه عينًا (للإمام) الأعظم أو نائبه يقطعه لمن يشاء أو يجعله لمصالح المسلمين إن كان بأرض غير مملوكة؛ كالفيافي، وما تركها أهلها، أو مملوكة لغير مُعيَّنٍ كأرض العنوة؛ بل (ولو) ظهر (بأرض مُعيَّن) مسلم، أو كافر ذمي؛ سدًّا لباب الهرج؛ لأنَّ المعادن قد يجدها شرار الناس، فإن تركت لهم: تحاسدوا وتقاتلوا عليها وسفك بعضهم دماء بعض] اهـ.
التنقيب عن الذهب واستخلاصه جريمة يعاقب عليها القانون المصري؛ فقد جاء في القانون رقم 141 لسنة 2017م، بتعديل بعض أحكام القانون رقم 68 لسنة 1976م، بشأن الرقابة على المعادن الثمينة والأحجار ذات القيمة، وتضمنت المادة الأولى منه إضافة بند جديد بالمادة رقم 1 برقم 8، ومادة جديدة برقم 22 (مكررًا) ونصاهما الآتي:
مادة (1) بند (8): بالاستخلاص: كل مراحل الحصول على خام المعدن الثمين أو الحجر ذي القيمة بعد استخراجه من العناصر الطبيعية، بأي وسيلة كانت.
مادة (22 مكررًا): يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن خمسة ملايين جنيه ولا تزيد على عشرة ملايين جنيه، كل من استخلص بغير حق أيًّا من المعادن الثمينة أو الأحجار ذات القيمة أو أقام منشأة لذلك الغرض، وفي جميع الأحوال يُحكم بمصادرة المضبوطات. كما يُحكم بمصادرة الآلات والأدوات المستخدمة أو المعدة للاستخدام في الجريمة، وبغلق المنشأة، وذلك دون إخلال بحقوق الغير حسني النية. اهـ.
ومن ذلك يتبين أن جميع المعادن المستخرجة من باطن الأرض تعد من الأموال العامة، وعلى اصطلاح الفقهاء: تُعَدُّ ملكًا لبيت مال المسلمين، ولولي الأمر دون غيره حق التصرف فيها بما يعود بالنفع العام على أفراد المجتمع؛ لأن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة كما تقرر.
بناء على ذلك: فاستخدام أجهزة تكشف عن تواجد معادن داخل الصخور، فيقوم المُنقِّبون بتكسير الجزء أو المكان الذي يصدر إشارات لاستخراج الذهب منها، أو التعاون على نقلها بسيارات أو نحوها، من غير تكليف من الدولة بذلك: هو أمرٌ مُحرَّمٌ شرعًا ومُجَرمٌ قانونًا؛ لأنَّ هذه الأراضي أملاك من حمى الدولة التي لها فيها مطلق الولاية وحق التصرف، لا تسري عليها أحكام الملكية الخاصة، وقد خوَّل الشرع للحاكم سُلطة تقييد المباح وإلزام الناس به بما يراه مِن المصلحة الراجحة، وليس في الإسلام مال لا صاحب له؛ لأنه لا سائبة في الإسلام، وإذا لم يُعرف للمال صاحب أو وارث دخل ضمن المال العام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.