تشريح جثة الميت

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 24 فبراير 2019
  • رقم الفتوى: 4732

السؤال

أرجو التفضل بالإفادة عن مشروعية تشريح جسد الإنسان بعد وفاته سواء كان ذلك لصالح مصلحة الطب الشرعي أو لصالح العملية التعليمية بكليات الطب، حيث يعتبر هذا أساسًا في علم الجراحة، وبخاصة أن التعليم على النماذج البشرية لا يماثل الدراسة على الجثث البشرية ولا غنى عن استخدام الجثث في الدراسة لتقدم الطب لصالح البشرية؟

 

تشريح جسد الإنسان بعد وفاته سواء كان ذلك لصالح مصلحة الطب الشرعي أو لصالح العملية التعليمية بكليات الطب جائزٌ شرعًا إذا ما روعيت فيه بعض الشروط الشرعيَّة والتي منها: أن يكونَ هذا العمل في حدود الضرورة القصوى التي يقدرها الأطباء الثقات بمعنى أنه إذا كانت جثة واحدة تكفي لتعليم الطلاب، فلا يصح أن يتعدى ذلك إلى جثة أخرى، وأن يكون صاحب الجثة قد تحقق موته موتًا شرعيًّا وذلك بالمفارقة التامة للحياة، ولا عبرة ب بالموت الإكلينيكي؛ لأنه لا يعد موتًا شرعًا، وهذا مع مراعاة الإجراءات المنظِّمة لهذا الأمر طبيًّا، والتي تضمن ابتعاد هذه العملية من نطاق التلاعب بالإنسان الذي كرَّمه الله ولا تجعله عرضة للامتهان، أو تحولـه إلى قطع غيار تباع وتشترى، بل يكون المقصد منها: التعاون على البر والتقوى وتخفيف آلام البشر، وأن يكونَ ذلك في ظروف تليق بالكرامة الإنسانية.

المحتويات

مفهوم علم التشريح وأهميته

أمرت الشريعة الإسلامية الإنسان باتخاذ كل الوسائل التي تحافظ على ذاته وحياته وصحته وتمنع عنه الأذى والضرر؛ فأمرته بالبعد عن المحرمات والمفسدات والمهلكات، وأوجبت عليه عند المرض اتخاذ كل سبل العلاج والتداوي؛ فعن أسامةَ بنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه قال: جاء أَعرابِيٌّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، أَنَتَداوى؟ قال: «تَداوَوْا؛ فإنَّ اللهَ لم يُنـزِل داءً إلَّا أَنزَلَ له شِفاءً؛ عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ» رواه أحمد.

ويعتبر تشريح جثث الموتى من الوسائل التي بها اهتم الباحثون على مَرِّ الزمان للتعرف على طبيعة الإنسان والكشف عن الأمراض والأغراض العلاجية؛ فقد عرفه قدماء المصريين وقاموا بتشريح أجساد موتاهم من أجل تحنيطها، كما استخدمه أطباء المسلمين الأعلام -كأبي بكر الرازي (ت: 311هـ) وابن سينا (ت: 427هـ)، وابن النفيس (ت: 687هـ) وغيرهم- وبرعوا فيه مع تدوين وتسجيل ما اكتشفوه من أسرار جسم الإنسان والحيوان والنبات في مؤلفاتهم الماتعة النافعة، فحازوا قصب السبق في معرفة الأعضاء والعظام والكشف عن تفاصيلها بصورة دقيقة؛ كما فعل العلامة ابن الهيثم (ت: 430هـ) في تشريح العين وتمكنه من الوقوف على أوصاف أجزائها.

والتشريح والشرح في اللغة: قطع اللحم على العظام قطعًا، ويطلق في الاصطلاح: على العلم الذي يبحث فيه عن أعضاء الإنسان وكيفية تركيبها من أجل معرفة كمال صنع الله تعالى والوقوف على أسباب الأمراض ومظاهرها وتيسير التداوي والعلاج منها.

قال الإمام التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 445، ط. مكتبة لبنان): [عبارة عن علم تعرف به أعضاء الإنسان بأعيانها وأشكالها وأقدارها وأعدادها وأصنافها وأوضاعها ومنافعها] اهـ.

وجاء في "المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربيَّة بالقاهرة" (ص: 478، ط. دار الدعوة): [علم يبحث في تركيب الأجسام العضوية بتقطيعها وفحصها] اهـ.

وقد أجمل العلامة ابن النفيس فوائد علم التشريح في "شرح تشريح القانون" (1/ 21-22، ط. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة) فقال: [انتفاع الطبيب بهذا العلم، بعضه في العلم، وبعضه في العمل، وبعضه في الاستدلال، أما انتفاعه في العلم والنظر، فذلك لأجل تكميله معرفة بدن الإنسان؛ ليكون بحثه عن أحواله وعوارضه سهلًا، وأما الانتفاع بالعمل فمن وجوه:
أحدها: أنه يعرف به مواضع الأعضاء فيتمكن بذلك من وضع الأضمدة ونحوها، حتى يسهل نفوذ قواها إلى الأعضاء المتضررة.
وثانيها: أنه يعرف به مبادئ شعب الأعضاء ونحوها، ومواضع تلك المبادئ فيتمكن من عرض لها خروج عن ذلك بخلع أو نحوه.
وثالثها: أنه يعرف به أوضاع الأعضاء بعضها من بعض فلا يحدث عند البط -شقُّ القرحة والخُرَّاج- ونحوه قطع شريان، أو عصب، ونحو ذلك، وكذلك لا يقطع ليف بعض العضلات في البط ونحوه، وذلك لأجل تعرفه مذاهب ألياف العضل.
وأما انتفاع الطبيب بهذا الفن في الاستدلال، فذلك قد يكون لأجل سابق النظر، وقد يكون لغير ذلك، أما الأول: فكما إذا احتاج الطبيب إلى قطع عضو، فإنه إن كان عالمًا بالتشريح تمكَّن حينئذ من معرفة ما يلزم ذلك القطع من الضرر الواقع في أفعال الشخص فيُنذِر بذلك، فلا يكون عليه بعد وقوع ذلك الضرر لائمة، وأما الثاني: فكما إذا كان يستدل به على أحوال الأمراض] اهـ.

حكم تشريح المرأة الحامل التي ماتت لإنقاذ مولودها الحي من بطنها

قد قرر جمهور الفقهاء من الحنفيَّة وبعض المالكيَّة والشافعية وهو المتجه عند الحنابلة على الجملة مشروعية تشريح المرأة الحامل التي ماتت لإنقاذ مولودها الحي من بطنها.

قال العلامة أبو الليث السمرقندي الحنفي في "عيون المسائل" (ص: 384، ط. مطبعة أسعد، بغداد): [سئل محمد عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد حي، قَالَ: يشق بطنها. ثم روى عن أبي حنيفة أنه أمر بشق بطن جارية ماتت وهي حامل فشق فخرج حيًّا وعاش] اهــ.

وقال العلامة علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (5/ 130، ط. دار الكتب العلمية): [حامل ماتت فاضطرب في بطنها ولد، فإن كان في أكبر الرأي أنه حي يشق بطنها؛ لأنا ابتلينا ببليتين، فنختار أهونهما؛ وشق بطن الأم الميتة أهون من إهلاك الولد الحي] اهـ.

وقال القاضي عياض المالكي في "التنبيهات المستنبطة" (1/ 298، ط. دار ابن حزم، بيروت): [وقوله: "يُبقر عن الميتة"، بباء بواحدة، أي يكشف عن جنينها بشق بطنها. والبقْر: الشق. وفي آخر الباب قال سحنون وسمعت أن الجنين إذا استوقن بحياته، وكان معقولًا معروف الحياة فلا بأس أن يبقر بطنها ويستخرج الولد منها] اهـ.

وقال العلامة أبو العباس الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 578، ط. دار المعارف): [ولا يشق بطن المرأة عن جنين ولو رجي حياته على المعتمد؛ لأن سلامته مشكوكة، فلا تنتهك حرمتها له، ولكن لا تدفن حتى يتحقق موته ولو تغيرت. وأما جنين غير الآدمي فإنه يبقر عنه إذا رجي حياته قولًا واحدًا. وهناك قول ضعيف يقول: بالبقر في جنين الآدمي أيضًا. وعليه: يشق عليه من خاصرتها اليسرى إن كان الحمل أنثى، ومن اليمنى إن كان الحمل ذكرًا، واتفقوا على أنه إن أمكن إخراجه بحيلة غير الشق وجب] اهـ.

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 452، ط. دار القلم، دمشق): [وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت] اهـ.

وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (2/ 143، ط. المكتب الإسلامي، بيروت): [ولو ماتت امرأة في جوفها جنين حي، قال أصحابنا: إن كان يرجى حياته، شق جوفها وأخرج ثم دفنت، وإلا فثلاثة أوجه. الصحيح: لا يشق جوفها، بل يترك حتى يموت الجنين ثم تدفن. والثاني: يشق. والثالث: يوضع عليه شيء ليموت ثم تدفن، وهذا غلط وإن كان قد حكاه جماعة، وإنما ذكرته لأبين بطلانه] اهـ.

وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "تصحيح الفروع" (3/ 394، ط. مؤسسة الرسالة): [قوله: "وإن ماتت امرأة حامل حرم شق جوفها، نص عليه، فإن احتملت حياته أدخل النساء أيديهن في فرجها فأخرجنه، فإن تعذر فاختار ابن هبيرة: يشق ويخرج، والمذهب: لا، فعنه يفعل ذلك الرجال، والمحارم أولى، اختاره أبو بكر وصاحب المحرر. كمداواة الحي، والأشهر: لا. انتهى". الأشهر هو الصحيح من المذهب، أعني، وإنما يفعل ذلك النساء لا غير، اختاره القاضي وصاحب المغني، والتلخيص والشرح وغيرهم. وقدمه في الرعايتين والحاويين وغيرهم. والرواية الثانية: اختارها أبو بكر والمجد وغيرهما، وأطلقهما ابن تميم] اهـ.

حكم شق البطن لإخراج ما ابتلعه الميت من مال قبل وفاته

أجاز جمهور الفقهاء على الجملة شق البطن لإخراج ما يكون قد ابتلعه الميت من مال قبل وفاته.

قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 239، ط. دار الفكر، بيروت): [(قوله: ولو بلع مال غيره) أي ولا مال له كما في الفتح وشرح المنية، ومفهومه أنه لو ترك مالًا يضمن ما بلعه لا يشق اتفاقًا. (قوله: والأولى نعم) لأنه وإن كان حرمة الآدمي أعلى من صيانة المال، لكنه أزال احترامه بتعديه كما في الفتح، ومفاده أنه: لو سقط في جوفه بلا تعد لا يشق اتفاقًا، كما لا يشق الحي مطلقًا؛ لإفضائه إلى الهلاك لا لمجرد الاحترام] اهـ.

وقال الإمام الخرشي في "شرحه" (2/ 145، ط. دار الفكر، بيروت) على قول العلامة خليل: [(وبَقْرٌ عن مالٍ كَثُر) البَقْر: عبارة عن شق جوف الميت، يعني أن من ابتلع مالًا له أو لغيره ثم مات فإنه يشق جوفه فيخرج منه إن كان له قَدْرٌ وَبَالٌ بأن يكون نِصابًا] اهـ.

وقال الإمام ابن الرِّفْعة الشافعي في "كفاية النبيه" (5/ 159، ط. دار الكتب العلمية): [وإن بلع الميت مالًا لغيره؛ أي: وطالب به صاحبه شق جوفه وأخرج؛ صيانة لحق الغير عن الضياع، ويخالف ما لو لم يمت؛ فإنه لا يشق جوفه؛ لأن ذلك يذهب روحه بغير بدل، وللمال المبلوع بدل يرجع إليه في الحال، وفي "التتمة" وجه جزم به القاضي الحسين، أنه لا يشق جوفه بعد الموت أيضًا؛ لقوله عليه السلام: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ؛ كَكَسْرِهِ حَيًّا» أخرجه أبو داود وابن ماجه. وقال الرافعي: إن هذا الوجه للقاضي أبي الطيب، وإنه يجب الغرم من تركته على الورثة، وإن في "العدة": أن الورثة إذا ضمنوا مثله أو قيمته فلا يخرج، ولا يرد على أصح الوجهين. أما إذا ابتلع الميت مال نفسه -وقلنا: يشق جوفه لأجل مال الغير- فهل يشق جوفه ويخرج؟ فيه وجهان مشهوران: أصحهما عند أبي العباس الجرجاني والعبدري: نعم؛ لأنه صار للورثة، فهو كمال الأجنبي. والثاني: وهو الأصح عند الشيخ أبي حامد والماوردي والقاضي أبي الطيب في "المجرد"، وبه أجاب في "المقنع" كما قال في "الروضة": لا؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الورثة] اهـ.

وقال الإمام ابن قُدَامة في "الشرح الكبير" (2/ 415، ط. دار الكتاب العربي): [(وإن كفن بثوب غصب أو بلع مال غيره غرم ذلك من تركته، وقيل ينبش ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج) إذا بلع الميت ما لا يحل من أن يكون له أو لغيره، فإن كان له لم يشق بطنه لأنه استهلكه في حياته، ويحتمل أنه إن كان كثير القيمة شق بطنه وأخرج لأن فيه حفظ المال عن الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله في مرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله؛ لأن صاحبه أذن في إتلافه. وإن ابتلعه غصبًا ففيه وجهان: أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من تركته؛ لما في ذلك من المثلة، ولأنه إذا لم يشق بطن الحامل من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى. والثاني: يشق إن كثرت قيمته؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم] اهـ.

التوفيق بين جواز التشريح وحديث حرمة الميت كحرمة الحي

إن الضرر الذي يلحق بالعامة إذا لم يحصل على الجثث لتشريحها أشد من الضرر الذي يلحق بالمتوفى الذي يُستولى على جثته لتشريحها، وذلك لأن إباحة تشريح جثة الإنسان بعد وفاته اقتضتها أغراض التعليم لعلوم الطب تعلمًا وتعليمًا حيث يناط -على سبيل الوجوب- بالدارسين لتلك العلوم التعرف على تركيب الجسم ويقف على وصف أعضائه وأقسامها ووظائف كلٍّ بصورة واقعية ودقيقة، فضلًا عن التدريب العملي على عمليات الجراحة واستعمال أدواتها ومراعاة ضوابطها مما يُثْقِل مهارته الطبية في إجراء مختلف العمليات الجراحية للأحياء ببراعة وإتقان.
كما أن ذلك يساهم في تقدم علوم الطب والأدوية من خلال استكشاف الأمراض غير المعروفة التي يكشف عنها تشريح الجثة بعد الوفاة والوقوف على الأسباب الحقيقية لها مقارنة مع الأعراض التي ظهرت على المريض والتشخيص الموصوف له قبل الوفاة، فضلًا عن مساعدة القضاء في معرفة الأسباب الحقيقية للوفاة ومعرفة ملابساتها في الحالات القضائية.

وعلى ذلك: فيدخل التشريح ضمن الحاجات التي تمس إليها المصلحة العامة للناس؛ إحياءً لنفوسهم وعلاجًا لأمراضهم ولمعرفة أسباب الحوادث التي تقع عليهم، وقد تقرر في القواعد الأصولية "إيجاب ما يتوقف عليه أداء الواجب"، ومن ثمَّ فإذا أوجب الشارع شيئًا تضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشيء.

ولا ينافي هذا ما قرَّره الشرع الشريف من أن حرمة الميت كحرمة الحي كما يدل عموم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» رواه أبو داود، قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 144، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [هذا كلام عام يراد به الخصوص؛ لإجماعهم على أن كسر عظم الميت لا دية فيه ولا قَوَد، فعلمنا أن المعنى ككسره حيًّا في الإثم، لا في القَوَد ولا الدية؛ لإجماع العلماء على ما ذكرت لك] اهـ.
وذلك لأن الحديث الشريف يقرر أن للميت حرمة كحرمة الحي فلا يتعدى عليه بكسر عظم أو شق بطن أو غير ذلك، هذا من حيث الأصل، لكن يستثنى منه ما كان لمصلحة راجحة أو حاجة ماسة، والمصلحة هنا تكون حفظ كُلِّيٍّ من أهم الكليات الخمسة الضرورية التي ورد الشرع بحفظها، وهو النفس؛ قال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة] اهـ.
وكثير من العلماء في ترتيبهم للمقاصد قد جعلوا حفظ النفس هو المقدم على الأربعة الباقية؛ كالأئمة: الرازي، والقرافي، والبيضاوي. "انظر: "المحصول" للإمام الرازي (5/ 160، 458، ط. مؤسسة الرسالة)، "شرح تنقيح الفصول" للإمام القرافي (ص: 304، ط. دار الفكر)، "منهاج الوصول" للإمام البيضاوي (ص: 59، ط. مطبعة السعادة بمصر).
وهذا الترتيب يستقيم بناءً على تفسير الدِّين بما يُقابِل الإسلام بتمامه؛ كفروع الدِّين والشعائر ونحوها، وتقديم النَّفس مبرره: أن بها تحصل العبادات، وليس المقصود بالدين هنا هو الإسلام، بل الإسلام في هذا الاصطلاح أعم من الدين بذلك المفهوم، ويدل عليه موقف عَمَّار مع المشركين، وِإذْن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن ينطق بكلمة الكفر حفاظًا على النفس: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]. انظر: "المدخل" للأستاذ الدكتور علي جمعة (ص: 126، ط. المعهد العالمي للفكر الإسلامي).

وكذلك فإن قواعد الشرع الأخرى تدعم ذلك وتدل عليه؛ من نحو: قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة "ما أُبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها"، وقاعدة "الضرر يزال"، وقاعدة "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وقاعدة "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، وقاعدة "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما"، وقاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح". "انظر: "المنثور في القواعد" للإمام الزركشي (2/ 317-320، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)، "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 84-87، ط. دار الكتب العلمية)، "شرح القواعد الفقهية" للشيخ أحمد الزرقا (ص: 179-197، ط. دار القلم).
وقد تقرر في الشريعة الإسلامية أن حق الحي مقدم على حق الميت إذا تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما؛ لأن الحي أهم، والأهم مقدم على المهم، وقد وردت تطبيقات لهذا الأصل في كلام الفقهاء، وهو مرتبط بموضوع السؤال كما قدمنا سابقًا.
ومما يشهد لذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها دخلت على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: "أرجو فيما بيني وبين الليل -يعني: أتوقع أن تكون موتتي فيما بين ساعتي هذه وبين الليل-، فنظر إلى ثوب عليه كان يُمَرَّض فيه به رَدعٌ مِن زعفران -يعني: أثر-، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها، قلت: إن هذا خَلَق -يعني: قديم بال-، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمُهلة -يعني الصديد الذي يخرج من جثة المتوفى بعد موته-، فلم يُتَوَفَّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح".

شروط وضوابط جواز تشريح جثة الميت

استقرت دار الإفتاء المصرية على ذلك ودرجت عليه في فتاواها بداية من فضيلة المرحوم الشيخ/ عبد المجيد سليم في فتواه رقم 217 الصادرة بتاريخ 31 من أكتوبر سنة 1937م، إلى فضيلة الأستاذ الدكتور/ نصر فريد واصــل في فتواه رقم 852 لسنة 1997م.
وهناك فتاوى أخرى صدرت عن علماء فضلاء وعن مجامع فقهية في بعض البلاد الإسلامية ويضيق المجال عن ذكرها.
وما ذهبنا إليه في جواز التشريح يشترط فيه عدة شروط، منها:

1- على أهل الاختصاص في مجال الطب والتشريح البحث عن قوالب ونماذج جديدة تحاكي بدن الميت وأعضاءه، وتوفير هذه النماذج واستخدامها ما أمكن.

2- يجب أن يكونَ ذلك في حدود الضرورة القصوى التي يقدرها الأطباء الثقات بمعنى أنه إذا كانت جثة واحدة تكفي لتعليم الطلاب، فلا يصح أن يتعدى ذلك إلى جثة أخرى.

3- أن يكون صاحب الجثة قد تحقق موته موتًا شرعيًّا وذلك بالمفارقة التامة للحياة، أي موتًا كُلِّيًّا، وهو الذي تتوقف جميع أجهزة الجسم فيه عن العمل توقُّفًا تامًّا تستحيل معه العودة للحياة مرة أخرى بشهادة ثلاثة من أهل الخبرة العدول الذين يخول إليهم التعرف على حدوث الموت بحيث يسمح بدفنه وتكون مكتوبة وموقعة منهم، ولا عبرة بالموت الإكلينيكي أو ما يعرف بموت جذع المخ أو الدماغ؛ لأنه لا يعد موتًا شرعًا؛ لبقاء بعض أجهزة الجسم حية؛ وذلك لاختلاف أهل الاختصاص الطبي في اعتباره موتًا حقيقيًّا كاملًا؛ لأن اليقين لا يزول بالشك؛ وإلا كان بمثابة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.

4- أن يكون ذلك بعيدًا عن البيع والشراء والتجارة بأي حال وبدون مقابل مادي مطلقًا.

5- ضرورة مراعاة صيانة جسد الميت المراد تشريحه، ووضع الإجراءات الصارمة التي تضمن سد باب الإهانات والفظائع التي تتعرض لها أجساد الموتى من نبش وبيع وشراء ومساومة وتكسير ونقل أجزاء من المشرحة إلى منازل الطلاب، لمعارضته مع تكريم الشرائع السماوية للإنسان حيًّا وميتًا.

6- أن تتم عملية التشريح في مكان متخصص معتمد من الدولة ومرخص له بذلك مباشرة.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فتشريح جسد الإنسان بعد وفاته سواء كان ذلك لصالح مصلحة الطب الشرعي أو لصالح العملية التعليمية بكليات الطب جائزٌ شرعًا إذا ما روعيت الشروط الشرعيَّة المذكورة سابقًا، وكذا الإجراءات المنظِّمة لهذا الأمر طبيًّا، والتي تضمن ابتعاد هذه العملية من نطاق التلاعب بالإنسان الذي كرَّمه الله ولا تجعله عرضة للامتهان، أو تحولـه إلى قطع غيار تباع وتشترى، بل يكون المقصد منها: التعاون على البر والتقوى وتخفيف آلام البشر مع مراعاة أن يكونَ ذلك في ظروف تليق بالكرامة الإنسانية.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

فتاوى ذات صلة